الرمز الشّعري في قصيدة الشِّعر الحُر.. (الشعراء الرّواد) أنموذجا
أ.د/ رعد أحمد الزُّبيدي -كلية الآداب – الجامعة المستنصرية | العراق
لقد لازم الرمز عموماً حياة الإنسان منذ عصوره القديمه ، ولاسيما في الفنون والآداب التي استطاع الرمز فيها أن يعبّر عن فيض هذا المكنون من التعجب والاستغراب والحيرة التي لم يستطع أن يعبّر عنها ببعض مفردات من اللغة، لأنّ الدلالة كانت أكبر من التعبير عنها ، لذا كان الرمز مساعداً للمبدع في تجاوز هذه الإشكالية الفنية .
إن الحديث عن الرمز الشعري يعني الحديث عن تاريخ الشعر العربي عبر مراحله وعصوره، وتطور استخدام مدلوله، فقد كانت دلالات الرمز لا تتجاوز حدود التناول اللغوي في المفردة الشعرية التي جمعت من المعنى المعجمي ممتزجاً مع التعبير النفسي والوجداني كي يضمّن اللحظة الشعرية هذه الحيوية في الموضوع والوجدان .
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
بسقط اللوى بين الدّخول فحَومَلِ
فتوضح فالمقراةُ لم يعف رسمهل
لما نسجتها من جَنوبٍ وشمألِ
في باكورة هذه الوقفة الشعرية القديمة، يمنح امرؤ القيس مفردته هذا البعد الرمزي الذي يتخطى حدود الدلالة الجغرافية المباشرة (جنوب– شمال) حيث تتحول المفردة من ملامح الجغرافية الى دلالة الاكتناز والتقديس لهذا المكان الذي تشرَّبتْ فيه هذه الحجارة التراكم الزمني عبر حركة الرياح لسنوات طوال فغدتْ ذاكرةً مقدسةً للشاعر وحياتهِ وقبيلته، ووجودهِ، فهي الزمكان الذي توحدت فيه حياة الشاعر مكاناً وزماناً وحدثاً. ومثل هذه الإشارات تكثر في حركة الشعر القديم، ولربّما قول تميم بن مقبل ينتمي الى هذا التعبير الدلالي بشكل أعمق، حين يتحول الحجر الى أمنيةٍ اسطوريةٍ يجالدُ فيها المرء قسوة الدّهر :
ما أطيبَ العيشَ لو أنّ الفتى حَجَرٌ
تَنْبُو الحوادثُ عنه ، وهو ملمومُ
ولربّما هناك تطور دلالي آخر نجحت فيه الشعرية القديمة عندما تحولت موضوعات القصيدة إلى دلالات رمزية مقنعة في تجسيدها للبعد المزي في بنية القصيدة العربية، ونقصد بذلك وقفة الطلل عند الشاعر القديم، الذي شكّل وطناً متنقلاً بحجم المعاناة والبحث عن الاستقرار والأمان .
يا دارَ عَبلةَ بالجَواءِ تكلّمي
وعمِّ صباحاً دار عبلةً وأسلمِ
ولطالما أرتبطت المرأة – المحبوبة – في الشعر القديم بقضية الوطن، فهي تدلّ على الديار والدّيارُ تدلّ عليها، مما خلق شيئاً من التشاكل والحلول في الأشياء، حتّى غدت شيئاً واحداً في الدلالةِ، وبذلك تشكّل المرأةُ موضوعاً رمزياً غنياً في تشكيلاتهِ الدلالية عند الشاعر القديم .
تَمتع من شَميم عَرار نجدٍ
فما بعد العَشيةِ من عرارِ
وقد ظلَّ الرمز الشعري قديماً مرهوناً في حدود المفردة اللغوية والموضوع الجزئي في القصيدة بشكل مباشر، رغم أنّه ساير الأنفتاح الدلالي لأسماء الأماكن والأشخاص ، والطبيعة.
وإذا عُدنا إلى الشاعر المعاصر فإنّ الرمز شكّل حكايةً عميقةً وظَّفها في بنية قصيدتهِ استلهمت البعد الأسطوري والديني والتاريخي الذي منح القصيدة تنوعاً واسعاً في الدلالة ، وجديداً في الأسلوب الذي منحه خاصيةً مميزة للشعراء الرّواد.
لقد أومضَ الرمز هنا في استذكار حكايةٍ أو مدينةٍ أو شخصيةٍ، أو قد يدخل في نسيج هذه الحكاية ويعيد صياغة تفاصيلها بما يتناسب مع تجربة الشاعر المعاصر كما فعل بدر شاكر السياب مع نهره الصغير – بويب – الذي اكتنزَ حلم الأسطورة .
بويبُ .. يا بويبُ !
فيدلهمّ في دمي حنين
إليك يا بويبْ
يا نهريَ الحزين كالمطرْ ..
وكذلك فعلَ الشعراء الآخرون من الرّواد نفس ذلك، حين دخلت الأسطورة في بنية قصيدتهم أمثال – عبد الوهاب البياتي، وخليل حاوي، وأدونيس وصلاح عبد الصبور، وأحمد معطي حجازي، وشاذل طاقة، وسعدي يوسف ..
لقد كان للرمز الشعري مستويان من التوظيف عند الشعراء الرّواد ، وهما :-
1- التوظيف الجزئي .
2- التوظيف الكلي .
أما التوظيف الجزئي فهو حضور الرمز لكي يضيء دلالةً ما في مقطع قصير من القصيدة ، أو يكون جزءاً من تشكيلات التجربة وليس كلها، فيكون معنى مجرداً في منطقةٍ ما من القصيدة ثم يغادرها ؛ لأن حدود مشاركته لا تتحملُ أكثر من ذلك . وهذا ما نلمسه في استخدام بدر شاكر السّياب لرمز السيد المسيح في قصيدته – غريب على الخليج – الذي شكّل ومضةً خاطفةً في أحد اسطر القصيدة :
بين القُرى المتهيباتِ خطاي َّ والمدن الغريبة
غَنيتُ تُربتَكَ الحبيبة.
وحملتها
فأنا المسيحُ يجرُّ في المنفى صليبهْ
إنّ رمز المسيح هنا لا يعدو أن يكون صفة الشبه بين المشبه والمشبه به في علاقته مع الشاعر، وهي دلالة مباشرة لمعنى المُضَّحي والمُعذّب الذي يلاقي الرفض والتعذيب رغم رسالتهِ في المحبّة والأصلاح.
إن موضوعية الرمز هنا لا تكتفي بأن تمتد مع الشاعر فقط ، وإنما مع المتلقي ؛ لأنه –الرمز- أرث ديني وتاريخي عام منفتح اللقاء والتعاطف مع الجمهور بشكل واسع. فهو ليس رمزاً لغوياً ذا معنى دلالي معجمي محدود ، وإنما هم معنى إنساني متعدد التأويل والتأثير بأفق المتلقي الواسع ، وهذا ما اضافه الرمز الشعري من خاصية جديدة في جعل المتلقي مشاركاً في التجربة الشعرية على غير ما كان عليه المتلقي أمام القصيدة العمودية القديمة ، حين كان المتلقي ينتظر المعنى الشعري جاهزاً من الشاعر دون أن يشارك في صناعتهِ .
أما التوظيف الكلي للرمز في القصيدة أو الديوان فذلك يسمَّى (قناع القصيدة) حيث يصبح كلاهما الشاعر والرمز شيئاً واحــداً كلاهما يتقمص الآخر ، ويتبنَّى موقفه، وقد اتخذ الشاعر من قناعهِ غطاءً يختفي خلفه ليقول كلَّ شيء دون أن يعتمدَ صوته بشكل مباشر .
وقد كثرَ هذا الحضور في نتاج الرّواد فقد تبنّى السياب بشكل خاص رمز السيد المسيح والنبي أيوب ، ومن الأسطورة السندباد ، وكذلك فعل خليل حاوي مع رمز السيد المسيح ورمز السندباد وكذلك كان صلاح عبد الصبور مع السندباد وهجرة النبي محمد ، وكذلك تميّز عبد الوهاب البياتي في أقنعته التاريخية التي بحث من خلالها عن البطل النموذجي الحاضر في كل الأزمنة فاختار من الشخصيات التاريخية ما تميزت بالتمرّد والتخطي مثل شخصية أبي العلاء المعري ، والحلاج ، وابن الرومي وغاليلو ، بينما ذهب أدونيس أيضاً الى الرموز التاريخية التي تميّزت بالثورة والأنعتاق نحو الخروج لاسيما في ديوانه التحولات عندما تلبّس شخصية عبدالرحمن الداخل – صقر قريش_
هدأتْ فوق وجهي بين الفريسة الفارس الرَّماح
حسدي يتدحرج والموتُ حوذيه والرِّياح
جثث تتدلى ومرثية
وكأنَّ النَّهار عرباتٌ من الدَّمع
اسمع رنينك ياصوت
اسمع صوت الفراتْ