عبد الرحمن الجبرتي المظلوم حيا وميتا
فريدة شعراوي |باحثة في التاريخ والمصريات
ولد المؤرخ الكبير بالقاهرة عام 1167هـ/1754م بحارة الصنادقية المطلة على الجامع الأزهر، وينسب إلى أسرة نزح أجدادها من جبرت إحدى مدن الحبشة الإسلامية التي رحل منها أجداد الجبرتي إلى مصر.
و والد الجبرتي هو الشيخ حسن الجبرتي من كبار علماء الأزهر الشريف وكانت داره بحارة الصنادقية قبلة جميع طالبي العلم من مشايخ وتلاميذ، وعن ذلك يذكر الجبرتي في كتبه ويقول :
“كان والدي إذا أتاه طالب علم أكرمه ودعاه للإقامة عنده، وصار من جملة عياله، ومنهم من أقام عشرين عاما قياما ونياما لا يتكلف من أمر معاشه حتى غسيل ثيابه من غير تعب أو ضجر”.
مع انشغال وشغف والد الجبرتي بالعلم كان يعمل في التجارة والبيع والشراء، فمارس أمر الدنيا إلى جانب ممارسته أمور الدين حتى أصبح على جانب كبير من الثراء، وكان لوالد الجبرتي ٣ منازل فى كل منزل زوجة وجوار ورزق منهن بأربعين ولدا وبنتا ماتوا جميعا دون البلوغ، ولم يتبق له إلا ولده عبدالرحمن،
فاهتم به كثيرا بعد أن لمس فيه الذكاء والفهم ورجاحة ، حفظ الجبرتي القرآن الكريم وهو في سن الحادية عشرة من عمره، وزوجه والده وهو في الرابعة عشرة من عمره خوفا من انقراض ذريته .
توفى الشيخ حسن الجبرتي ، عام 1188هـ وترك لولده عبدالرحمن ثروة كبيرة وأراضي زراعية في أنحاء مصر وصداقات وطيدة مع كبار شيوخ زمانه، كان أبرزهم الشيخ محمد المرتضى الزبيدي الذي قدم من اليمن وإليه يرجع الفضل في اهتمام عبدالرحمن الجبرتي بالتاريخ، فقد اختاره شيخه الزبيدي سنة 1203هـ لمعاونته في إعداد ترجمة لأعلام القرن الثاني عشر الهجري، وحدد له المنهج الذي يسير عليه، وقال له :
“لا تتعجل الأمر ولا تتباطأ فيه، ففي التأني السلامة وفي العجلة الندامة.وأوصيك بالالتفات إلى الأعلام المشهورين، واذكر من أحبك في الله وأحببته واستفدت منه شيئا”.
شرع الجبرتي بكل همة يدون تراجمه لمشايخ الأزهر وأمراء البلاد، ويدون الكراريس ويعرضها على شيخه الزبيدي، وعن ذلك يذكر الجبرتي في التاريخ ويقول :
“فرجعت إلى النقل من أفواه الشيخة والمسنين وصكوك دفاتر الكتبة والمباشرين وما انتقش على أحجار ترب المقبورين، أمور شاهدناها ثم نسيناها وتذكرناها”.
أصيب الزبيدي بالطاعون بعد عامين من بدء العمل، فقامت زوجته وأصهاره بنقل جميع الأشياء الثمينة والمال والأمتعة قبل أن يلفظ الشيخ أنفاسه، وباعت الزوجة جميع متعلقاته، بما في ذلك كتبه وكراساته، فظفر منها الجبرتي بعشر كراريس من التراجم مدونة بخط الزبيدي نفسه.
كان الجبرتي شديد التحري في الأحداث التي يذكرها، وعن ذلك يقول الجبرتي :
“فلا أكتب حادثة حتى أتحقق من صحتها فأكتبها في طيارة – أي قصاصة ورق صغيرة – حتى أقيدها في محلها إن شاء الله تعالى عند تهذيب هذه الكتابة، وكل ذلك من تشويش البال وتكدر الحال وهم العيال وكثرة الاشتغال وضعف البدن.
خرج كتاب الجبرتي “عجائب الآثار في التراجم والأخبار” صورة نابضة بالحياة لمؤرخ محب لبلده يشاركه أفراحه وأتراحه، وعنه يقول :
“ولم أقصد بجمعه خدمة ذي جاه كبير أو طاعة وزير أو أمير، ولم أداهن فيه بنفاق أو مدح لميل نفساني أو غرض جسماني، ولم أخترع شيئا من تلقاء نفسي، والله مطلع على أمري وحدسي.
خصص كتابه الشهير “مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس” لحوادث الاحتلال الفرنسي، و ناصب محمد علي العداء الشديد، ووقف منه موقف المعارضة العنيفة لأن محمد علي كما وصف الجبرتي : كان فى طبعه داء الحسد والشره والطمع والتطلع لما في أيدي الناس وأرزاقهم فمن تجاسر عليه من الوجهاء بنصح حقد عليه وعاداه معاداة من لا يصفو أبدا).
وكأن الجبرتي يقرأ الغيب، فقد أصابه عداء محمد علي في مقتل، ففي ليلة الثامن والعشرين من شهر رمضان عام 1238هـ روع عبدالرحمن الجبرتي بدخول جمع من الناس يحملون ابنه خليل بين الموت والحياة فقد هاجمه بعض الأشخاص –قيل بتحريض من محمد علي- في طريق عودته من شبرا.
كان خليل نجل الجبرتي يعمل بوظيفة التوقيت بقصر محمد علي بشبرا فأثخنوه جراحا ثم ربطوه برجل حماره، فلما دخل على الناس علموا من الكراريس التي يحملها أنه خليل الجبرتي.لم يلبث نجل الجبرتي أن لفظ أنفاسه بين يدي أبيه، فكانت هذه ضربة قاصمة للمؤرخ الكبير، وكان منشغلا بكتابة تاريخ الثورة اليونانية، فكسر أقلامه وهجر أوراقه وكراريسه.
تمادى به حزنه على ولده حتى ذهب بصره وقبع فى داره أعمى لا يقرأ ولا يكتب حتى مات على فراشه سنة 1241هـ/ 1825م ودفن بقبره بمقابر المجاورين.
صارت مقبرة الجبرتي منزلا يحمل رقم “3” بالحارة التي حملت اسم مؤرخ الشعب “عبد الرحمن الحبرتي.
بداخل المنزل المكتظ بساكنيه في هذه المنطقة يرقد بإحدى حجراته، مؤرخ مصر الكبير عبدالرحمن بن حسن بن برهان الدين الجبرتي ، وهنا يرقد أشهر من كتب ووثق تاريخ مصر.
طبعا تلك الشخصية العظيمة، لم تذكر و لم تمجد فى تاريخنا، يكفينا تمجيد السفاحين والقتلة، وللأسف بحثت كثيرا عن تمثال للمؤرخ الجبرتي فلم أجد إلا صورة تخيلية له و بعض الصور لمنزله المدفون فيه.