كور وبعض من حكايات وطن (3)
بقلم وعدسة: زياد جيوسي
هذه القصور والقلاع الضخمة التي تركتها مشيخات قرى الكراسي الإقطاعية والتي بلغت 27 قرية في مختلف مناحي فلسطين، إضافة لقصور ضخمة في بعض المدن للحكام والولاة في القرون الماضية وخاصة مرحلة الحكم العثماني وفترة المماليك، جميعها شكلت مرحلة مميزة في التاريخ الفلسطيني والإرث المعماري، وكلمة قرى الكراسي مستمدة من كلمة “كرسي” بالآرامية وتعني العرش أو مقعد الحاكم، وكما أشرت في الحلقات الماضية فشيوخ قرى الكراسي كانوا معينين من الدولة العثمانية كملتزمي جباية الضرائب، فتمنحهم العزوة والمنعة والحماية وتسلم كل شيخ مجموعة من القرى تحت امرته وتحت حكم مشيخته، وعليه بالمقابل أن يؤمن لخزينة الدولة النسبة المطلوبة، مما سمح للشيوخ بالثراء الفاحش بعد تحولهم من جباة ضرائب إلى إقطاعيين، وهذا عكس نفسه على قلاعهم وقصورهم في فلسطين، وسمح لهم بتقوية أنفسهم بهذه القصور والقلاع في مواجهة تعديات الشيوخ الآخرين، وتاريخ مشيخة كور ورد في عدة مصادر تاريخية وأهمها المؤرخ إحسان النمر في كتابه الضخم من اربعة مجلدات: تاريخ جبل نابلس والبلقاء حيث تحدث عن مشيخة كور في الجزء الأول والثاني من المجلدات الأربعة وإن كان الكلام مختصرا، وفي أكثر من مصدر ورد عن تعيين الشيخ حرب شيخا لقرى الصعبيات والذي حسب تلك المصادر كان قائدا في قوات المماليك التابعة للدولة العثمانية وأصبح ملتزما للضرائب فيها والبالغة بما فيها كور 25 قرية وبلدة تمتد حتى الساحل الفلسطيني، وقد كان الصراع على السيطرة مع شيوخ آل طوقان في نابلس بسبب التماس بين المناطق، إضافة لعدة مراجع منها موسوعة بلادنا فلسطين للمؤرخ مصطفى الدباغ وهو قد اشار بالهامش ان اسم كور فخذ من قبيلة طي التي سكنتها في أزمان سحيقة، وهذا يخالف كل من نسبوا الاسم لآلة النفخ عند الحدادين، وكتاب (قاموس العشائر في الأردن وفلسطين) لمؤلفه الباحث حنا عماري، والعديد من المصادر الأخرى ومعظمها مقالات استندت للروايات المحكية والتاريخ الشفوي وهذا لا يكفي بالتأكيد، مع الإشارة أن معظم هذه المراجع استندت بشكل أو آخر لمؤلفات المؤرخ إحسان النمر، وأعتقد انه من المهم اعادة دراسة تاريخ المنطقة بالاستناد للوثائق العثمانية التي أصبحت متاحة في تركيا للباحثين والمؤرخين، وقد اعلمني لاحقا الأستاذ فريد عصمت الجيوسي أن هناك باحثا هو د. عبد الله محمود قد بدأ بتوثيق محور الصعبيات مستندا للوثائق العثمانية.
واصلت التجوال بين قصور كور وفي دروبها برفقة صديقي مرافق العديد من جولاتي الأستاذ سامح سامحة وبمرافقة مضيفنا الأستاذ فريد عصمت الجيوسي متجهين إلى قصر الشيخ عبد الله الجيوسي وهو الإبن الأكبر للشيخ يوسف الواكد، وحق أن يطلق على هذا القصر تسمية “قلعة” لطبيعة البناء فيه وهو أشبه بالقلعة فعليا، وقبل الوصول اليه كنت أمر متنشقا عبق التاريخ في كور فالتاريخ يحيط بنا من كل الجوانب من خلال مشاهدة القصور سواء المأهولة أو المغلقة أو المنهارة أو التي تحتاج للترميم لتستعيد ألقها، واتأمل النقوش على الجدران بأشكالها الزخرفية وأشكال اخرى تدل على مكانة صاحب القصر، ومن اسباب هذا الوضع المؤلم في كور عدة مسائل واولها الزمن الطويل الذي مر على الأبنية والقصور وعدم الاهتمام بالترميم ومعالجة اية تصدعات وأية تأثيرات للزمن وخاصة العوامل المناخية، بسبب هجرة سكانها منها بعد انهيار الدولة العثمانية وبالتالي انتهاء مشيخات الكراسي، وتلا ذلك تأثيرات النكبة 1948م وهزيمة حزيران عام 1967م بحيث ان العدد للسكان الآن لا يتجاوز 350 شخصا هم أحفاد الشيخ يوسف واكد الذين لم يغادروا كور، والسبب الثاني وإن كان تأثيره نسبي وليس كبير وهو زلزال 1927م حيث كان التأثير الأكبر على القدس ونابلس، إضافة لعدم اهتمام الجهات الرسمية والأهلية على العمل على ترميم قرية كور رغم أنها بأكملها قرية تراثية وأثرية وتستحق كل اهتمام، فكور اعتادت أن تسمع قرقعة ولا ترى طحنا وكل الوعود تتبخر مع الريح، وسبب آخر تعاني منه كور حاليا وهو الكسارات والمقالع الصخرية والتي عمل سكان البلدة جاهدين لوقفها، ورغم حصولهم على قرارات بوقفها ووقف التفجيرات التي تهز البلدة باستمرار وتعرضها للمخاطر والتصدعات، إلا أنه وبقدرة قادر يجري الغاء هذه القرارات وشطبها لمصلحة الشركة التي اقامت هذه المقالع والكسارات بدون أي اهتمام بمعاناة المواطنين.
والجميل خلال جولتنا أن نلتقي الفنان النحات باسل رشدي الجيوسي والذي يمارس الفن كمهنة وابداع فني من خلال نحت الحجارة الضخمة وتحويلها إلى ابداعات فنية، وقد وقفنا معه قليلا وتبادلنا أطراف الحديث وتأملت منحوتاته الجميلة، ثم اتجهنا إلى قصر الشيخ عبد الله الجيوسي وحين وقفت في مواجهته كنت اشعر بالذهول أما هذا الابداع المعماري الكبير والممتد على مساحة واسعة، وكما كل القصور في كور فالطابق الأول منه بدون اية نوافذ تطل على الخارج، بينما هناك بعض النوافذ المرتفعة بالطابق الثاني مع طاقات صغيرة تسمح بالنظر من خلالها واستخدامها للدفاع عن القصر، وحول الساحة الأمامية كان هناك سور سميك ومرتفع يصل بارتفاعة للطابق الأول، وجزء من هذا السور من الطرف الأيمن بالنسبة للواقف امامه والواجهة الأمامية وبوابة القصر الضخمة المؤدية للساحة الخاصة به قد تهدمتا بكل أسف، فأصبحت الساحة مكشوفة ومداخل القصر الداخلية مكشوفة أيضا، ولم يتبق من السور الا القسم المحيط بيمين القصر ويساره، والقصر مبني من طابقين مرتفعين وفي الزاوية العليا من اليمين فوق الطابق الثاني بنيت عِلية بحجم غرفة وفوقها ايضا قبة اضافة للقباب على سطح القصر، وهذه العِلية مطلة على ساحة القصر وعلى الشارع المحيط بالجانب الأيمن من القصر، وهي والمباني على طابقين تحتها أخذت طابع البرج شبه المستقل عن باقي القصر بمدخل خاص مختلف عن مداخل القصر، وواضح ان العِلية بنيت لغايات الاستكشاف لزاوية القصر فهي صغيرة الحجم نسبيا، ونوافذ العلية المطلة على الساحة مستطيلة الشكل وفي الطابق الواقع تحتها مباشرة أيضا نافذتان بنفس الشكل، بينما تخلو واجهة القصر من أية نوافذ الا الطلاقات، وفي الزاوية اليسرى من ساحة القصر بنيت ايضا غرفة صغيرة ذات نافذة قوسية يظهر انها كانت تستخدم للحراسة قرب البوابة، وتحتها مباشرة غرفة ذات بوابة خارجية وعدة ابواب أخرى تحت الواجهة اليسرى للقصر، ويظهر انها استخدمت للحرس ومنافذ في الحالات الاضطرارية.
واجهة القصر بها ثلاثة بوابات اضافة للبوابة تحت مبنى العِلية، والبوابة الرئيسة للقصر هي الأكبر حجما وبنيت بشكل قوسي خارجي وآخر بنفس الشكل داخلي، وعلى الاقواس العليا زخارف منحوتة بشكل هندسي وفني جميل، بينما اليمنى لها درج يصعد مباشرة للأعلى بدون المرور الى باحة القصر الرئيسة، واليسرى مستطيلة الشكل لاستخدامات أخرى، وكل النوافذ غير قوسية ومستطيلة اينما وجدت في واجهات القصر الخارجية كما نظام المباني في العقود وهذا ما اثار استغرابي، اضافة للطلاقات الحجرية وهي نوافذ مغلقة بالحجارة الا بعض الفتحات التي تسمح لمن بداخلها ان يرى من بالخارج ولا يراه احد، وهذه من الوسائل الدفاعية عن القلاع والقصور إضافة لفتحات صغيرة بالجدران بدون طلاقات، وعلى جدران القصر لوحات حجرية وخاصة فوق البوابات تحمل زخارف ونقوش جميلة ورمزية لها الكثير من المعاني وبعضها تعرض للتلف، وحين دخلنا الباحة الرئيسة للقصر المبني على نظام العقود المتصالبة وجدت أن قواعد الأقواس ضخمة جدا حتى تستطيع حمل مئات من أطنان الحجارة فوقها، والباحة مفتوحة على بعضها كي يمكن لعدد كبير أن يجتمع بها مع صاحب القصر، وعلى يمين الباحة يوجد فتحة تهوية تتيح المجال لنشل الماء من بئر بالاسفل تمتد من أعلى القصر حتى البئر بالأسفل، وفي كل طابق لها باب قوسي وكل ذلك من الحجارة بطريقة هندسية جميلة تخفف من عملية نقل الماء يدويا عبر هذه الارتفاعات، والبئر الآن مغطى بالحجارة والإسمنت بدلا من غطاء مناسب يحافظ على ذاكرة المكان.
وعبر أدراج حجرية كنا نصعد من بهو القصر للأعلى حيث غرف الاقامة والسكن، والطابق الثاني تصطف فيه الغرف بجوار بعضها على الجوانب مبقية الساحة مكشوفة للشمس والهواء والمطر أيضا، وكل ابواب هذه الغرف قوسية ومزينة بالنقوش المختلفة والزخارف العربية وبعض هذه الزخارف والنقوش ملفتة للنظر كثيرا حول مفاهيمها ومعانيها، ومن الداخل وحسب نظام العقود نجد فجوات بالجدران للاستخدامات المختلفة فهي كانت تقوم مقام الخزائن، وبعضها جرى دهان جدرانها وأسقفها بالجير الملون ولكن ايدي العابثين لم تتركها بمعاناتها فزادت المعاناة بالكتابة والخربشات على الجدران، وبعد جولة في كل الغرف صعدت ورفيق جولتي الأستاذ سامح سمحة وعبر درج حجري لسقف القصر حيث القباب المرتفعة، ويا له من مشهد رائع وخلاب مطل على المنطقة من الساحل غربا حتى الجبال شرقا والقرى المحيطة بكور، فعشت لحظات ولا أجمل مستنشقا الهواء البكر، ودخلنا ايضا العِلية التي أشرت لها أعلاه والتقطت عدستي مشاهد الجمال من نوافذها، لنغادر القصر لاستكمال الجولة وزيارة ما تبقى من قصر الشيخ عساف الجيوسي وقصور أخرى في كور وهذا سيكون مجال للحديث في الحلقة الرابعة ان شاء الله، غادرنا وشعور الألم لا يفارقني علما أن هذا القصر وضعه جيد بشكل عام ولكنه يحتاج لترميم، وحسبما قال لي مضيفنا الاستاذ فريد الجيوسي ان لديهم بمجلس قروي كور فكرة واستعداد لتحويل القصر إن وجدت جهة مهتمة بالترميم إلى بيت ضيافة ومؤسسات ثقافية ومجتمعية تخدم البلدة والزوار لجعل كور قبلة للزوار والسياح.
صباح آخر في بلدتي جيوس مع فنجان القهوة في حديقتي واستذكار جولتي في دروب وقصور الجارة كور، مع شدو فيروز وهي تشدو: “لا تهملني لا تنساني ما الي غيرك، بلدي صارت منفى، طرقاتي غطاها الشوك والأعشاب البرية، ابعتلي بها الليل خبر يطل عليّ”، فأشعر انها تهمس بإسم كور تنادي بألم وغصة..
فأهمس صباحك اجمل يا كور وصباح أجمل يا وطن وصباحكم جميعا أجمل..