انهيار الثقافة أم ثقافة الانهيار
محمود صالح | فلسطين المحتلة
إنّ الفكر العـربيّ قائمٌ على شـهوة تدمير الآخـر ، من هنا تسعى الثقافة السلطوية إلى تنعيج المثقفين وتدجينهم وقطعنتهم والتسلُّط عليهم ، حتّى وإن كانت معارضة هؤلاء المثقفين تعبيرًا عن ولاء نقديّ ، يرفد تيّار الحياة ، ويدفع بكلّ النوايا المتردّدة إلى الأمام نحو عـبور تجـربة التغيير في محطّات التردّد التاريخي في البلاد . فإنّ السلطة تعتبر أنّ عليها أن تفترس كلّ شيء وإلا كانت مرتدّة .
وعلى الكاتب في الوطن العربيّ أن يُؤمن بنظام الرهبنة ، فيبدأ تابعًا ، ثمّ يصير مُريدًا ، ثمّ يترهّب ليرهب ، ثمّ يجد نفسه مُعمّدًا كاتبًا يُشهر سيف السلطة في وجه المعارضين .
لقد استكان الشعر لمصلحة الشّعار، والحكمة لمصلحة الحكومة، ورحاب الفكر لمصلحة التسييس، وانحنى الإبداع أمام الإعلام ، إنّه شعار الثقافة السّلطوية: ” أفضل المثقفين هو المثقف الميّت ” .
إنّه عصر يتّسم بالقمع والاستلاب، لذلك لا تتحطّم الأنساق الاجتماعية لدى الكاتب فحسب بل تتحطّم معاييره الداخلية، أنواع الحلم فيه، أنماط الفعل لديه
وإذا كان جدل القمع والخنوع والثأر هو جدلٌ سلبيّ المحصّلة، وجدل القمع والنضال من أجل الحقّ والحريّة جدلٌ إيجابيّ المحصّلة، فإنّ ما يُمارس اليوم على المثقف هو القمع والخنوع ليس إلا، دون منحه فرصةً للثأر أو التفكير بالنضال. إنها شريعة “الساموراي” (لا تُفكّر فالتفكير يصنع الجبناء ) .
ساحتنا الشعرية تقودها المصالح والمطامع الطحلبية، وفي ظل اتساع دائرة الشعبوية الشعرية تنداح فقّاعات التلميع الكاذب والادّعاءات الهشّة التي تُعلّب أشباه الشعراء وتصدّرهم بضاعةً رائجة وفاكهةً طازجة .
إنّه زمن الفساد والمحسوبية والشلليّة حيث الزبد يتصدّر المشهد الشعري بينما اللآلئ الشعرية تبقى حبيسة القاع مُقيّدة بسلاسل التهميش والتخميش .
لشعراء الصحافة صفحاتهم الغرّاء!! ، ولشعراء ” النت ” متصفّحاتهم التي تسمو بنا إلى العلياء!! وللإذاعة والشاشات المرئية والعمياء شُعراؤها النّجباااء !! الجميع وللأسف الشديد يتآمر على هالة الشعر ويحتار كيف بطعن قامته الطعنة النجلاء !!!
لم نعد نتنفّس هـواءً نقيًّا من رئـة الشعر في ظلّ التلوّث البيئي لجسـد القصيدة ، فالتشوّه المجّانيّ أصاب خَلق الشعر وخُلقه، فنحن في زمن الهرطقة الشعرية حيث تتجلّى الروعة والإبداع في غناء فنّانة عارية للقصائد العصماء !!
في عصر الرماد والاحتلال والانحلال وأشباه الشعراء نفتقد الشعلة ونتوق إلى حرائق الشعر التي تُحيي روح الإبداع بعد أن ضُربَ جهاز مناعتها طويلا .
في ميدان الكلمة، علينا أن نخوض المعارك الضروس ضدّ التفلّت والتسيّب والتفاهة والتسطيح ، تلك لعمري مقاومة لا تقلّ ضراوةً عن مقاومة أهلنا المقاومين في الأرض المقدّسة
ثقافتنا ثقافة الهيمنة والتسلّط والاستبداد، لقد انتقلت رسائل الرصاص وهدايا الألغام من السياسة إلى الثقافة وانتقل المثقّف الدكتاتور إلى محراب الكلمة مُستخدما كاتم الصوت لاغتيال روح الإبداع والتسامح عبر تكميم الأفواه وطمس الآراء المعارضة بمقص نرجسيّته ليُشعرنا بتفوّقه العرقيّ في ميدان الثقافة .
أغلب المثقفين مع الأسف الشّديد يرمون في سلّة المهملات ضميرهم النقديّ ويبتعدون عن كلّ ما هو سماويّ مُتوّجين أنفسهم بأوهام القداسة وخرافتها الجوفاء .
لطالما انتقدوا الدكتاتوريّة ولكنهم مارسوها بأبشع صورها فصفّق لهم السذّج من المثقفين الذين امتهنوا التبعيّة وارتهنوا لصولجان المثقّف الدوغمائي ولنظرته الاستعلائية وانعزاليّته المنزّهة عن النقد .
إنه الزمن الدخيل حيث التنكّر للقيم السامية التي نبتت في تربتنا الأصيلة، فليس قدرنا الطاعة العمياء وليس قدرنا أن نختار بين طاعون دكتاتورية الرأي الواحد وكورونا ديمقراطية الآراء الشوهاء !
ذاك والله زمن الرُّوَيْبضة والمتفَيْقهين والمتشدّقين، (إنّ ما يجعل المثقف دكتاتورًا هو الغفلة عن نقده، وكل غفلة تزرع جينات الدكتاتورية الفاسدة ) .
في بلادي لن تشهدَ تكريمًا لناقد، لن ترى تمثالًا لناقد ، ذاك أنّنا نخشى النقد حتى من الأموات …