لا أبجدية تأملات في قصيدة لغة العيون للشاعرة جمانة الطراونة

بقلم: الناقد/ ناظم ناصر القريشي
أمّا قبل: القصيدة
لغة العيون
جمانة الطراونة
لُغةُ العيونِ حديثُنا المتواصلُ
طيّرْ حمامَكَ إنّ قلبيَ زاجلُ
بالحبّ نبتكرُ البلادَ حدائقاً
فالعاشقونَ المُتعبونَ جداولُ
لكنَّ عنديْ للوصالِ طريقة
أرقى فصمتُ المُغرمينَ رسائلُ
فأنا على العهدِ القديمِ طريقتي
ولِمَنْ سوايَ مِنَ النساءِ بدائلُ
فمع الجنونِ، مع الجنون وعندما
وقَعَ الخيارُ سَمَىَ الحبيبُ العاقلُ
لو أدركَ العشّاقُ لم يتذمّروا
أنّ الحياءَ المستفيضَ حبائِلُ
أنّ الطهارةَ حين تفرضُ نفسَها
عشٌ ورباتُ الخدورِ بلابلُ
فالعشقُ لو صدقَ الفؤادُ مجرَّةٌ
فيها لأربابِ الغرامِ منازلُ
سرَّحتُ أشواقي العِذابَ فطالما
أيقنتُ أنَّ الأمنياتِ جدائلُ
حتّى عَنِ المرآةِ أسترُ خُصلتي
وضفائري فالشالُ قاضٍ عادلُ
بالمريميَّةِ كانَ يدعوني أبي
وأبي- فَدَيتُ أبي- حديثٌ فاصلُ
لُفي حجابَكِ يا أميرةَ أهْلِها
غير البناتِ فإنّ جدَّكِ وائلُ

أمّا بعد: القراءة النقدية
حين تفتح جمانة الطراونة أبواب هذا النص، لا تكتبه بالحبر، بل تنسجه من نبض العيون وصمت النظرات؛ فهذه قصيدة لا يُقال فيها الحب، بل يُرى ويُحسّ.تنبض الشاعرة بنقاء رؤيتها الأنثوية الأصيلة، معلنة أن الشعر لا يُكتب بالحروف وحدها، بل يُعاش بالوجدان، ويُرتَّل بلغة لا أبجدية لها.. لغة العيون” ليست أبياتاً بلاغية، بل مشهد داخلي تتداخل فيه الرقة بالطهر، والجنون بالحكمة، وهكذا تبدأ القصيدة كهمسة، ثم تتحول إلى مرآةٍ تعكس أنوثةً تفهم الصمت وتتكلم به.
اللغة المتحركة: حين تتكلم المعاني
في قصيدة “لغة العيون”، لا تكتفي جمانة الطراونة بكتابة المعنى، بل تُطلقه في حركةٍ مستمرة، فتبدو الكلمات ككائنات حيّة تنبض، وتتحوّل، وتُشعّ بالمجاز. اللغة هنا ليست جامدة، بل ديناميكية تُحاكي المشاعر وتنقل القارئ من حالة شعورية إلى أخرى كما لو كان يُبحر في نهر من العاطفة الصافية.
أولاً: الحركة من خلال الأفعال والصور
منذ البيت الأول:”طيّرْ حمامَكَ إنّ قلبيَ زاجلُ” نجد فعل “طيّر” يمنح النص دفعة ديناميكية. هنا، لا تتحدث الطراونة عن مشاعر راكدة، بل تُشبه الحب بحمام زاجل في حركة مستمرة نحو الآخر، تنقل الأشواق وتُبقي الحوار العاطفي حياً رغم الصمت. ثم تقول:”نبتكرُ البلادَ حدائقاً”
فعل “نبتكر” يُحوّل العلاقة إلى فعل خلاق، لا مجرد انفعال. فالمحبون، رغم تعبهم، يصنعون الجمال؛ الحركة هنا ليست فقط جسدية بل روحية وخيالية.
ثانيًا: الصمت كحركة داخلية
“أرقى فصمتُ المُغرمينَ رسائلُ”
اللغة المتحركة هنا تأخذ شكلاً غير مباشر: الصمت نفسه يتحول إلى حركة داخل النفس، إلى “رسائل” تُتداول بين العيون والقلوب. هذا التناقض بين الهدوء الظاهري والعمق الداخلي يخلق توتراً شعرياً بديعاً.
ثالثاً: الانسياب العاطفي ومرونة الانتقال
القصيدة تسير بانسياب بين حالات وجدانية: من الحب، للوفاء، للحياء، للهوية، دون فواصل حادة. هذه الحركة الشعورية المتدرجة تجعل اللغة كأنها تيار مائي، يحمل القارئ بلطف بين الصور والمواقف دون أن يشعر بالانتقال.
الشفرة الإبداعية: حين يُخفي الشعر أكثر مما يقول في قصيدة “لغة العيون”، تنسج جمانة الطراونة خيوطاً شعرية مشفّرة، لا تُفكّ إلا بمفتاح التأمل العميق. ليست القصيدة خطاباً لغوياً مباشراً، بل مشفّر بالرموز، مشبع بالأنوثة، منسوج من خيوط الهوية والحياء والحب الصامت.هي قصيدة تكتب بلغة فوق لغوية، حيث كل بيت يحمل رسالة خفية لا تفتح إلا بالبصيرة، وكل صورة تفتح باب تأويل يتجاوز ظاهرها.
.1العيون: الشيفرة الأولى
العنوان ذاته مفتاح الدخول“: لغة العيون حديثُنا المتواصلُ” العيون في هذا النص لا تنظر فقط، بل تتكلم. هي لغة لا يُتقنها إلا من فهم أن الحب أحياناً لا يُقال، بل يُرى. فالتواصل هنا ليس بالكلمات، بل بالنظرات التي تهمس ببلاغة تفوق أي صوت.
.2الرموز الأنثوية: لغة صامتة تتحرك وتُؤنسن
في “لغة العيون”، لا تأتي التفاصيل الأنثوية لتزيّن، بل لتُترجم حضوراً داخلياً. رموز مثل “الجدائل، الضفائر، الشال، المرآة، الحجاب” ليست مجرد مفردات، بل شفرات أنثوية تشير إلى الحياء، الخصوصية، والأنوثة العاقلة الرفيعة. تقول: “حتى عن المرآة أسترُ خصلتي / وضفائري فالشالُ قاضٍ عادلُ” — هنا، تُحرّك الشاعرة الرموز لتتكلم نيابة عن القلب. فالشال لا يغطي فقط، بل يحكم. والجدائل ليست زينة، بل أحلام تُسرّح. كل عنصر أنثوي هنا لا يوصف فقط، بل يُجسّد شعوراً، ويتحوّل إلى نبض خافت يهمس ببلاغة أنثوية لا تحتاج إلى صوت.
.3الحنين: وفاء للثابت في زمن السيولة
“فأنا على العهدِ القديمِ طريقتي / ولِمَنْ سوايَ مِنَ النساءِ بدائلُ” في زمن تتبدّل فيه المواقف، تُصر الطراونة على أن تبقى الأنوثة وفية لنقائها الأول، لا تساوم على ثباتها العاطفي.الطراونة تُعلن موقفها من موجات الحداثة المنفلتة، مُتمسكة بـ “العهد القديم” لا باعتباره ماضٍ تقليدي، بل أصلًا عاطفيًا نقيًا لا يُستبدل
.4الأب: الحضور الأخلاقي المؤسس
“بالمريميةِ كانَ يدعوني أبي / وأبي – فديتُ أبي – حديثٌ فاصلُ” استدعاء الأب في القصيدة ليس عاطفياً فحسب، بل هو عودة إلى جذر القيم “حديثٌ فاصل” تعني أن صوته كان الفصل بين الحب والانزلاق، بين الحنان والحد. الأب هنا شيفرة الثبات والمرجعية.
.5الأمنيات المشفّرة في الشعر
“سرّحتُ أشواقي العذابَ فطالما / أيقنتُ أن الأمنياتِ جدائلُ” حتى الأمنيات تتحول في هذا النص إلى شعر، إلى جدائل تُسرّح، تحمل أشواقاً لا تُقال، بل تُنسج في خيوط من التمنّي العفيف.
ثلاثية الرؤية: قراءة تشكيلية، موسيقية، وسينمائية لقصيدة “لغة العيون”
حين نقرأ قصيدة “لغة العيون” لجمانة الطراونة بعيون الفن، تتجلّى أمامنا لا كنص لغوي فحسب، بل كـ عمل فني متعدّد الوسائط، ينبض بالألوان، ويرنّم بالأصوات، ويتراءى كمشهد سينمائي مكتمل التفاصيل. القصيدة هنا تتجاوز حدود الورق، وتتحول إلى حالة حسية شاملة تخاطب البصر، والسمع، والوجدان معاً.
أولاً: القراءة التشكيلية
القصيدة تشبه لوحة فنية تمزج بين ألوان العاطفة، وخطوط الهوية، وتفاصيل الأنوثة النقية:
• العيون، الجدائل، الحجاب، الشال: كلها عناصر بصرية يمكن تخيلها مرسومة بألوان ناعمة، تبرز الأنوثة في حالة تأمل وحلم.
• البيوت التي تصنعها الطراونة في أبياتها تشبه لوحات رومانسية رمزية، حيث الجمال متوارٍ خلف ستار، والنقاء يعبر عنه من خلال الأشكال المستترة لا المكشوفة.
• الضوء والظل واضحان: هناك مناطق مضيئة (الأمنيات، العشق، الجدائل)، ومناطق غامضة (الصمت، الخجل، التأمل)، وهذا ما يضفي على النص طابعاً تشكيلياً ثرياً، كلوحة فيها طبقات متداخلة.
ثانياً: القراءة الموسيقية
القصيدة تتدفق كـمقطوعة موسيقية هادئة، حيث الإيقاع ناعم، لكنه متماسك، يترك أثراً نفسياً عميقاً:
• وقد كُتبت القصيدة على بحر الكامل، وهو بحر يتّسم بتوازن إيقاعي يناسب التدرّج العاطفي، ويُعرف بقدرته على احتواء الانفعالات الشعورية الكبرى.
• التكرار الموسيقي الداخلي (مثل تكرار: الحياء، الجدائل، الشوق، الأمنيات) يُضفي لحناً داخلياً يعيد تدوير الفكرة في ذهن السامع.
• الصمت في بعض الأبيات يُعادل “البيات الموسيقي”، أي لحظة السكون في المعزوفة، وهو سكون يحمل توتراً عاطفياً.
البيت:”أرقى فصمتُ المُغرمينَ رسائلُ” هو “pause” موسيقي بامتياز، يترك القارئ في هدوء معلق قبل التحوّل التالي.
ثالثاً: القراءة السينمائية
القصيدة قابلة للتحويل إلى مشهد سينمائي شعري، حيث الصورة، الحركة، الإضاءة، والديكور كلها واضحة في ذهن القارئ:
• اللقطة الأولى: عيون تتقابل في صمت… خلف نافذة، أو في حديقة صامتة… مع طيور زاجلة تطير في السماء.
• اللقطة المتوسطة: مشاهد ضفائر تُسرّح، وفتاة أمام المرآة تُخفي شعرها تحت الشال… مع موسيقى خلفية هادئة.
• اللقطة الرمزية: يد الأب تلمس رأس ابنته، يسميها “المريمية”، وتغيب الصورة في ضوء ذهبي هادئ.
• الإضاءة والمونتاج في هذه القصيدة يعكسان أجواء داخلية ناعمة: ضوء ذهبي خافت ينساب بين مشاهد الحنين والتأمل، متنقلاً بلطافة بين زمنين، كما في لقطات فيلم شعري.
خاتمة:
ليست ‘لغة العيون’ قصيدة تُقرأ وتُنسى، بل طقس وجداني يُمارس كلما احتاج القلب أن يتذكّر كيف يُقال الحب دون أن يُقال. إنها صلاة صامتة تُصلى بنظرة، وتُحفظ في الذاكرة كسرٍ لا يُفشى، فهي تجسّد تجربة شعرية تتجاوز الأبجدية، تكتبها جمانة الطراونة بأسلوب شفيف وصور باذخة، تاركة بصمتها في وجدان القارئ، ومؤكدة أن الشعر ما زال قادراً على أن يكون رسالة ورؤية ووقاراً. فهي لا تكتب الشعر، بل تعيشه كما يُمارس الفن: ترسمه بالخيال، تغنيه بالصمت، تُخرِجه مشهداً يُعاش بالحسّ، ويُترجم ببصيرة القلب قبل منطق الحروف.


