أدب

الليلة بالجمعية العمانية للكتاب والأدباء.. ملامح الإبداع الفني في شعر وسام العاني

دراسة نقدية في ديوان (سيرة الطائر) للشاعر العراقي وسام العاني

دكتور/ جمال فودة|كاتب وناقد وأكاديمي مصري
عضو الاتحاد الدولي للغة العربية


بـدأ إدراك أهمية التشكيل اللغوي في الشعر يزداد وضوحاً مع نشأة علـم اللـغة، واتـخاذ معـطياته ركـيزة أساسيـة لتـحليل بنية النص،فالشـعر كامـن في القصـيدة، وذلك مبدأ ينبغي أن يـكون أساسياً فالشاعرية كعلم اللغة موضوعها اللغة فقط ،الفارق بينهما أن موضوع الشعرية ليس اللغة على وجه العموم، وإنما شكل خاص من أشكالها، إذ لا تتحقق للقصيدة خصوصية الشعور إلا من خلال خصوصية التعبير، ذلك أن النص الشعري جزء من اللغة يخضع لقوانينها الوضعية، لكنه يتميز عنها بخصائص فريدة تدخله في حدود الإبداع الفني، إذ ينبني من مفردات هي بمثابة الدوال على معان ٍ جزئية تكتسب دلالتها وبلاغتها حين تنتظم في علاقات تركيبية مع غيرها من عناصر العمل الأدبي .

وهذه الدراسة تبحث الكيفية اللغوية التي يحقق بها العمل انسجامه وتماسكه في كليته الدلالية، حيث ينبع منهجها من النص الشعري نفسه، لامن مبادئ سابقة عليه، ويتعامل مع الإنتاج ككل متكامل يصدر عن المبدع الذي يعد محوراً تدور حوله بقية العناصر المتشابكة الأطراف في إطار التناسق بين الوعي المنهجي بأصول الشعرية والإنجاز الحقيقي للنصوص، دون أن يغفل مقاييس التواصل الجمالي في الأداء الشعري.

    فمنهجنا لا يبتعد عن الصياغة إلا بقدر ما يعود إليها كاشفاً عن ظواهرها الإبداعية وراصداً لمخصباتها الشعرية، إذ يمثل النص الشعري في تداخل بنياته نمطاً متميزاً من الأداء اللغوي يتجاوز النسق المعياري، بل يطوعه لإجراءاته الخاصة، فتتشكل دلالة النص، وتتجسد بنيته الأدائية، ومن ثم فإن الولوج إلى عالم النص يكون بالعكوف على تحليل البنية اللغوية، وتتبع أنساقها والعمل على استكشافها واستكناه أدوارها من خلال خيوطها الممتدة في نسيج التجربة الشعرية.
وإن كان السعي لرصد ملامح الإبداع الفني عند (وسام العاني) لا يعنى توضيح الدلالة، وإنما يهدف إلى خلق معادل مواز ٍ لها، حيث يتشكل الفضاء الشعري وتتشكل معه قراءات متعددة تتجاوز أحادية المعنى، لذلك لا يكفي الوقوف عند الأنساق اللغوية في بنية النص الشعري دون النفـاذ إلــى مـا وراء هـذا النـظام اللـغـوي مـن دلالات وخصوصيات تسهم في استبطان رؤية الشاعر وكيفية إدراكه لواقعه مـن خلال مـا ينشئ من أبنية وعلاقات ،” وإزاء تعدد مسـتويات النـص الشعري، ومـا يتسم به من تداخلعمـيق يـبدو الـدرس النقدي بحاجة إلى طرائـق متـعددة مستمدةمن علوم وحقول معرفية مختلفة للإحاطة بطبيعة البناء الشعري، فهو بحاجة إلى تحليل أسلوبي لدراسة مكونات الظاهرة اللغوية / الأدبية في مستوياتها المختلفة”.(1)

وهذه الدراسة تتعامل مع النص الشعري على أنه تشكيل فني لغوي في المقام الأول، والكشف عن أبعاده يتم من خلال هذا التشكيل وفي إطاره، ولا يعنـى هـذا أن نغفل عن الجوانب الفكرية أو النفسية أو حتى السياسية والاجتماعية.. وغيرها، وإنما نصل إليها من خلال الاهتمام بالبناء الشعري وتحليل عناصره.

أولاً :اللغة:
إن الألفاظ إن كانت حسية إلا أنها تلج إلى النفس ممتزجة بالدلالات النفسية المرتبطة بالوجدان، ذلك أن لكل إنسان إحساسه الخاص برموز اللغة وألفاظها التي ترتبط لحظة بلحظة مع ظلال عديدة ترسخ في النفس تبعاً للأحداث الخاصة والعامة التي يمر بها، والتأملات اللا شعورية التيتتفاعل معها في أعماقه، ” وهذا ما يمكن اللغة الشعرية من أن تكشف في كل مظاهرها وجهاً عاطفياً، ويتفاوت الوجهان كثافة حسب حالة المتكلم واستعداده الفطري”.(2)

والمعجم الشعري أحد عناصر الشعر الأساسية التي تتأثر بالتطور المستمر في حياة الأدب والأدباء ” فمنذ أن بدأ الشعراء يتجهون إلى التجربة الذاتية، ويهتمون بتصوير المشاعر والانفعالات ويلتفتون إلى مشاهد الطبيعة، ويربطون بينها وبين وجدانهم، أخذت طائفة كبيرة من الألفاظ المحملة بالدلالات الشعورية والجمالية تتردد في عباراتهم وصورهم ممتزجة أحياناً بألفاظ تقليدية، وخالصة- أحياناً – لطبيعة التجربة الوجدانية الجديدة ” .(3)

وكغيره من الشعراء يمتلك ” وسام العاني” معجماً خاصاً به وحده، وتأتى هذه الخصوصية من خلال نوعية الألفاظ التي يختارها الشاعر، والمضمون الذي تدور حوله تلك الألفاظ؛لأن ذلك يعكس نفسيته ويجسد طبيعة تجربته.

أ- التعابير الدينية:-
يعد التراث الديني – في شتى فروعه – بكل قيمه الفكرية والروحية نبعاً فياضاً يستقى منه الشعراء على اختلاف مشاربهم، وإن كان(وسام العاني) أحد الشعراء المعاصرين الذين نهلوا من هذا الفيض الدافق إلا أنه تميز بقدرته على الصياغة التعبيرية التي تسم أسلوبه بسمات جمالية دلالية وفنية ، تضفي على التجربة عمقاً و تأصيلاً .
وقد تنوع استلهام التعابير الدينية في شعره ما بين قرآنية ونبوية، لكن الظاهرة الاستدعائية الأولى من التراث الديني في شعر (وسام العاني) هي ” استدعاء الخطاب القرآني الذي تنوع ما بين الاتكاء على البعد الدلاليوحده، أو البعد الصياغي الخالص، المهم في ذلك أن الخطاب الشعري كان يمتص الخطاب القرآني في إطار من القداسة تكسب الخطاب الشعري نوعاً من التعالي والسمو، وتمنحه قدرات إضافية ليمارس فاعليته في التعامل مع الواقع “. (4)

هذا، وقد جاء توظيف التعابير الدينية القرآنية على أشكال متعددة، منها اقتباس التعابير القرآنية وغرسها في البناء الشعري باعتبارها أحد لبناته، وإن كان ذلك لا يحول دون المتلقي ورد الصياغة إلى مصدرها الأصلي عن طريق تداعي المعاني، وإن ظهرت هذه التعابير في أردية جديدة، فإن طاقاتها الإيحائية تظل تعمل في أعماق اللاشعور حتى تصل إلى استثارة مخزونهاالنفسي/ الدلالي في وعى المتلقي، ومن ذلك قول (وسام العاني):

أحتاج منسأتي ، فثمة هدهد
من شهوة المجهول ليس يتوب
فاستعبدت رؤياه ألف مدينة
تركته آخرة الطريق يشيب
يمضي إلى لا شيء (يوسف) ظنه
لا مصر تذكره ولا يعقوب
وطن الحقيقة ساكت ، ما ذنبه
إن ظن منفى الحائرين يجيب (5)

حيث يتجلى ـ للقراءة الأولى ـ استلهام قصة نبي الله سليمان والهدهد ، وكذلك الإشارة إلى قصة يوسف الصديق عليهما السلام ،ويبدو واضحاً العدول بالخطاب القرآني عن دلالته الأصلية إلى دلالة عكسية ، فإذا كان المعنى القرآني يدور في سياق بث الأمل في غد أفضل ، إذ يأتي الهدهد بنبأ يقين، وتتحقق رؤيا يوسف، إلا أن المعنى الشعري جاء عكس ذلك ليجسد إحباطات الواقع وغلبة دواعي اليأس في هذا العصر، عصر الخديعة التي تعيشها البشرية ، فإن ارتقت في ظاهرها إلا إنها مازالت ترسف في أغلال الذل والقهر ، ومن ثم أصبح واقعها خسراناً و هلاكاً ؛ فمازال الهدهد شارداً في متاهات المجهول ! ، أما يوسف فقد تخلت عنه رؤياه ، وخذلته أحلامه ، وصار نسياً منسياً !
لقد اتخذت القصة في نفس الشاعر مساراً نفسياً خاصاً، وتحددت أمامه ببعد شعوري يرتبط بأزمته الراهنة.

ثمة شكل آخر لاستلهام التعابير القرآنية في شعر(وسام العاني) يتمثل في استدعاء أكثر من آية، الأمر الذى يثرى ظاهرة التناص من خلال اتساع المدى التأثيري بتدخل أكثر من مرجع في إنتاج دلالة النص الشعري، حيث تتشابك الرؤى و المواقف التي تمتد في نسيج التجربة و تتداخل مع اقتباساته لتلتحم ببنية الدلالة الكلية، فتفجر طاقاتها الإيحائية و النفسية، و تشد النص إلى دائرتها و تحركه في إطارها. يقول (وسام العاني ) :

ستحيد عن بئر (الغلام) قوافل
لو أن (يوسف) (بالغيابة) قانع
لابد من جرح
لتعرف أن أشواك الطريق
هي الطيب البارع
(الكهف) ضاق بنائميه
وعبر (غار) الشك
يمتد الخيال الواسع
و(الحوت)قد خذل (الفتى)
لكنه
عن حق (موسى)في رؤاك يدافع
ولذا…
ضياع(الحوت) كان لحكمة
فلطالما وصل الحقيقة ضائع(6)

نلاحظ تعدد استلهام التعابير القرآنية التي يعود كل منها إلى مرجع غير الآخر حيث يحضر قوله تعالى ” أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً”(7)، وقوله” قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين “(8)، وقوله سبحانه ” فالتقمه الحوت وهو مليم “(9).
إن مجيء الاستدعاء على هذا النحو المتتابع يستلزم من المتلقي الإحاطة بالدلالات القرآنية للوقوف على مدى توظيف الشاعر لها في بنية النص الشعري وتغلغلها في نسيج تجربته.

فاللقطة الأولى تدور في إطار التذكير بأهمية اليقين والإيمان بالله وقدرته على نجاة المؤمنين، وإنقاذهم من الهلاك المحقق،أما اللقطة الثانية فتدعو للثورة على الوضع الراهن، وتحث على التحرر من أغلال الواقع، لتقطع الشك باليقين وتمحو من العقول ما تجذر فيها من دواعي الرضا بالواقع(يبقى الحال كما هو عليه) و (ليس بالإمكان أفضل مما كان)، كل هذه الهواجس التي دفع ثمنها غالياً جيل من أبناء هذا الوطن (العاني) !
وفي ختام المشهد يقف (وسام العاني) عند قصة نبي الله يونس عليه السلام ،ومعاناته في بطن الحوت ، كل ذلك لحكمة يعلمها الله ، ورب ّ ضارة نافعة ! وربما عمد (وسام العاني) إلى أن ينفتح النص الشعري على قصة سيدنا موسى – عليه السلام – بطريق غير مباشر، وإعادة قراءة النص تبرز للمتلقي المفردات والتراكيب الآتية: الحوت، الفتى، موسى، حكمة،هذه اللغة تشي بواقع مرير ومعاناة عميقة دون فقدان روح الأمل، فمن رحم اليأس يولد الأمل، وقد قام الشاعر بامتصاص هذه المعاني في بنية النص الشعري على ما بينها من تفاوت.

أما السنة النبوية فيأتي توظيف الشاعر لها في صورة استدعاء بعض الأحاديث النبوية الشريفة ، التي تمثل دوراً مهماً في إبراز الرؤية الشعرية من خلال تكثيفها و تركيزها و إعطائها دلالة أكثر ثراءً و عمقاً، فضلاً عما تقوم به من كشف الكثير من الأبعاد و طرح العديد من الإيحاءات التي لا سبيل إلى إدراكها بغيرها من التراكيب الأخرى ، ومن ثم تأتى أهمية اقتباس و استدعاء الأحاديث النبوية في الكشف عن المشاعر الذاتية للشاعر و ذلك من خلال أمرين ” الأول هو الدلالة الحقيقية التي يشير إليها الشاعر خلال النص ، و الثاني هو الإيحاء الذى يوحى به ذلك الموروث في ضوء علاقته ببقية القصيدة ” .(10) يقول (وسام العاني):

الفتنة نائمة
لكن الشاعر أيقظها
حين تدلى من أعلى النص
ليترك جثته
في المطلع عارية
وغراب الصمت يحاول أن يكمل شرحه(11)

يستدعي الشاعر حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم): “الفتنة نائمة، لعن اللهُ مَن أيقظها ” على هذا النحو يتعامل الشاعر مع الحديث الشريف من خلال موقفه الشعوري الراهن ” إن الاستدعاء – هنا – استدعاء قولي يتخذ مسارات تتعدد ، ودلالات تتنوع على حسب قدرة استخدامها و التمكن من تلاصق النصين .
تبرز في شعر (وسام العاني)ظاهرة (الانزياح)بما فيه من حمولات الإثارة والإدهاش والمفاجأة، كما يكثر لديه الخروج عن المألوف وغرابة الصور؛ إلا أن أكثر ما يأخذ القارئ إليه مجازية اللغة، وإبراز الدلالة في صور فنية معبرة.
فالشاعر، كما يبدو، يريد أن يحفِّز القارئ خاصة والإنسان عامة، على التمرد ليس على ما حوله فحسب، إنما على ما في داخله أيضًا؛ إذ يدعو الإنسان إلى التمرد على نفسه، والتمرد على واقع مزر يعيش فيه؛ فلا يركن إلى الاستكانةوالركود أو الجمود أبدًا! ومن غير الشاعر يشعل فتيل الثورة ويوقظ فتنة الكلمة، ثم لا يلبث أن يتقدم ويتمرد على ما أنجزه وأنتجه بنفسه، ويثور على ما خطته يده، وإن دفع حياته ثمناً لهذه الثورة!!
ب – التعابير الشعبيةولغة الحياة اليومية:
تعد اللغة صورة صوتية وفكرية للمجتمع ـ لأنها مأخوذة من المجتمع – كما أحسها أفراده وعاشوها، إذ إن ألفاظ اللغة ما هي إلا أسماء لما في الواقع من أشياء، ولما يجرى فيه من أحداث تفاعل معها الإنسان فاحتاج للتعبير عنها، ومن ثم فإن اللغة تحمل في طيات ألفاظها وعباراتها ملامح حياة المجتمع الذي يتكلمها، وآثار البيئة التي ولدت فيها؛ لهذا كانت اللغة تراثاً قومياً لأهلها.

وعلى أساس من هذه المقدمات كان لجوء الشعراء المعاصرين إلى استدعاء التراث الشعبي وتوظيف رموزه ودلالاته الثرية الإيحاء والتعبير عن ملامح الرؤية، وإبراز أبعاد التجربة في لغة بسيطة يفهمها العامة ويستمتع بها الخاصة، ومن ثم “استفاض شعر الحقائق اليومية وفتاتها وكان أغلبه حول الفلاحين والبسطاء من الناس وحياتهم البائسة، وقد حمل هذه الأمانة جيل الرواد أمثال: صلاح عبد الصبور وحجازي والفيتوري وحسن فتح الباب ومجاهدعبد المنعم ….. وغيرهم “. (12)

هذا وقد تعددت طرائق استدعاء التراث الشعبي في شعر(وسام العاني) ما بين استيحاء الأمثال الشعبية، وتضمين العادات والتقاليد، إلى استخدام مفردات وتعابير لغة الحياة اليومية، إيماناً منه بأن ” لغة الحديث اليومي بكل حرارتها وزخمها وتوترها هي لغة الشعر، وأن الكلمة الشعرية هي الكلمة التي تعيش بيننا لا الكلمة المدفونة في أحشاء القاموس”.(13)

إن ارتباط الشاعر بواقعه يعكس حرصه على توظيف التراث الشعبي، الأمر الذي يسم تجربته بسمات الواقعية، إضافة إلى تعميق قنوات الاتصال بينه وبين المتلقي، وذلك على نحو استلهام المثل الشعبي القائل ” أنت تحرث في الماء ” أو ” أنت ترقم على الماء” والذي يضرب لمن يقوم بعمل لا جدوى منه. وفي ذلك يقول (وسام العاني):

تذكرت أمي فاستعدت خيوطه
ركضت وراء النهر حتى أرده
وصلت إلى شط البداية ظامئاً
فلاقيت أمي تحرث الماء عنده(14)

إن استلهام الشاعر للمثل الشعبي يتعدى حدود اللغة العامية التداولية إلى خلق لغة أدبية ، يصبح المثل فيها تضميناً لتركيب بياني بديع أشبه بحلية في النسيج اللغوي لبنية النص الشعري، و الشاعر حين يوظف المثل في بنية نصه ، فكأنه يضع تجربته في إطار الوحدة الإنسانية الشاملة؛ ليوحي بثبات فطرة الإنسان واتحاد طبيعته على اختلاف العصور ، الأمر الذى يخلع على الدلالة المطروحة تأكيداً يثبت في النفس ثبات المثل و استمراريته ، لما يتميز به من كونه نطقاً بتجارب الإنسان و انعكاساً لقيم المجتمع ” فالمثل قول مركزي انحدر عن السابقين كخلاصة لمجموعة من التجاربو الميزات ، فهو تعبير عن حياة الأمم بتاريخها و رجالهاو بيئاتهاو تصوراتها ، فهو لذلك صدى قوى لكثير من جوانب الحياة ” . (15)

وفي إطار استدعاء التعابير الشعبية يأتىتوظيف الألفاظ العامية المتداولة في لغة الحياة اليومية ، لما لها من قدرة على التغلغل في نفس المتلقي بعمق دلالتهاو سهولة استخدامها ، ومن ثم كان اتجاه الشاعر إلى اللغة الشعبية يستوحى من تعبيراتها ما يعينه على صدق التصوير و دقة الأداء من خلال عباراتها البسيطة ” وليست البساطة التعبيرية بسهلة، بل هي من الصعوبة بمكان ، ولا يقدر عليها إلا الفنان القدير ، فليست كل بساطة محمودة ، فقد تكون سطحية ضحلة و قد تكون عميقة ، ولا تعد عنصراً فنياً إلا إذا أدت إلى تجربة منظمة ناضجة ” . (16) يقول (وسام العاني):

زبون أخير بمقهي الغياب
أدخن أيامي الذابله(17)

إن الشاعر يلتقط فتات الواقع اليومي لتكوين بنية فنية دلالية متميزة، تمتزج في بوتقتها تعبيرات مألوفة وبسيطة، لكنها في ترابطها تشكل لوحة فنية ثريةالإيحاء. كما يلجأ (وسام العاني) إلى استخدام الكلمات الأجنبية والمعربة، يقول :

والكمنجات كالضفائر وهمٌ
شنقتنا الضفائر المغريات
وامنحيني أصابعاً وبيانو
وفماً لا تخيفه الفُوَّهات(18)

من خلال المقابلة بين هذا المدلول الجديد الذى اكتسبته كلمة (الكمنجات) وكلمة (البيانو)، و بين الدلالة الأساسية لهماـ المضمرة في ذهن القارئـ تتولد المفارقة، حيث تتناقض الدلالة المطروحة في النص مع الدلالة التراثية، فاللحن صار وهماً قاتلاً، والبيانو يبحث عن أصابع غير مرتعشة تعزف بجرأة، وفم يردد بقوة، ولكن هيهات!! إن واقعية شاعرنا جعلته يتجه إلى هذا التراث ينقب عن كنوزه الدفينة ليحيلها شعراً سائغاً، إيماناً منه بأنها قد تكون الأقدر على كشف أعماق الإنسان.

ثانياً: الأسلوب:
تسعى هذه الدراسة إلى البحث عن الخصائص اللغوية التي تخرج النص الأدبي عن إطاره المألوف إلى إطار فني جديد ، يتعامل مع الجملة باعتبارها تركيبة لغوية صوتية منسوجة بخيوط دلالية و نفسية ؛ لتجسيد حالة شعورية معينة ، ومن ثم فإن فهم النص الأدبي وقف على إدراك التراكيب اللغوية / الدلالية ، و نمطية هذه التراكيب و انحرافاتها وسياقاتها الإيحائية ،والنفاذ إلى بنيتها العميقة و الكشف عما تحمله من كثافة شعورية ، وصياغة فنية جمالية، “فمعدن الأسلوبية قائم على ما في اللغة من وسائل تعبيرية تبرز الملامح العاطفية والجمالية، وتكشف عن النواحي الاجتماعية و النفسية من خلال بنية النص الأدبي”. (19)

وإذا كان الأسلوب الخبري يتسم بثبات الدلالة وجفافها، فالأسلوب الإنشائي يتسم بحركية الدلالة وحيويتها، وبهذا تعد الأساليب الإنشائية أداة تعبيرية تسهم في كشف رؤية الشاعر لواقعه هذا من ناحية، كما تعين المتلقي على استكشاف أبعاد التجربة واستنطاق الدلالة من ناحية أخرى، وقد استطاع (وسام العاني) استغلال هذه الأساليب استغلالاً أضحى واضحاً في إبداعه، وأصبح من الملامح الأسلوبية التي تشكل بنية النص في شعره،ومن أبرز هذه الأساليب:الأمر والاستفهام والنداء…

(أ) الأمـــر:-
يعد أسلوب الأمر من أبرز الأساليب الإنشائية فيشعر (وسام العاني)، خاصة في القصائد الحوارية، وتتنوع دلالات أسلوب الأمر وأشكاله، فأحياناً يأتي مفرداً، وقد يأتي مكرراً أو متعدداً، مما يثرى دلالة النص ،ويوجه عناصره نحو إيحاءات خاصة، وهذا التنوع لا يدل الباحث على اتجاه الشاعر إلى هدف معين أو نزوع خاص بأمر ما، ولكنه جاء نتيجة تنوع حياة الشاعر وعدم استقرارها من ناحية، وتنوع مزاجه النفسي من ناحية أخرى، هذا فضلاً عن تنوع الأغراض البلاغية لأسلوب الأمر في سياق النص الشعري، يقول (وسام العاني):

سجناء في داخل النص فيما
خارج النص تشتهينا الحياة
وتريدين من فمي أن يغني
أطلقيني لتصدح الأغنيات
أرشدي طفلي الذي تاه مني
في طريق تخونه الخطوات
واشرحي للناي الذي يعتريني
وجع الصمت حين تدمى الرئات
شرفاتي كئيبة أخبريها
ليس كفراً أن تضحك الشرفات
أخبري هذه القرى فوق جلدي
لا تنامي فقد يعود الفرات
بللي رأسي إن بدوت وحيداً
فحرامٌ أن تعطش القبرات
وانزلي دمعة على ليل خدي
لتضئ المدائن المعتمات
ومعي كوني كي نغني سوياً
جرأتي قد تخونها الكلمات
سنغني كي لا نموت سكوناً
كل من ظلوا داخل النص ماتوا(20)

كذا يصعّد الشاعر هجومه بفعل الأمر الذى يؤدىإلى الصمت و الخرس حين يطرح الشاعر قضيته أمام شهادة الواقع، هنا تظهر قيمة الثقة و انهيارها في وقت واحد ؛ قيمة الثقة في قوة الإرادة، وانهيارها في جانب النفس التي لا تعين على التحرر؛ حيث تتوالى أفعال الأمر في النموذج السابق لمأمور واحد ( ضمير مخاطب للمفرد المؤنث) يعود على الذات المتوارية خلف قناع السلبية، ، ومن ثم فالشاعر يطلق صيحات عالية ليستنهض الهمة في نفس اعتادت الخضوع، باحثاُ عن ميلاد جديد ، تلتقي فيه النفس بتوأمها ، فتسكن الأنات، وتنساب الأغنيات و تضئ الأرواح المعتمات.

إن تكثيف بنية أسلوبية ما في نص شعري يوحي بأنها ظاهرة متميزة ينسجها الشاعر في حالة وجدانية خاصة، حيث يكرر الشاعر فعل الأمر في النص السابقسبع مرات متتالية ؛ليتحول في سياق الدلالة العامة وبفعل إبداعية اللغة داخل النص إلى ثورة على كل عوامل اليأس والقهر والخوف،ودعوة إلى السعي وإفناء العمر لتحطيم الأغلال ومحو العوائق التي تحول دون طلوع فجر الحرية، وسطوع نور الأمل في سماء مستقبل أكثر إشراقاً. وهكذا استطاع الشاعر أن يوظف الأمر توظيفاً فنياً، حيث انتقل به إلى دلالات متعددة ،وإيحاءات ثرية تضفي على النص حيوية متجددة،وحضوراً لا يبلغه النص بدونه.

(ب)الاستفهام: –
تتسم طبيعة تجربة الشاعر بالعنفوان القائم على الغضب الممزوج بمعانيالقلق، إذ يرى في كل ما حوله من مظاهر مريرة لواقع غريب مواضعاستفهام وتساؤل، ينبض بهما وجدانه فينعكسان على لغته وأسلوبه، والشاعر يعمد في كل هذا إلى توظيف السؤال في خلق المفارقة، وفي توليد المعانيالتي تتفجر بها تجربته. “إن الاستفهام أداة لتحويل الرؤيا من وجود ” بالقوة ” إلى وجود “بالفعل” ليس كمتحقق ولكن كوجود نصيشعري تتضايف فيه جميع العناصر في سباق يمنحها انسجامها على المستوى العميق، فالشاعر يوظف الاستفهام لأداء معنى غير قابل للتأطير تحت تحديدات بعينها،بل ربما كان غير قابل للتحديد إطلاقاً محتمياً بما يفتتحه تشكيله اللغوي من دوائر إيحائية رحبة “. (21)

لهذا، فالاستفهام في شعر (وسام العاني)لا يأتي للاستخبار الذي يعنى الاقتراب من لغة النثر حيث تتسم اللفظة بالتقرير والتجريد، وإنما يستخدمه الشاعر لإثراء تجربته وتجديد حيويتها وإكسابها دلالات نفسية تجعل قضاياه أكثر إعمالاً في نفس المتلقي مما لو ألقيت هذه المعاني خالية من أسلوب الاستفهام، إذ يزداد اقتناعه وتأثره بها لأنه شارك المبدع في تجربته ليصل بنفسه إلى مضمونها، ويستنبط الجواب دون أن يُملى عليه، واعياً أبعاده الدلالية والنفسية. يقول (وسام العاني):

يا خيمتي
من راود الأوتادا؟
وحثا على شغف الدلال رمادا
من قال للصحراء
وهي عقيمة
كوني لحلم الظامئين بلادا؟
من علم الأحزان
ترسيم الحدود
وعافها تتخير الأبعادا؟
من بعثر النايات في المنفى
وألقمها
مواويل الحنين عتادا ؟(22)

في ضجة الذكريات يلملم الشاعر هواجسه، يحاور نفسه بعدأن أسدل الستار على حبه، وختم بالحزن على قلبه، وهذا “المونولوج الداخلي” الذي يستدعيه بالاستفهام يتيح له استدعاء المواقف التي استأثرت به، دون أن تجره الذكرى إلى الخوض في التفاصيل التي تستقطب طاقته التصويرية، فالاستفهام هنا أداته إلى التركيز، بالإضافة إلى كونه عنصر تنبيه في المونولوج الداخلي يجسد تلك المواقف التي تضطرم في أغوارالذات.
وبهذا استطاع الشاعر أن يأسر ذهن المتلقي ويشد انتباهه إلى أقصى درجة لما يحمله الاستفهام من ترقب يعمل على إحياء الدلالة من ناحية ، ويقوى قنوات الإبلاغ من ناحية أخرى .
لقد وظف الشاعر بنية الاستفهام للتعبير عن الإحساس بالضياع والاغتراب وعبثيةالحياة، والسعي للخلاص من أسرها، وكم كان (وسام العاني)واعياً لفاعلية الاستفهام في تجسيم هذا الحوار النفسي الذي يحول دون التقاط الأنفاس.

يتضح ـ هنا ـ مدى استغلال الشاعر لهذه الميزة الأسلوبية من خلال إحاطة النص بالاستفهام من بدايته حتى نهايته، ليجعل البناء كله يتفجر ويتحرك، لا تعرف ألفاظه السكون، بل تدفع كل لفظة الدلالة نحو غايتها، فلا نجد في جنبات النص خفوتاً أو ضعفاً، فالشاعر لا يطلب لاستفهامه جواباً بل ليظل ماثلاً أمام المتلقي، كذا تظل دلالة التوتر والحيرة ماثلة تشغل ذهنه، وتمثل لديه خلاصة التجربة التي يعانيها الشاعر.
ج – أسلوب الشرط:-
يستخدم الشاعر بنية الشرط كوسيلة من وسائل التضافر الأسلوبي الذي يجعل من العمل الإبداعي عملاً مترابطاً متماسكاً، مما يكسب دلالة النص قوة ونماءً، كما يستخدم الشاعر هذه الظاهرة الأسلوبية لجذب انتباه المتلقي وتشويقه لمعرفة جواب الشرط، حيث لا يقوم بعرض المعنى مباشرة، مما يتيح الفرصة أمام المتلقي لاستنتاج ما يرمي إليه الشاعر، وهو بذلك يعمق قنوات الاتصال بين المبدع والنصوبين متلقيه.
“واتصال الشرط بالمتلقي أو المبدع اتصال تلاحم ذو طبيعة انفصالية في الظاهر تتجسد في تشكيل صياغي مميز، لكن هذا الانفصال لا يلغى ارتباط الدلالة بالنص لأن جملة التعامل اللغوي منشأها الحركة النفسية من ناحية،والمدرك العقلي من ناحية أخرى “(23)، ويمثل الشرط ظاهرة أسلوبية بارزة في بنية التركيب في شعر(وسام العاني)،وقد جاء استخدامه لهذه البنية على هيئات متنوعة منها:

1- البنية الأصليةللجملة الشرطية: –
حيث تتصدر أداة الشرط (الجازمة أو غير الجازمة) الجملة، تليها ” جملة الشرط ” ثم جملة جواب الشرط، وتعدهذه البنية أكثر بنيات الشرط استخداماً في شعر (وسام العاني)، ومنها قوله:

لو أنها…
لم تتعب الطرقات
لمشت لآخر حزنها الكلمات
لو أن هذا الأفق
أوسع من ثقوب الناي
لارتاحت بي النايات
لو أن خارطتي
تبدل جلدها
كي لا يتاجر بالقميص طغاة .(24)

تقوم الأداة ” لو ” ـالتي تفيد امتناع وقوع الجواب لامتناع وقوع الشرط ـ بالربط بين جملتين الثانية منهما متوقفة على الأولى، فالكلمات لن تصل نهاية الطريق؛ لأن الطرقات تعبت من السائرين،وزحام الدموع على الراحلين، ولن تُعزف ألحان الهوى والجوى؛ لأن هذا الأفق أضيق من ثقوب الناي الحزين، ولن يتوانى الطغاة عن المتاجرة بدماء الأبرياء مادامت الخارطة تضع الحدود بين أبناء الوطن الواحد.
وفضلاً عن ربط الشاعر لجملة الشرط باستخدام الأداة ” لو ” والربط الدلالي الناتج عن تلازم مكوني الجملة الشرطية، فقد اشتملت الجملة على وسيلة ربط لفظية هي ” اللام” في صدر جملة الجواب ” لمشت، لارتاحت”، وهذه اللام الواقعة في جواب الشرط ” تفيد عقد الصلة بين جملة الجواب وجملة الشرط حتى لا تكون إحداهما مستقلة بمعناها عن الأخرى”. (25)

ومن التحويلات التي شهدتها الجملة الشرطية في المقطع السابق، تعدد الشرط وتعددالجواب، الأمر الذي يؤدى إلى اتساع إطار الجملة وامتدادها، ففي هذا النموذج تعددت أداة الشرط ” لو ” ومن ثم تعددت جمل الشرط، وإن جاء الجواب خاصاً بكل شرط على حدة، إلا أن الجمل جميعها (الشرط والجواب) تمثل دفقة شعورية واحدة في جملة شرطية ممتدة يمكن التعبير عنها بمد جملة الشرط وتتابعها: لو أنها لم تتعب..، لو أن هذا الأفق.. لو أن خارطتي..، ثم يأتي الجواب لمجموع جمل الشرط التي ترتبط أجزاؤها بعاطفة داخلية تعكس حالة الشوق المتدفقوالدمع المنساب على قلب ينصهر حنيناً إلى لحظة وصل يهتدى فيها لعشه القلب الشريد، فتبرأ الجراح و ُيطلق الجناح من قيد الأشواق.
-تقديم جوابالشرط :-
إن كل تقديم و تأخير يقع في بنية النص الشعري يؤدىوظيفتين؛الأولى: معنوية حيث يؤدى تغيير النسق دوراً كبيراً في الدلالة المطروحة ، الأخرى : صوتية تتمثل في الحفاظ على إيقاع النص الشعري ، ولاشك أن الوظيفتين لا تنفصلان ، بل لهما دور واحد في بنية الدلالة النصية ، وتقديم جـواب الشرط مـن التحولات التـي تطرأ عـلى البنيـة الأصلية للـجملة الشــرطيـة ، إذ موضعه بعد الأداة و الفعل ، وهذا التقديم يمنحه دلالات جديدة تكشف المستوى الفني للتعبير الشعري عن طريق خلق بنية تتداخل فيها العلاقات ، لأن كل تغيير في النظام التركيبي للجملة ينتج عنه تغير الدلالة و انتقالها من مستوىإلى مستوى آخر .
ومن نماذج تقديم جواب الشرط في شعر (وسام العاني)قوله :

ستكذب الأوطان إن نسيتْ خطى
العشاق ساعة مشيهم للآخره
والموت يكذب إن نعى أسماءهم
فالموت آخر من يعدُّ خسائره
وأنا سأكذب إن كتبت قصيدة
وبقيت حياً فالقضية خاسره
سأموت مقتولاً بسيف قصيدتي
النص يُقتل حين يكمل شاعره !(26)

في هذا النموذج قدم الشاعر جواب الشرط “ستكذب الأوطان” على جملة الشرط “إن نسيت خطى العشاق”، و كذلك قدم (الموت يكذب) على (إن نعى أسماءهم)، وأيضاً قدم ( أنا سأكذب ) على (إن كتبت قصيدة ) كأنه لم ينتظر مجيئه في موضعه الطبيعي ، فجعله في صدارة الجملة ليؤكد على اهتمامه به فكل ما يقال هو محض كذب وافتراء من الأوطان أو من الموت أو من الشاعر ، هذا فضلاً عن تحرره من قيد الشرط ، الأمر الذى يمنحه شمولاً وعموماً لمطلق الدلالة .

وبهذا الصنيع تتسع رقعة الدلالة المطروحة، وتكشف عن مدى ما تزدحم به نفس الشاعر من انفعالات لا يتسع الشرط بمعياره النسفي لاحتوائها، كذلك تتحقق ظاهرة الانحراف اللغوي في الخروج عن القاعدة العامة لترتيب الجمل من خلال التقديم والتأخير، ” فالأصل في الألفاظ أن تأخذ أماكنها في لغة الكلام العادي، أما في اللغة الأدبية فإن الشاعر يتصرف في اللغة كما يشاء، إذ يظل الشعر شعراً، وهو ليس كذلك بفضل محتواه، ولكن بفضل طريقة صياغته لهذا المحتوى، أي بنية المحتوىلا المحتوى ذاته “. (27)

-التكرار:-
التكرار من الظواهر الأسلوبية التي تلعب دوراً بارزاً في كشف إبداعية النص الشعري، إذ يصور تموجات الحالة النفسية التي تعتريالمبدع ؛ لهذا فإن التكرار يتميز في الشعر الحديث عن مثيله في الشعر القديم ” بكونه يهدف بصورة عامة إلى الإبانة عن دلالات داخلية فيما يشبه البث الإيحائي، إذ ينزع إلى إبراز إيقاع دراميسيكولوجي “. (28)

واللفظ المكرر يمثل بؤرة أو نقطة ساطعة في جسم القصيدة تجذب نحوها الوسائل الفنية الأخرى؛ لتتحد كلها وتسهم في كشف وإزالة الأغلفة التي تحمل في طياتها المعنى الحقيقي، فضلاً عن دوره في إثراء موسيقية النص من خلال الإيحاء بسيطرة العنصر المكرر وإلحاحه على فكر الشاعر وشعوره.

“ويقوم التكرار في القصيدة الحديثة بوظيفة إيحائية بارزة،وتتعدد أشكالهتبعاًللهدف الإيحائيالذى ينوطه به الشاعر، وتتراوح هذه الأشكال ما بين التكرار البسيط الذى لا يتجاوز تكرار لفظة معينة أو عبارة معينة، وبين أشكال أخرى أكثر تركيباً وتعقيداً يتصرف فيها الشاعر في العنصر المكرر بحيث تغدو أقوى إيحاءً “. (29)

لقد برزت ظاهرة التكرار بشكل واضح في شعر (وسام العاني)، وأخذت عدة مظاهر للحضور خلال النص الشعري، فمنها تكرار الحروف، وتكرار الألفاظ (أسماء وأفعال)، وتكرار العبارات، الأمر الذي يضع في أيدينا مفتاحاً للفكرة المسيطرة على الشاعر في أعماق اللاشعور، إذ إن إيقاعية التكرار تمثل عوداً نفسياً للمغزى الدلالي اعتماداً على التجانس النفسي في التطابق الصوتي، وبه يصبح تشكيلاً نامياً ذا دلالات خاصة من خلال التشابهات الصوتية للوحدات الإيقاعية.

أـ تكرار الحروف:-
لجرس الألفاظ له دور كبير في إثارة الانفعال المناسب، لأن الإيقاع الداخلي للألفاظ والجو الموسيقي الذى يحدثه عند النطق بها يعد من أهم المنبهات المثيرة للانفعالات الخاصة، كما أن له إيحاءً نغمياً خاصاً لدى المبدع والمتلقي على حد سواء، لذا فإن تقييم كل تشابه في الصوت إنما يتم على أساس علاقته ـ وجوداً أو عدماً ـ بالتشابه في المعنى، فعلى الصوت أن يبدو كما لو كان صدىللمعنى “.(30)

إلا أن الحروف المجردة لا تعبر عن شيء، وليس لها قيمة موسيقية بمفردها، فالحرف لا يكتسب قيمته الإيقاعية إلا باقترانه مع الحروف الأخرى في الكلمة والعبارة، وتختلف هذه القيمة الموسيقية باختلاف الكلمة، وتظل قيمة هذه الحروف مفقودة إذا انسلخت عن المعنى، إذ إننا نحس الصوت لا من حيث هو صوت صرف، ولكن من خلال المعنى، ونحس بالمعنى منخلال الصوت.
لقد عمد الشاعر (وسام العاني) إلى استخدام بعض الحروف وتكرارها في قصيدة بعينها، ومن أشكال تعامل الشاعر مع الصوت لتشكيل الإيقاع وبناء النص الشعري يكرر الشاعر صوت ” النون ” الذى يعطى إحساساً موسيقياً انفعالياً بمدى الجهد في معاناة التجربة ، يقول :

وها أنا الآن طير فرَّ من غده
والذكريات كمين في يد الأمس
كانت تعلمني النسيان أجنحتي
لكنها أفلتتني آخر الدرس
قد ينتشي الغيم زهواً حين يحجبها
حتى تبدده إشراقة الشمس
يعلو النخيل ولا ينسى صداقته
مع التراب الذي في موطن الغرس
يا حزننا حين يمضي الوقت من يدنا
فليتها دارت الأيام بالعكس
حضن المنافي بخيل لا عناق به
على السواعد يتلو آية الحبس
يا صاحبي نحن لم نفقد أصابعنا
بل مات في جلدنا الإحساس باللمس(31)

في النموذج السابق نلاحظ انتشار حرف ” النون ” في نسيج الصياغة بشكل يدل على معايشة التجربة، إذ تكرر(27) مرة، والنون من الأصوات الأنفية التي يحبس الهواء فيها حبساً تاماً في موضع من الفم، ثم ينخفض مما يساعد الهواء على المرور عن طريق الأنف، ولعل مثل هذا الصوت المحبوس والضيق الذى يصاحبه، وخروج الهواء من الأنف يأتي منصهراً في بوتقة التجربة ممتزجاً بها، كما أن النون” من الأصوات اللثوية، التي تشبه الحركة في قوة الوضوح السمعي “. (32)

كل هذه الصفات المصاحبة لهذا الصوت ساعدت الشاعر على تبيان مدى الحزن والألم الذي يحرقه، وكأننا نسمع ذلك الأنين المكتوم الذي صاحب الشاعر في وصف تجربته، وقد استطاع الشاعر أن يبلغ بهذا الصوت مداه في التأثير وكأنه أنين متصل حين ربط النون ” بحروف المد ” الحركات الطوال ” التي تعطى مساحة زمنية رحبة، تتفق مع الحالة المأساوية التي يعيشها،والتي تحتاج إلى امتداد صوتي مصاحب للأنين والشكوى.
ليس معنى هذا أن الصوت المفرد يحمل دلالة ذاتية قبلية كامنة فيه، إذ من الممكن أن يحاكى كل هذه المعاني صوت آخر مختلف في صفاته عن صوت “النون” ولكن الشاعر استطاع أن يشحن هذا الصوت بهذا البعد الدلالي من خلال موقعه في السياق.

والشاعر إذ يسعى إلى استغلال قيمة الإمكانيات الصوتية، فإنما يهدف إلى إيجاد نوع من التماثل الصوتي الذي يساعد على تجسيد التجربة الشعرية، لذا فالشاعر يتعامل مع الأصوات تعاملاً خاصاً يستنطق من خلاله خصائصها السمعية التي تؤثر في إنتاج الدلالة.
واختيار الشاعر للألفاظ يتم في ضوء إحساسه بمعانيها وإيحاءاتها، من خلال فهمه للغته وعدة فنه، وطبيعة العلاقة التجاورية للألفاظ بعضها ببعض، مما يؤدىـ في النهاية ـ إلى كشف الجوانب الكامنة في اللغة الشعرية، كما يكشف عن عوامل الربط بين هذه الظواهر التكرارية وبين البناء الشكلي للعمل الفني.

هذا، ويمثل تكرار الألفاظ والعبارات ملمحاً أسلوبياً مميزاً في شعر (وسام العاني)، يعتمد عليه كأسلوب فني يحتوي على إمكانيات تعبيرية متعددة بواسطة الإلحاح على إعادة هيئة التعبير لاستثارة المخزون والمكبوت النفسي من المشاعر والأحاسيس. وتتعدد عنده العناصر المتكررة ما بين كلمات وعبارات، وتتخذ هذه العناصر أشكالاً، تؤكد كلها على أهمية التكرار واعتماد الشاعر عليه في بناء النص الشعري إيقاعياً ودلالياً.

ومن أشكال التكرار في شعر(وسام العاني) ما يسمى بـ (الترديد ) وهوتعليق الشاعر لفظة في البيت متعلقة بمعنى ، ثم يرددها فيه بعينها ويعلقها بمعنى آخر في البيت نفسه،
ويعد التكرار بالترديد من الأساليب، التي تتميز بقدرتها على ترتيب الدلالة والنمو بها تدريجياً في نسق أسلوبي يعتمد على التكرار اللفظي، كما أن هذا الأسلوب يجعل المتلقيمشاركاً مشاركة فعلية في استكشاف جماليات التعبير الفني، إذ يدفعه إلى قراءة البيت مرة ثانية ليقف على أثر التوزيع والاختيار اللذين يعدان من أبرز سمات العمل الإبداعي. ومن نماذج الترديد في شعر “وسام العاني” قوله:

وطن المحبات التي نذرت لكل
العاشقين من الفرات شرابها
وطن المآذن في الصباحات الندية
حين تغزل للقرى أثوابها
وطن اشتعال الأمسيات إذا اشتهت
نار القصيدة حولها أحبابها
وطن المواويل التي ما ثم من
لغة تفسر حزنها وعذابها(33)

في النموذج السابق نلاحظ تكرار/ تردد كلمة ” وطن ” هذا التردد يقوم على اكتساب معان ٍ جديدة من الألفاظ المجاورة مما يخرجه عن النمط المألوف ، ويعدل به عن دلالة المطابقة إلى الناحية الإبداعية ،لأن العنصر المتردد في سطور القصيدة هو نفس العنصر الأول فيها ،لكنه في المرة الثانية غيره في المرة الأولى ،وفي المرة الثالثة غيره في المرة الثانية وهكذا ؛ لأن وجود اللفظ نفسه أكثر من مرة في بنية تركيبية مختلفة يحدث التفاتاً من الأول إلى الثاني إلى الثالث ، ولا شك أن هذا التغاير يجعل المتلقي أكثر انتباهاً لما حل به من تغيير .

فالوطن الأول هو مهد الحب الذي يروي العاشقين من عذب فراته،ثم يظهر لنا جانب آخر من جوانب هذا الوطن نستشعر فيه شعائر الإسلام مع أصوات المآذن تصدح بنداء الحق تستقبل بالخير والحب والسلام يوماً جديداً، وثمة بعد آخر من أبعاد الوطن نراه في أرض الشعر ورمز الفكر التي تنظم قصائدها حباً وعشقاً يستقي من معينه الشعراء على اختلاف مشاربهم، وها هو أخيراً وطن المواويل الشجية التي تسبر أغوار الذات وتشدو لتشجو بلغة لا يدرك معناها إلا من عاش مفرداتها في أساها، وفطن لسر مبناها!
وهكذا يتضح لنا أن التردد كنمط تكراري يتحقق معه دفع المعنى إلى النمو تدريجياً وصولاً إلى الحد الذى يحسن الوقوف عنده ، حتى يمكن أن نعد اطراد المعنى تداخلا ً مع وجوه الحال المناسبة فيه.

ثمة شكل أخر من أشكال التكرار في شعر(وسام العاني)ألا وهو تتابع اللفظ المكرر في أوائل السطور بشكل متتال ٍ، وتتعدد مظاهر هذا النمط التكراري، فقد يكون المكرر حرفاً أو اسماً أو فعلاً ” ويحقق هذا الشكل بملامحه المتعددة توازياً صوتياً واضحاً نتيجة للترجيع الصوتي،كما أنه يساهم في ترابطمكونات /سطور القصيدة، فهو وسيلة ناجحة في تمديد العبارة، وعرض الكثير من تفاصيل الفكرة / الصورة التي يعرضها الشاعر “. (34) وينفرد الفعل بالتكرار المتراكم تأكيداً على الحدث والزمن، يقول الشاعر:

أشكُّ في غربتي بالماء والنهر
بكل من آمنوا بالغيم في شعري
أشكُّ بالوقت إن جاعت عقاربه
ولم تجد غير ما ألقيت من عمري
أشكُّ في قبلة الأحزان قيل بها
طاف الكثيرون لكن لا أرى غيري
أشكُّ باللحن إن غنى (الفرات) على
صدري ونام صغار الحزن في حجري
أشكُّ بالميتين السمر في وطني
ماتوا ولم يشتكوا قلة الأجر(35)

لا شك أن تكرار الفعل (أشكُّ) بهذه الصورة يحفر بعمق في ذات الشاعر ليكشف عن مدى المعاناة التي تكسو التجربة، فالفعل ” أشكُّ” بمثابة محور ارتكاز ينطلق منه الشاعر إلى تصوير بعد معين من أبعاد رؤيته الشعرية، فإذا ما انتهي من هذا البعد انطلق إلى بعد آخر من خلال التكرار.
إن الشاعر يتحدث عن حالة التيه والضياع والإحساس بالاغتراب عن نفسه ومجتمعه،ويصف مشاعره في أغنية حزينة يسكب آهاته على أوتارها،لكن الجراح إذا ما شكونا تزيد، والشك قاتل والظن مميت حين يطال الجميع.
هكذا يكشف تكرار الفعل عن الحركة العميقة السارية في بنية النص، وذلك عن طريق امتداد اللقاء إلى الزمن المستقبل، فالمضارع بحكم مواضعته يعطه معنى التجدد الحضوري الذي يمتد إلى الآتي.

لقد جاء التكرار ليكشف لنا عما تموج به نفس الشاعر تجاه اللفظ المكرر، إذ يكتسب التركيب معاني إضافية مع كل مرة يتكرر فيها، مما يقوى ويؤكد الدلالة المطروحة، ويجعل الحركة الناتجة عن هذا التكرار إيقاعاً يسري في بنية النص، كما تسري هذه المعاني المتدفقة.

ثالثاً: الصورة الشعرية:
أصبحت الصورة الشعرية من السمات الأساسية للشعر العربي في العصر الحديث – وإن كانت سمة مميزة له من أقدم العصور- إذ تحظى بحضور خاص لما يضفيه الشاعر عليها من ظلال وخطوط وألوان ذات دلالات نفسية وإيحاءات تعبيرية تعمل على تجسيد المشاعر والأحاسيس المختلفة.

وبواسطة الصورة الشعرية يتمكن الشاعر من تجسيد أبعاد تجربته، وذلك بإعادة تشكيل الواقع وإبرازه في صورة فنية جديدة، باعتبار أن الصورة” تشكيل لغوي يكونها الفنان من معطيات متعددة، يقف العالم المحسوس في مقدمتها “. (36)
ومن ثم ارتبطت الصورة بموقف الشاعر من الحياة ونظرته للأشياء من حوله، وبذلك أصبحت الصورة تعكس مشهداً حياً يوحى بتجربة نفسية خاصة.
ولا يعنى ذلك أن تكون الصورة نقلاً حرفياً للواقع، ورصداً حقيقياً لأحداثه بالاعتماد على الوصف والتقرير المباشرين، ذلك أن الخيال أساس الصورة وعلتها التي تدور في فلكها وجوداً وعدماً ” والصورة هي أداة الخيال ووسيلته الأولى التي يمارس بها ومن خلالها فعاليته ونشاطه “(37)
وميزة الصورة لا ترجع إلى جدتها أو غرابتها بقدر ما ترجع إلى قدرتها على الإيحاء بدلالات متعددة وثرية، ونجاحها في إثارة حساسية القارئ وعواطفه، فالبعد النفسي / العاطفي شرط جوهري لنجاح الصورة ” فالصورة بدون عاطفة فارغة، والعاطفة بدون صورة عمياء “.(38)

ـ الصورة الجزئية: ـ
إن الصورة الجزئية وإن كانت تمثل الشكل البسيط للصورة الشعرية، فإنها لا تقل أهمية عن الصورة الكلية في التعبير عن التجربة؛ إذ تعد الصورة الجزئية ” شريحة من القصيدة تحمل سماتها النفسية ودلالاتها المعنوية، وهي تنبني بعدة أساليب ووسائل تنبثق من وجدان الشاعر متلاحمة مع أفكاره وأحاسيسه والألفاظ التي ينتقيها والموسيقى التي تحويها “.(39)

لذلك يجب أن يكون تأمل الصورة الجزئية في إطار الوحدة الشاملة التي تربطها بالدلالة الكلية للنص الشعري، حيث يترجم الشاعر الموقف النفسي إلى تصوير شعري معتمداً على طرائق تعبيرية وتصويرية متعددة؛ كالتشبيه والاستعارة والمجاز ….. وغيرها من الوسائل البلاغية التي تمنح الصورة خصوبة وامتلاءً.

لقد اعتمد (وسام العاني) على هذه الأدوات القديمة في بناء صوره ، لكنه لم ينطلق من المفهوم القديم الذى لا يرى في التشبيه إلا وجه الشبه الذى يجمع بين الطرفين ، دون مراعاة مرامي التشبيه وغاياته النفسية ، ولا يراعى في الاستعارة إلا القاسم المشترك الذى يربط بين المستعار والمستعار له ، دون استبطان الدلالة الشعورية التي يقصد إليها الشاعر ، وإنما جاء استخدامه لأدوات البلاغة القديمة في إطار ” الخلق التصويري الذى يأتي معادلاً لانفعال الشاعر ، هذا الانفعال هو الذى يحث الخيال على إعادة تحليل وتركيب البناء اللغوي ، وذلك ببث حيوية مخصبة في أعراق تلك العلاقات التي يزيل الشاعر عنها رتابتها و ينفض نمطيتها بعد أن فقدت اللغة مجازها اللصيق بها في نشأتها الأولى ” . (40)
وحسبنا – هنا – أن نقف عند التشبيه والاستعارة بوصفهما أبرز مظهرين تتجسد خلالهما الصورة الجزئية في شعر(وسام العاني).
( أ ) التشبيه :
يعتمد (وسام العاني) على التشبيه كأسلوب بياني لتشكيل الصورة الشعرية التيهي وسيلة الشاعر لتجسيد أبعاد تجربته، والتشبيه بوصفه ضرباً من التشكيل اللغوي للألفاظ، تسهم المفردات المكونة له بدور كبير في أداء الوظيفةالدلالية المنوطة به.
لذلك لا ينبغي النظر إلى بنية التشبيه على أنها مجرد مقاربة بين شيئين لاشتراكهما في صفة أو مجموعة من الصفات، وإنما باعتبارها خلقاً آخر ناتجاً عن سبر المبدع لأغوار الأشياء وربطه بينها بوشائج فنية / نفسية جديدة، لتخرج للمتلقي في صورة فريدة ومتميزة يستشف من خلالها ملامح الرؤية التي تعبر عنها التجربة.

وعلى هذا يصبح التشبيه ” نقلة شعرية حقيقية، إذ يتجه الشاعر إلى التفرد والتعبير عن الذات وعن واقعها النفسي؛ خالقاً علاقات لغوية خاصة جديدة بين المشبه والمشبه به، محركاً العلاقة بين الطرفين إلى موازنة نفسية تحمل مشاعره وتصورها “.(41)

التشبيه بالأداة:ـ
لا شك أن لبواعث التجربة وطبيعة الموقف الانفعالي الذي يعايشه الشاعر دوراً كبيراً في تحديد بنية الصورة ونمطها،و إيثار الشاعر لشكل من أشكال التعبير التصويري؛ ذلك أن قانون اللغة العادية يعتمد على التجربة الخارجية، لكن قانون اللغة الشعرية يعتمد على التجربة الداخلية، التي تملى على الشاعر نمطاً معيناً من التركيب.

لقد مر(وسام العاني) – في سبيله إلى تصوير أبعاد تجربته – بعدة مراحل، وجرّب أساليب متنوعة كانت تتغير وتتطور وفق ما يطرأ على موقفه من تغيير، وحسب ما يكتسبه من نضج فني وشعوري، وما دام الشاعر يفكر بالصورة،فمن الطبيعي أن تتغير ملامح هذه الصورة بتغير المرحلة الفكرية التي يمر بها.
ومن الصور التشبيهية التي تنفذ إلى أعماق التجربة الشعرية رغم وجود الأداة، قول الشاعر:

وأنت وحدك تستجدي مواسمهم
كمنجل لم يعد في بال من حصدوا
كالميل تذرع جمر الوقت منفرداً
على الجدار الذي بالصمت ينفرد(42)

لقد رسم لنا (وسام العاني) في المقطع السابق واحدة من الصور التشبيهية الناجحة التي تحولت من كونها بلاغية شكلية إلى صورة شعرية فنية ؛وذلك بتوقيعها نفسياً خلال نسق يستثير مخزون الذات من الأحاسيس والمشاعر؛ فهولا يحزنهفقد الأشخاص، ولكن يخشى خسارة نفسه وهو يستجدي وصلهم، فمن لا يعتبر وجودك مكسباً له، لا تعتبر غيابه خسارة لك، فالحياة لا تعني امتلاك كل شيء، بل تعني خسارة كل شيء تدريجياً.
إن اعتماد الشاعر على الأداة ” الكاف ” يوحى بوجود مسافة فاصلة بين طرفي الصورة، يمكن اجتيازها عبر خطوط التوازي النفسي الذي ربما ضعفت إيحاءاته لو عمد الشاعر إلى توحيد الطرفين، حيث يترك لنا الشاعر أن نحسب ” مسافة الفجوة المعنوية بين الدال والمدلول “.(43)

إن شاعرية الصورة لم تعد تعنى تلك اللوحة التي تكاد تكون وحدها شعراً قبل أن تنتظم في بنية النص، بل أضحت تكتسب شاعريتها من موقعها في القصيدة وتناسبهاوتشابكها وتكاملها مع غيرها من عناصر التشكيل الفني.

* التشبيه محذوف الأداة: ـ
يعمد الشاعر إلى الحذف في بنية التشبيه، ويكون تصرفه في الأداة ووجه الشبه رغبة في تحقيق الانسجام بين الشكل والموقف الذي تعايشه التجربة ” كما يحظى المتلقي في هذا النوع من التشبيه بمشاركة قوية في كشف إبداعية وجمال الصورة، وتصبح الدلالة الرابطة بين عنصري التشبيه ليست محدودة، بل للمتلقي أن يستنتج معاني متعددة وأوجهاً تظل تطرحها لغة الشعر، تلك اللغة الحية المتنامية التي تظل تتفجر في مجالالإبداع “.(44)

ورصد الناتج الدلالي لهذه البنية التشبيهية يتطلب تحديد وظائفها النحوية داخل السياق الشعري، حيث يتم الربط بين طرفي الصورة بوسائل متعددة، أكثرها وقوع المشبه به خبراً عن المشبه حيث تصل العلاقة بينهما إلى حد التلاحم الدلالي، ذلك أن “الخبر هو المبتدأ في المعنى، أو هو وصف له على أقل الاحتمالات “. (45) ومن ذلك قول الشاعر:

أنا دمعة…
لكن قافية الحنين بريئة
وبلادي المأساة
وطني العواصف
والحروف سفينتي
فبأي بحر تأمن المرساة
هذي الحياة غزيرة بسهامها
والعمر طير
والمدى غابات (46)

نلاحظ أن الصورة التشبيهية جاءت في السطرين الثاني والثالث جامعة بين ” أنا، بلادي، وطني، الحروف، العمر، المدى ” وبين” دمعة، المأساة، العواصف،سفينتي، طير، غابات” على سبيل المشابهة، لكن نتيجة للتشكيل النحوي تحول التشبيه إلى نوع من التوحد بين كل طرفين، حيث جاء المشبه به في كل صورة خبراً عن المشبه، فتعلق به تعلق الصفة بموصوفها عندما تتداخل معه.
فقوافي الحنين بريئة من دموع الحزن التي تملأ عيني الشاعر، ومرجعها للمأساة التي تعيشها بلاده، والأنواء العاتية التي تجتاح وطنه، ولا سبيل للمرسى فسفينة الحروف تائهة في بحر لجي لا تجد مرفأ، والعمر يفرُّلا يدري أين المأوي؟ والمجهول خلف تخوم الغابات يبعث على الحيرة والخوف، وينتهي الأمر بالضياع! وهكذا، نجد أن الشاعر لا يستطيع أن يكون دقيقاً تجاه الأشياء ما لم يكن دقيقاً في المشاعر التي تربطه بها، إنها الحاجة للتعبير عن العلاقة بين الأشياء، ثم بين الأشياء والمشاعر، تلك الحاجة التي تدفعنا للصورة.

ب- الاستعارة: ـ
تقوم الصورة الاستعارية بزعزعة أساسات الواقع الثابتة، لتقيم على أنقاضها عالماً جديداً تحكمه قوانين نفسية / دلالية جديدة، كما تحدث خلخلة في بنية الجملة، إذ تسند الفعل إلى ما ليس له في الحقيقية، وتصف الأشياء بما لا يتأتى لها أن توصف به في الواقع.

ومن ثم تكمن أهمية بنية الاستعارة ” ليس في صنع الفضاء الشعري فحسب، بل إن أهميتها تتمثل في الكشف عن رؤية الشاعر لمفردات عالمه، وموقفه من التعامل الشعري معها، حيث تعنى أبنية الصورة الاستعارية أن (التحولات) هي أبرز الملامح التي سيطرت على مفردات هذا العالم ، ولم يسلم منها المبدع نفسه ، إذ أصابت التحولات خارجه و داخله، فتجاوز حدود الحواس في التعامل مع مدركاتها ،أو لنقل إنه تعامل معها تعاملاً خاصاً يهيئ لها أن تحلق في دائرة الشعرية “.(47)

ومن ثم تأتى دراستنا للاستعارة من خلال البعد النحوي الدلالي؛ وذلك بالوقوف على طبيعة بناء الشاعر لاستعاراته على المستوى اللغوي، والدلالة الناجمة عن ترابط الدوال ترابطاً جديداً.
هذا، وتكشف البنية النحوية للاستعارة عن عدة أنماط نحوية / دلالية يتوسل بها الشاعر لتشكيل صوره الشعرية، ولا شك أن هذا التعدد في البنية النحوية يوحى بالتنوع والثراء الدلالي للصورة الاستعارية، وأهم هذه الأبنية:
1- الاستعارة الفعلية : ـ
يتعامل الشاعر مع الصورة الشعرية باعتبارها وسيلة ـ لا هدفاً ـ يسعى من خلالها لتجسيد معانيه وتشخيص أفكاره وتصوير شعوره بواقعه، ومن ثم يأتي اعتماده على الاستعارة الفعلية/المكنية، إذ يضيف الفعل إلى المشبه؛ حتى يثرى الصورة بالحركة، ويبث فيها الحيوية، ويبعث في أوصالها الحياة، ومن ناحية أخرى يقوم الشاعر بصهر طرفي الصورة / الاستعارة في بوتقة واحدة ليصبحا شيئاً جديداً مغايراً لكلا الطرفين على حدة.
وليس لزاماً أن يكون هذا المعنى الجديد نابعاً من التشابه الواقعي بين المستعار منه والمستعار له، وإنما المهم أن يوحى بأبعاد التجربة ويثير الإحساس الذي يعايشه الشاعر بشكل أكثر عمقاً وأشد تأثيراً، ومن ثم لن يقتضي تحليل دلالة الصورة أن نسلك طريق التأويل للبحث عن وجه الشبه بين الطرفين، وحسبنا السعي إلى بيان قيمة الصورة فنياً وكشف ملامحها وخطوطها دلالياًونفسياً. يقول (وسام العاني):

أترى مثلي
تنحتك الريح
بدون ملامح واضحة
وبلا قدمين
تأكلك الوحدة
في هذا الأفق المزحوم
بأنياب الصمت (48)

بدلاً من أن نقول إن الشاعر اعتمد في بناء صوره – خلال المقطع السابق – على الاستعارة المكنية / الفعلية، حيث شبه ” الريح” بإنسان وحذف المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه، وكذلك ” الوحدة ” وينتهي الأمر عند ذلك، بدلاً من هذاالتأويل الشكلي، نقول بأسلوب آخر أقرب إلى استبطان حقيقة الصورة وسبر أغوارها: إن الشاعر يبحث عن نفسه وسط الزحام، فقد غابت ملامحه وفقد ذاكرته، ووقف وحيداً يتدلى في قفص النسيان بلا ماض ولا حاضر ولا مستقبل!

لقد تحولت المفردات الحسية في سياق التجربة الشعرية و داخل إطار الصورة الفنية من مجرد ألفاظ جامدة إلى إشارات انفعالية و إيماءات رامزة، ترتبط بمخزون النفس من المواقف و المشاعر، والشاعر حين يجمع هذه المفردات / الرموز الإيحائية فإنما يهدف إلى إثارة ما يرتبط بها من رصيد انفعالي، لذلك يقوم بإسناد الفعل إلى ما ليس له في الحقيقة، ومن ذلك قول الشاعر :

في الأفق لا ضفة تلوح ،وأخرس
ماء البحار ولا مركب تصدح
الريح ترطن بالجهات فكيف
تفهم والخواء بصمته يتوشح
عمر تأرجح والحبال متاهة
ليست خرائطنا التي تتأرجح (49)

حيث تتكون الصورة الشعرية الاستعارية ـ هنا ـ من مجموعة لقطات حركية تعكس أبعاد الحالة النفسية الانفعالية في نسق تصويري لا يتأتى للتعبير الحرفي إدراك كنهه، ” فالأداء الفني كأنه انفلات من قسر محدودية المضمون، ليكون ذلك الخلق المستمر لصور تتشكل في رحابة الوعي واللاوعي، متجاوزة في ذلك التشكيل المدركات الواقعية المتكدسة في حرفية الرؤية المباشرة “. (50)

إن الشاعر لا يستخدم الكلمة في معناها الحقيقي المباشر، وإنما يعتمد على إيحاءات الألفاظ، ذلك أن لغة الشعر لغة تصويرية ذات شحنة انفعالية خاصة، فالمراكب ” لاتصدح “؛ لأن ماء البحار (أخرس)، فما جدوى غنائك لصم الآذان ؟!، حتى الريح (ترطن) بكلام غير مفهوم، فالصمت إذن هو الأفضل، وليس بوسعنا سوى أن ننظر إلى أعمارنا وهي على حبال المتاهة تتأرجح. وهكذا يأتي التشخيص والتجسيم محملين بفيض من الدفق الشعوري / النفسي- كما في المقطع السابق – الذي يحدد إطار الصورة الشعرية التي ينسج الشاعر خيوطها على منواله.

(2) الاستعارة الاسمية :-
تنطلق الاستعارة التصريحية في شعر (وسام العاني) من الاعتداد بالاسمية في دلالتها على الأحداث والنعوت، فكأنها تقتنص حقائق الأشياء وماهيتها، كما أنها حين تتداخل في سياق العلاقات الدلالية تفقد طبيعتها الأولية كمادة معجمية، وتندمج في خصائص الاسم الذي أضيفت إليه، ومن ثم تتوتر العلاقات بين طرفي الصورة الاستعارية، فتغدو الأشياء وقد أحيلت من سمة الحضور إلى سمة الغياب؛ حيث يحذف المستعار له ويذكر المستعار منه.

ومن ثم تصبح الاستعارة الاسمية ضرباً نفسياً / دلالياً لسبر أغوار الأشياء وكشف حقائقها وإبراز ديمومتها بخلوها من التعبير عن الزمن وتحولاته.
وتتميز الاستعارة الاسمية بثرائها الدلالي، حيث تتيح للمتلقي حرية استكشاف علائق الصورة، إذ ليست هناك أية إسقاطات مفروضة من لدن المبدع، وإنما يتسع مجال التحليل والتأويل تبعاً لشفافية الصورة أو كثافتها، غاية ما في الأمر تأييد الدلالة المستقاة من نبع الصورة بقرائن من النص الشعري ذي الوجوه المتعددة. يقول (وسام العاني):

إلى الطفولة حيث النفس راغبة
عن الوقوف على بوابة الرجس
لأنفس كانت المرآة تحسدها
على النقاء الذي في داخل النفس
لرنة تحرس الأسماء كان لها
طعم كطعم الأغاني ليلة العرس
لضحكة خانها الإيقاع فانطفأت
وظل إيقاع هذه الأدمع الخرس
حضن المنافي بخيل لا عناق به
على السواعد يتلو آية الحبس
يا صاحبي نحن لم نفقد أصابعنا
بل مات في جلدنا الإحساس باللمس(51)

يضفي الشاعر الحياة على استعاراته ويمنحها بعداً إنسانياً ورمزياً في نفس الوقت؛ حيث تبدو الصورة الاستعارية ” أنفس المرآة تحسدها ” في إطار فني تليه بداية معللة ودافعة، ونهاية تسعى إليها الخطوط والظلال والألوان بالتحرك عبر دروب التشكيل الإبداعي، بداية بحرف الجر “على”، وصولاً إلى النعت بالاسم الموصول ” الذي ” للتأكيد على تلك القيمة الإنسانية (النقاء والطهر) التي أصبحت أثراً بعد عين ، ومن ثم عبر عنها بالفعل الماضي (كانت) . وهكذا تتوالى الاستعارات الاسمية في المقطع السابق؛حيث نرى(الرنة تحرس الأسماء، والضحكة خانها الإيقاع فانطفأت، وحضن المنافي بخيل، ونفس الحضن على السواعد يتلو آية الحبس). وبتأمل المقطوعة السابقة نجد صورة فنية متكاملة، تكتفي بذاتها في بيان صورة المشبه كما يريدها الشاعر من خلال التناسب بين طرفيها على المستوى النفسي / التحتي للصورة، الأمر الذي يؤكد حضور المتلقي ومشاركته في إنتاج الدلالة باستجلاء الأبعاد النفسية للصورة. ومن ثم تصبح الاستعارة ” وسيلة لخلق أسلوب يتسم بالحيوية ويكسب اللغة ثراءً تفتقده في نمطيتها الأدائية، وذلك لأنها تعمل على كسر العلاقة النمطية بين الدال والمدلول، وفي الوقت نفسه فإنها ترتكز ـ في ذلك ـ على نقل انطباعات داخلية تسعى لنقلها جملة واحدة “.(52)

(3) الاستعارة الوصفية: ـ
تأتى الاستعارة الوصفية في شعر (وسام العاني) لتجمع بين مفردات يأبى المنطق اقترانها وذلك لوصفها بما لا توصف به أبداً ، لكن كلما اعتمد الشاعر في بناء صوره الاستعارية / الوصفية على الروابط النفسية / الشعورية ، ازدادت الصورة ثراءً وإيحاءً ، بعيداً عن التفسير العقلي حيث ” تدخل في سلسلة من العلاقات متعددة الأطراف ، تشمل علاقة المفردة بالمفردة ( معجمياً وتركيبياً ) وعلاقة المفردة بالمفهوم( دلالة المفردة ومرجعها ) ، وبهذه الطريقة تتولد الصورة الشعرية وتنبني محملة برؤية خاصة للواقع ، وكاشفة عن نظرة الشاعر للأشياء والأحياء ” .(53)

يقول (وسام العاني)
تعالي نجرف خواء الكلام
فقد ضقت باللغة القاحله
خلقت برحم القصيدة سهواً
وما ثًمّ في التيه من قابله
زبون أخير بمقهى الغياب
أدخن أيامي الذابله(54)

تكتسب الاستعارات الوصفية – هنا – بعض سمات الاستعارات الفعلية، وخاصة الميل إلى التشخيص، يظهر ذلك في الاستعمال الاستعاري للصفات( القاحلة، الذابلة) وصفاً للمستعار له – على الترتيب – (اللغة، الأيام)، فالألفاظ المستعارة مشتقة من أفعال هي (قحل، ذبل) مما يكسبها سمات الاستعارة بالفعل، الأمر الذى يزيد فاعليتها في الإيحاء بأبعاد نفسية وشعورية من خلال الصلات الروحية الخفية بين الصفة والموصوف .
ولهذا تكتسب الاستعارة الوصفية حضوراً خاصا ً باستخدامه لها دون غيرها،إذ يلقي عليها من ظلال شخصيته ويخضعها لطبيعة موقفه والتأملات اللاشعورية التي تتفاعل معها في أعماقه؛ فماذا ننتظر من لغة قاحلة؟ وكيف يعيش المرء وأيام عمره ذابلة تكاد تسقط بين لحظة وأخرى!
إن الوقوف على التشكيل الاستعاري وكشف السمات المشتركة بين المستعار منه والمستعار له، يساعد كثيراً في استكشاف طبيعة إدراك الشاعر لمفردات عالمه المحيط به، والتماسه لوشائج جديدة تربط بين الأشياء، هذا ومن النماذج الجيدة للاستعارة الوصفية قول الشاعر:

تعلمت من أمي طباع بحيرة
بها بجع الأحزان يغسل جلده
وطبع قناديل تصادق سهدها
لينزع في أحضانها الليل سهده (55)

حيث تبدوقيمة الاستعارة الوصفية من خلال اعتمادها على ازدواجية الرؤية التعبيرية، هذه الازدواجية التي تجمع طرفي الاستعارة معاً في تركيب واحد، فهي لا تقوم على حذف أحدهما وإحلال آخر مكانه، بل تقوم على المقاربة بينهما وإشراكهما في الصفة، رغم ما بينهما من تباعد في الواقع؛ فقد يتقبل العقل صورة ” البجع وهو يغسل جلده في بحيرة الأحزان ” ولكنه لا يتقبل أن تصادق القناديل سهدها، فضلاً عن هروب الليل إلى أحضانها من سهده!
إن اعتماد الشاعر على الاستعارات الوصفية التي يقوم معناها على الدلالة المعنوية / المجردة يشير إلى استبطان الشاعر لنوع من الازدواجية في الجمع بين ما هو معنوي وما هو حسي في إطار البنية.

(4) الاستعارة الإضافية: ـ
تعد الاستعارة الإضافية أكثر البنى الاستعارية تردداً في شعر (وسام العاني)، ومرد ذلك إلى ما يقع في شعره من تلاحم وتداخل وامتزاج بين الأشياء، ومن ثم تكون الحاجة إلى منطق جديد، تأتلف فيه المختلفات وتتعانق فيه الأضداد، وليس أقدر على صياغة هذا المنطق من التشكيل الإضافي للاستعارة.
وتكمن أهمية الاستعارة الإضافية في ” معرفة انحرافات الألفاظ عن معانيها الأولى من خلال الإضافات، ثم استكناه ذلك التواشج القائم بين اللفظين واندماجهما في ثوب جديد، فالإضافة تعبر عن ذلك التلاحم بين المواد الذي يصل إلى حد انصهار اللفظين وتداخل ملامحهما، ووصولهما إلى تركيب جديد يعد إثراءً للألفاظ وللرؤية الإنسانية للشاعر في آن واحد “.(56) وتأتى الاستعارة الإضافية على صورة مركب إضافي يجمع بين المستعار والمستعار له في بنية تصويرية تتميز بثرائها الدلالي والإيحائي، ومثال ذلك قول الشاعر:

يرى شمال الغياب الآن
حيث مشى
منذ اختفى
من جنوب العمر معظمه
مذ جفَّ فيه الفتى الطيني
وانكسرت فخارة الحلم
والأوهام تضرمه
يحاول الآن
شتى المعجزات لكي
يطل من يابس الأيام برعمه(57)

بالتأمل في هذه الدفقة الشعرية / الشعورية تبدو جماليات الاستعارة الإضافية في الجمع بين طرفين متباعدين، ومن ثم يكون التماس التناسب بين الطرفين على المستوى النفسي؛ من خلال النظر إلى سياق الصورة الشعرية لمعرفة مكوناتها وكشف أبعادها وسبر أغوارها الدلالية / النفسية، إذ ربما تبدو الصورة للوهلة الأولى بلا نقطة التقاء دلالي محوري يجمع بين طرفيها، كما هو الحال في النموذج السابق، فأي رابط يجمع بين ” شمال الغياب ” و ” جنوب العمر ” من ناحية و ” فخارة الحلم ” و ” يابس الأيام” من ناحية أخرى؟
لعل الأنسب أن نلتمس الرابط بين هذه البنى / الصور الاستعارية عبر السياق الكلى للقصيدة؛ باستجلاء الفاعلية النفسية باعتبارها عنصراً حيوياً في إحداث التقارب بين الأطراف المتباعدة.
ففي إطار الإحساس بالاغتراب يتجه الخطاب إلى استدعاء المستقبل كنوع من الأملالذي تفتقده الذات في الواقع العقيم الذي يحيطها بكم هائل من الضياع والوهم، باحثاً عن تربة ينبت فيها برعم الغد المنتظر، وقيمة تلك الاستعارات الإضافية تكمن في إحداث التماثل في اللاتماثل، وكأن هناك طاقات روحية إيحائية هي القادرة على جمع المتناقضات في ثنايا الصورة التي تعكس حالة من الإحساس بالضياع بين ماض أليم وحاضر أشد إيلاماً. ومن الأدوات التي يشكل بها (وسام العاني)استعاراته الإضافية استخدام أعضاء الإنسان طرفاً في بنية الصورة، في محاولة لتشخيص وتجسيد المجردات بصهر الطرفين معاً، مثال ذلك قوله:

وصار يحكي لوجه الماء عن وطن
يشيخ حزناً وعن نهر يرممه
وأن باب الأماني
سوره جسد
لكي يمر به لابد يهدمه(58)

حيث يشخص الماء ويجعله إنساناً، وتنبني الاستعارة من الماء وجزء من أعضاء الإنسان ” الوجه ” وبذلك تصبح العلاقة اتحادية، حيث ينشئ الشاعر بنية لغوية تصويرية تشخص المجرد وتجسده وتخلق للظلام يداً، هذا(الوجه)يرمز إلى الحزن (يشيخ حزناً) ، وبذلك يقيم الشاعر علاقة لغوية بين ” الوجه ” و” الماء” ، مما يكشف لنا أبعاد هذا الرمز الشعري داخل النص. هذا بالإضافة إلى قدرة الاستعارة الإضافية على ” انتهاك حرمة العلاقات السياقية وفصم عرى الأواصر الاقترابية، والإجهاز على التوقعات المألوفة، والإطاحة بالكلمات التي يجر بعضها بعضاً بسبب العادات الاستعمالية والاستنامة إلى دعة الترابطات المكررة”. (59)
وبعد …
فليس بين العلوم الإنسانية علم هو أمضى في التطور وأبعد عن الثبات والجمود من الأدب؛ وذلك بحكم طبيعته المتصلة بالمجتمع الذي تتبدل ملامحه يوماً بعد يوم، فضلاً عن اعتماده على الذوق الذي يختلف من أمة إلى أمة، بل غالباً ما تختلف أذواق أبناء الأمة الواحدة من جيل إلى جيل.
ومن ثم فقد أصبح لزاماً على الباحث في مجال الأدب (شعراً أو نثراً ) أن يكون متابعاً لكل جديد في هذا المجال، والأهم أن يكون على وعي تام بما يقدمه هذا التطور والتجديد من وسائل تعينه على حل مشكلات الأدب قديمه وحديثه ، من خلال العمل الذي لا يدفعنا فيه الحماس لمذهب أو مبدأ إلى إغفال مقاييس وأسس الموضوعية الشاملة ، ولسنا في حاجة إلى التأكيد على أن الأدب الحقيقي هو الذي ينبع من داخل الأديب نفسه، وسيان بعد ذلك أن ينفعل صاحبه انفعالاً خاصاً ذاتياً أو عاماً اجتماعياً ، فالأهم أن يكون صادقاً في انفعاله وفي كشفه وجلائه ، حتى يكون هو صاحبه وصانعه ، وبذلك تكون له فلسفته الخاصة التي يستمدها من الواقع الذي يعيشه في شتى مجالات الحياة .
وحسبي من عملي هذا أن يكون انعكاساً لملامح الإبداع عند(وسام العاني) في آفاقها الممتدة ومجالاتها المختلفة.
ولا يسعني ـ الآن ـ إلا أن أسدى تحية حب وباقة وردٍ لمن هم أحق بها وأهل لها، إلى أعضاء الجمعية العمانية للكتاب والأدباء على ثقتهم الغالية في تقديم هذا العمل المتواضع ،سدد الله سعيكم و نفع بكم.

المراجع والمصادر
(1) شكري الطوانسي: مستويات البناء الشعري عند محمد إبراهيم أبى سنة (دراسة في بلاغة النص)الطبعة الأولى ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة 1998م ـ ص 9
(2) عبد السلام المسدي: الأسلوبية والأسلوب- الطبعة الثالثة – الدارالعربية للكتاب – ليبيا ـ (د.ت) ص 36
(3)عبد القادر القط: الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر- مكتبة الشباب ـ القاهرة ـ 1978م ـ ص 397
(4) محمد عبد المطلب: مناورات الشعرية -الطبعة الأولى – دار الشروق- القاهرة – 1996م ـ ص 181
(5)وسام العاني: سيرة الطائر ـ الطبعة الأولى ـ دار الرافدين والجمعية العمانية للكتاب والأدباء ـ مسقط ـ 2023م ـ ص 18،19
(6) السابق /36،37،38
(7)سورة الكهف / 9
(8) سورة يوسف / 10
(9) سورة الصافات / 142
(10) محمد فتوح أحمد: القصيدة العربية المعاصرة إلى أين؟ – مجلة الشعر – العدد 29 –القاهرة – 1983م –ص 17
(11) وسام العاني: سيرة الطائر / 32
(12) كمال نشأت: شعر الحداثة في مصر – الطبعة الأولى – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة – 1998 م ـ ص 278
(13) نزار قباني: الشعر قنديل أخضر – منشورات نزار قباني – بيروت – (د. ت) – ص 44
(14) وسام العاني: سيرة الطائر /79
(15) أحمد عبد الحميد إسماعيل: عبد الله البرد ونى (حياته وشعره) – الطبعةالأولى ـ مركز الحضارة العربية ـ القاهرة ـ 1988 م- ص 83
(16) مصطفي السحرتي:دراسات نقدية – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة -1973 م – ص 113
(17) وسام العاني: سيرة الطائر /49
(18) وسام العاني: سيرة الطائر /63،66
(19) عبد السلام المسدي: الأسلوبية والأسلوب / ص 37
(20) وسام العاني: سيرة الطائر /64ـ67
(21) محمد فكرى الجزار: لسانيات الاختلاف – الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة – 1995 م– ص238،239
(22) وسام العاني: سيرة الطائر /73،74
(23) محمد عبد المطلب: قراءات أسلوبية في الشعر العربي الحديث– الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة – 1995 م– ص 181
(24) وسام العاني: سيرة الطائر /128
(25) عباس حسن: النحو الوافي – الجزء الرابع – الطبعة الثانية – دار المعارف – القاهرة – (د.ت) – ص 459
(26) وسام العاني: سيرة الطائر /30
(27) يسرية يحيى المصري: بنية القصيدة في شعر أبى تمام – الطبعة الأولى– الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة – 1997 م– ص 383
(28) محمد الهادي الطرابلسي :خصائص الأسلوب في الشوقيات– منشورات الجامعة التونسية – تونس – 1981 م– ص 294،295
(29) عبد القادر حسين: فن البلاغة – مؤسسة الرسالة – القاهرة – (د. ت) – ص 118
(30)محمد الدسوقي :علم المعاني في ضوء علم الأسلوب الحديث” دراسة تطبيقية ” الطبعة الأولى – مطبعة الشوربجي – طنطا – 1996م- ص 83
(31) وسام العاني: سيرة الطائر /25،26
(32) مصطفى السعدني :البنيات الأسلوبية في لغة الشعر العربي الحديث ـ منشأة المعارف – إسكندرية – 1987 م- ص 152
(33) وسام العاني: سيرة الطائر /124،125
(34)السيد فضل: لغة الخطاب وحوارالنصوص(دراسة في ديوان ناجى)(د.م) ـ بنها ـ 1992 م- ص 48
(35) وسام العاني: سيرة الطائر /96،97
(36) علـى البطـل: الـصـورة في الـشعـر الـعـربـي – الـطبعـة الثانية –دار الأندلس – بيروت – 1981م-ص 30
(37) عبد الخـالـق محمـود: شعر ابن الـفـارض في ضوء النقد الحديث – الطبعة الثالثة–دار المعارف القاهرة – 1984م – ص 105
(38) كروتشه: المجمل في فلسفــة الفـن – ترجـمة: سامي الدروبي(د. م)-القاهرة- 1947م – ص 55
(39) كمال أحمد غنيم: عناصر الإبداع الفني في شعر أحمد مطر – الطبعة الأولى ـ مكتبة مدبولي ـ القاهرة ـ 1998 م– ص208
(40) رجاء عيد :دراسات في لغة الشعر ” دراسة نقدية ” – منشأة المعارف – إسكندرية ـ 1985 م -ص 114
(41) مدحت الجيار :الصورة الشعرية عند أبى القاسم الشابي – الدار العربية للكتاب – ليبيا – 1984 م– ص 189
(42) وسام العاني: سيرة الطائر/40
(43) صلاح فضل :أساليب الشعرية المعاصرة – الهيئة العامة لقصور الثقافة– القاهرة – 1996 م– ص 32
(44) محمد الدسوقي :علم البيان العربي في ضوء علم الأسلوب الحديث ” دراسة تطبيقية ” الطبعة الأولى – مطبعة الشوربجي – طنطا – 1994م- ص 104
(45) محمد عبد المطلب: قراءات أسلوبية / 74
(46) وسام العاني: سيرة الطائر130،131
(47) محمد عبد المطلب: قراءات أسلوبية / 76
(48) وسام العاني: سيرة الطائر/ 44
(49) وسام العاني: سيرة الطائر/ 52
(50)رجاء عيد:القول الشعريـالطبعة الأولى ـ منشأة المعارفـ الإسكندرية ـ 1995م- ص 80
(51) وسام العاني: سيرة الطائر/ 26،27
(52) رجاء عيد: القول الشعري / 81
(53) شكريالطوانسي: مستويات البناء الشعري / 367
(54) وسام العاني: سيرة الطائر/49
(55) وسام العاني: سيرة الطائر/80
(56) يسرية المصري: بنية القصيدة / 401
(57) وسام العاني: سيرة الطائر/13
(58) وسام العاني: سيرة الطائر/14
(59) صبري حافظ: جماليات الحساسية والتغير الثقافي – مجلة فصول–المجلد السادس – العدد الرابع – القاهرة – 1964 م – 87
تمت بحمد الله
مسقط في التاسع من ذي الحجة لسنة 1444هجرية
الموافق 27 من يونيو لسنة 2023 ميلادية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى