من إشكاليات الترجمة الدينية.. تعدد الإحالات، واتخاذ القرارات (18)
أ.د. عنتر صلحي | أستاذ الترجمة واللغويات – جامعة جنوب الوادي – مصر
يكثر في القرآن الكريم وجود ضمائر متصلة قد يسهل فهم العائد antecedent فيها من خلال السياق، وقد يصعب ذلك أحيانا. والقارئ العربي يعتمد بشكل كبير على حصيلته اللغوية repertoire في محاولة معرفة العوائد المختلفة للضمائر المختلفةco-reference . وهذا الفهم الأولي يعين على فهم النص كاملا في الآية.المشكلة الحقيقة هي عندما تكون هذه الحصيلة اللغوية مضللة، وتعطي معاني غير مقصودة، وكذلك عندما يحتمل الضمير أكثر من عائد. ولنضرب أمثلة للحالات الثلاث:
أولا: سهولة معرفة عود الضمير دون الرجوع للتفاسير بالاعتماد على السليقة فقط مهما كان التركيب معقدا:
وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ (137: الانعام)
فالآية هنا رغم أن بها تقديماً وتأخيراً واضحين، فالفعل (زين) أتى بعده جار ومجرور (لكثير من المشركين) ثم أتى المفعول (قتل أولادهم) وفي الأخير أتى الفاعل (شركاؤهم) – أقول رغم تعقيد هذا التركيب إلا أنه من السهل فهم من فعل ماذا، والعلاقات بين الألفاظ في الآية، وبالتالي الترجمة لكن تكون معضلة:
In the eyes of most of the pagans, their “partners” made alluring the slaughter of their children
To many of the polytheists their partners have made [to seem] pleasing the killing of their children
ثانيا: صعوبة فهم عود الضمير دون الرجوع للتفاسير رغم سهولة التركيب:
مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) سورة الحج.
فالتركيب هنا بسيط، وعندنا كلمة (ينصره) بها ضمير الهاء، والمعرفة اللغوية المباشرة تخبرنا أن فاعل (يظن) هو نفسه الضمير في ينصره، وهو نفسه في (فليمدد) و(ليقطع) و (لينظر) و(كيده). ويكون المعنى بناء على ذلك : من كان – من المؤمنين – يظن أن الله لا ينصره، فليفعل ما ذكر في الآية)… والحقيقة أن هذا غير صحيح.
والصحيح هو أن الضمير في (ينصره) يعود على النبي صلى الله عليه وسلم… والمعنى هو : من كان – من المكذبين- يظن أن الله لا ينصر نبيه في الدنيا والآخرة، فليربط حبلا (سببا) إلى سقف بيته (السماء هنا يعني السقف وليس السماء المعروفة) ثم يشنق – هذا المكذب- نفسه، علّه بفعله هذا يذهب ببعض الغيظ الموجود في صدره، والمعنى هو أن الله ناصر رسوله ﷺ مهما فعل المشركون.
فانظر الآن هذه الآية، التي يغير فيها عود الضمير المعاني كلها.
Shaih International: Whoever should think that Allah will not support[Prophet Muhammad] in this world and the Hereafter – let him extend arope to the ceiling, then cut off [his breath], and let him see: willhis effort remove that which enrages [him]?
لذلك فكل الترجمات التي ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم بين قوسين، قد أوضحت المعنى. أما من لم يذكر هذا العائد، أبقى على المعنى ملتبسا، كما في ترجمة أربري:
Arberry: Whosoever thinks God will not help him in the present world andthe world to come; let him stretch up a rope to heaven, then let himsever it, and behold whether his guile does away with what enrages him.
ثالثا: المشكلة الحقيقة هي إمكانية أن يعود الضمير على أكثر من شخص، واللغة تسمح بذلك والتفاسير لا تعترض، هنا تكون ورطة المترجم dilemma لأن عليه اتخاذ قرار باختيار ما يظنه مناسبا لعود الضمير. فالحقيقة أن للمترجم مقدرة لغوية linguistic competence يعتمد عليها في التعبير، ومقدرة تواصلية communicative competence يعتمد عليها في تبسيط المعاني وسهولة توصيلها، لكن لابد له كذلك من مقدرة استراتيجية strategic competence يبني عليها اتخاذه للقرار.
والمثال هنا من قوله تعالى: وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) النساء
ولندرك إشكالية ترجمة معاني هذه الآية، نبحث في كل الضمائر الموجودة:
ليؤمنن (الضمير مستتر) به (الهاء)، موته (الهاء)، يكون (مستتر)
وحسب سياق الآيات السابقة التي تتحدث عن سيدنا عيسى عليه السلام، نفهم أنه ليس أحد من أهل الكتاب إلا سيؤمن به (سيدنا عيسى) قبل موته (سيدنا عيسى) ثم يوم القيامة يكون (سيدنا عيسى) عليهم شهيدا.
الأمر بسيط إذن. الحقيقة أن هناك قراءة أخرى لمعنى الآية/ تكون هكذا:
ليس أحد من أهل الكتاب إلا سيؤمن به (سيدنا عيسى) قبل موته (الشخص الذي من أهل الكتاب) ثم يوم القيامة يكون (سيدنا عيسى) عليهم شهيدا.
وهذا يعنى أن كل واحد من أهل الكتاب تكشف له الحجب قبل موته، ويدرك حقيقة سيدنا عيسى وأنه ليس إلها، فيؤمن به بشرا رسولا وقت لا ينفعه الإيمان…
وهذا معنى جديد تماما، ولكن اللغة تحتمله وكذلك التفاسير تورده.
الأمر مازال به قراءة ثالثة: ليس أحد من أهل الكتاب إلا سيؤمن به (سيدنا محمد) قبل موته (الشخص الذي من أهل الكتاب) ثم يوم القيامة يكون (سيدنا محمد) عليهم شهيدا.
وهنا المعنى مختلف، لكنه غير متصادم ، فالمعنى أن أهل الكتاب يدركون صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم قبل موتهم فيؤمنون به (إيماناً لا ينفع) ويكون النبي صلى الله عليه وسلم شهيدا يوم القيامة..
لكن الفوائد لم تنقطع بعد، في التفاسير قراءة أخرى:
ليس أحد من أحد الكتاب إلا سيؤمن به (القرآن) قبل موته (الشخص الذي من أهل الكتاب) ثم يوم القيامة يكون (القرآن) عليهم شهيدا.
وهنا خصيصة في اللغة العربية – ليست في الإنجليزية – وهي استخدام ضمير المفرد للعاقل وغير العاقل، في حين تفرد الإنجليزية لكل واحد منهما ضميرا مستقلا ( he, it) وهذا يزيد من ورطة المترجم.
الآن ماذا يفعل المترجم وأمامه هذا الحشد من عوائد الضمير، وكلها لا تتضارب معا، وكلها مذكورة في كتب التفاسير وكتب اللغة؟ هنا تأتي المقدرة الاستراتيجية strategic competence التي تجعله يقدم أولويات معينة، ويضحي بجوانب من المعنى على حساب أخرى.
فلنرى الترجمات المختلفة لمعاني هذه الآية العظيمة:
Sahih International: And there is none from the People of the Scripturebut that he will surely believe in Jesus before his death. And on theDay of Resurrection he will be against them a witness.
MuhammadSarwar: There will be no one among the People of the Book who will notbelieve (a belief of no value) in him (Jesus) before their deaths. Onthe Day of Judgment, (Jesus) will testify against them.
هاتان الترجمتان تصرحان بالإشارة إلى عيسى عليه السلام سواء في قلب النص أو بين القوسين.
Pickthall: There is not one of the People of the Scripture but willbelieve in him before his death, and on the Day of Resurrection he willbe a witness against them –
Yusuf Ali: And there is none of thePeople of the Book but must believe in him before his death; and on theDay of Judgment he will be a witness against them;-
Arberry: There is not one of the People of the Book but will assuredly believe inhim before his death, and on the Resurrection Day he will be a witnessagainst them.
هذه الترجمات الثلاث اختارت أن تضع الضمير للعاقل دون تحديد، وقرر أصحابها أن السياق مفهوم فلا حاجة لبيانه، غير أن السياق بعد الترجمة مازال ملتبسا لأن his death لا توضح موت من.
Shakir: Andthere is not one of the followers of the Book but most certainlybelieves in this before his death, and on the day of resurrection he(Isa) shall be a witness against them.
ترجمة شاكير، اختارت أن تكون الشهادة ل (عيسى عليه السلام)، لكن الإيمان ليس به؛ إنما ب This، وthis هنا نفسها ملتبسة قد تشير إلى (هذا – يعني القرآن)، وقد تكون تعني (هذا – يعني مثل عيسى المذكور في الآية السابقة: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)، وأما الموت، فقد تركته الترجمة ليمكن أن يشير إلى عيسى أو الفرد من أهل الكتاب.
Mohsin Khan: And there is none of the people of the Scripture (Jews andChristians), but must believe in him [‘Iesa (Jesus), son of Maryam(Mary), as only a Messenger of Allah and a human being], before his[‘Iesa (Jesus) or a Jew’s or a Christian’s] death (at the time of theappearance of the angel of death). And on the Day of Resurrection, he[‘Iesa (Jesus)] will be a witness against them.
ترجمة محسن خان صرحت أن هناك أكثر من عائد، خاصة في الموت ([‘Iesa (Jesus) or a Jew’s or aChristian’s] death وأضافت بين القوسين تعليل هذا الاحتمال at the timeof the appearance of the angel of death)
وكما ترى، فكل مترجم اضطر لاتخاذ قرار؛ بعضهم آثر ألا يتدخل ويجعل الترجمة مرآة للأصل بكل احتمالاتها اللغوية، غير أن طبيعة العربية تستفيض وتزيد عن طبيعة الإنجليزية في الإحالةco-reference ، وبعضهم اختار عيسى عليه السلام دون غيره اعتمادا على السياق، تاركا جوانب من الآية يضحى بها، وبعضهم، اختار موقفا وسطا فجعل أحد الضمائر يشير لعيسى وسائر الضمائر مفتوحة تحتمل أكثر من معنى، وبعضهم اتخذ موقفا توفيقيا بأن ذكر كل ما يمكنه من المعاني جميعا.
والحكم على جودة كل ترجمة منها ينبغي له أن يأخذ في اعتباره فلسفة المترجم واستراتيجيته في الترجمة، وأولوياته التي وضعها. والله أعلم