ترتيبرالألفاظَ في النطقِ على حسب ترتُّبِ المعاني في العقل
طاهر العلواني | كاتب مصري
اعلم – أرشدك الله إلى الحق وأرشدَ بك – أن الكلامَ – كما يقولُ عبدُ القاهرِ – رحمه الله – “لا يفيدُ حتى يؤلّفَ ضربا خاصًّا من التأليف”. وإذا تصفّحتَ وجوهَ البيان، وتفقّدتَ منازلَ الفصاحةِ، وأرخيتَ عن نفسِك خناقَ التؤدة، وأقبلتَ على إجالةِ الفكرِ في ما به يكون هذا الضربُ الذي منه تحصل الفضيلةُ لكلامٍ على كلامٍ، وجدتَ هنالك ما تستخفّك روائعُه، ويستهويك منظرُه، وأن ليس ثَمّ غايةٌ تحيطُ بحدودِه، وآيةٌ تجمعُ معالمَه إلا أن الألفاظَ رُتِّبتْ في النطقِ على حسب ترتُّبِ المعاني في العقل، فلا يحيدُ ترتيبُ الألفاظِ على ترتيب المعاني قَيسَ أنملة إلا قطعك اللفظُ عن بلوغِ الفصاحة، وقصر بك دون شأوِها.
وإن أردتَ أن تستدلَّ بقليلِ القولِ على كثيره، وببعضِه على جميعِه، ونظرتَ في أدوات الشرطِ والاستفهام، وفي إنَّ وأخواتِها، وكان وأخواتِها. وكان لك مِن إلهامِك خطيبٌ، ومِن ذهنك شاعرٌ، فرقَمتَ المعانيَ بقلمِ الإبداعِ على صفحات البيان، عرفتَ أن العقل قضى في نحو قولنا: إن تقم أقم، بأنَّ القصد: أشترطُ لقيامِي قيامَك، فقدَّمتَ في اللفظِ حرفَ الشرطِ؛ إذ كان مقدَّمًا باقتضاء العقل، وفي نحو قولنا: من جاء؟ بأنَّ الغرضَ: أستفهمُ عن الجائي، فجعلتَ حرفَ الاستفهامِ أوّلًا؛ من حيث إنه في العقل مقدَّمٌ، وفي نحو: كأنَّ زيدًا الأسدُ، بأنَّ المرادَ: أُشبِّهُ زيدًا بالأسدِ، فكان حرفُ التشبيهِ متقدِّمًا في الذِّكرِ؛ لمّا قضى العقلُ بتقدُّمِه، وفي نحو قولنا: أصبح زيدُ قائمًا، فإن جعلتَ (أصبح) ناقصةً، فلأن العقلَ قاضٍ بكينونتِه قائما وقتَ الضباحِ، وإن جعلتَها تامّةً، فلأنه يقصد إلى الإخبارِ بدخولِه في وقت الصباحِ والحالُ تلك. فاعرف الأشباهَ، وقسِ الأمورَ بنظائرِها.
ولستَ تشكُّ في أنَّ الحالَ تختلفُ في نحو قولِنا: جاء زيدُ راكبًا، عنها في قولنا: جاء زيدٌ يركبُ، وقولنا: جاء زيدٌ وهو راكبٌ، ذلك أنّ راكبًا – وإن كانت حالًا – من فضلاتِ الكلام، فهي جزءٌ من الجملةِ لا محالةَ، وليس كذلك قولك: جاء زيدٌ يركبُ؛ من حيث كانت جملةُ الحال منفصلةً عن أختِها، وإن كانت في حيّزها، إلا أنَّها لم تكن بتلك المثابةِ من الربط والإيثاق في قولنا: جاء زيدٌ راكبًا، ثم إنّها تزداد ضعفًا إلى ضعفٍ إذا نحن قلنا: جاء زيدٌ وهو راكبٌ؛ ألا تراك لما عطفتَ الجملة الثانيةَ على الأولى، جعلتَهما على جهة من الانفصال لا تكون من الكلام المبنيِّ بعضُه على بعضٍ في شيء، ونزّلتَها من الأولى مُنَزَّلةَ الأجنبيّ عنها، فصارتْ بمنزلةِ قولك: زيدٌ شاعرٌ وكاتبٌ، بعد أن كانت كقولك: هذا حلو حامض. فأدرِعّ مضاءتك الرويَّة، وقِه اندفاعَك الملال، وتأمَّلْ قوله تعالى “وكلٌّ أتوه داخرين”؛ ينبئك التأمُّلُ أن المعنى المرتَّبَ في النفس أنَّ الذلَّ لا يفارقُهم، وأنَّهم يأتونَه والحال تلك، وقوله تعالى “وجاءه قومه يهرعون إليه”، تقضي نفسُك أنهم كانوا يتتابعون في الهرعِ إليه والإسراعِ الواحد بعد الواحد، ولم يُقل هارعين إليه؛ لمّا لم يكن الإهراع حاصلا منهم دفعة واحدة، وقوله تعالى “لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى”، فلست تدفعُ أن “وأنتم سكارى” ضعيف النسب إلى الجملة الأمّ؛ إذ هي إليها بمنزلة المعطوف عليه والمعطوف، فلما كانت “وأنتم سكارى” تمهيدا لتحريم الخمرِ ضعف ارتباطها بالجملة الأولى، ولذلك عطفت عليها الحال مفردة؛ لأن الجنابة لم تُبح في دين قط، فقال” ولا جنبا”.
إنَّ خبيئة أحوال الألفاظ، وإلحاق المعاني بها مرتّبةً بعضها على بعض، أحقّ ما بدئ به، وأَولى ما نُظر فيه، تُغلِّبُ هوى المعاني على هواك، وتؤثر رضاها على رضاك، حتى يصير ذلك طبعا مركبا، وعلما ضروريا، تقف به على خواتم الأمور من مفتتحاتها، وتدركُ أواخرها من أوائلها، بعزم صادق لا وَنية فيه، ورأي حازم لا مثنوية له، فتتبرج لك المعاني بعد حياء، وتتكشّف لك من خدرها وراء الألفاظ، فتسبق إلى رغائبها، وتنتزع محمودها، وتستولي على أفضلها. والله الموفّق