كائن افتراضي
مصطفى سليمان | سوريا
اصبروا قليلاً عند القراءة
تستوقفني أوراق نعي موتى المدينة لأعرف من مات من أهلي وأصدقائي، أو ممن ماتوا ولهم شأن عام حساس.
أوراق جنائزية كئيبة تلوّث جدران المدينة. أتذكّر جدران مدينة أصيلة المغربية في مهرجانها الثقافي متألّقةً بقوس قزح، من لوحات تذكارية رسمها فنانون عالميون مشاركون، ومتأنّقةً بأبيات شعر لشعراء كبار كتبوها بأيديهم. هناك جدران فنية أدبية، وهنا… جدران جنائزية!
مطبعة المدينة الجنائزية لديها جملة غير مفيدة- تُوَصِّف حياة الميت، مدّعيةً أنه:
«قضاها بالصلاح والتقوى» مهما كانت حياته فاضلة أو فاجرة!
كلما قرأت هذه الجملة تذكرت الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد:
أرى قبر نَحّام بخيلٍ بماله/ كقبر غَوِيٍّ في البطالة مُفسِدِ
ويضحك في سري أبو العلاء المعري:
رُبًّ لحْدٍ قد صار لحداً مراراً/ ضاحكٍ من تزاحم الأضدادِ
هكذا موتى مدينتي: كلهم صالحون، أنقياء، أتقياء! ليت عدالة الموت، ومساواة القبور، تُطبَّق علينا في الحياة!
أمس استوقفتني ورقة نعي غريبة لم أصدقها حتى الآن… كانت تنعاني أنا!
نعم، أنا باسمي الثلاثي، وعمري، واسم أبي، وإخوتي، وأصهاري، وأعمامي، ومكان إقامتي…!
قرأت الورقة مذعوراً أكثر من مرة، واغْتلى فيها ارتيابي، حتى سمعت مِن حولي مَن كان يعرفني، ولم ينتبه إلى وجودي بين المتجمهرين، يترحّم عليَّ… فصدّقت عندئذٍ أنني حقاً ميت!
وربما اختلاطاتي الآن هي حلم ميت، أو حي يتذكر من يبكون عليه بعد موته، كما تذكّرهم مالك بن الرّيْب!:
( تذكرت من يبكي علي فلم أجد سوى السيف والرمح الرديني باكيا)
ترى من سيبكي عليّ ؟
لكنني موجود: أتنفس، وأتذكّر أنني فلان، وأنني أفكِّر في ما يجري حولي:
خطْفٌ، قصْف، قتل، دمار، دم، جنازات ومقابر جماعية!… ألم يقل ديكارت: أنا أفكّر إذن أنا موجود؟ فلماذا أنا ميت؟
تفرّست في وجوه بعض الحاضرين ممن أعرفهم ويعرفونني. لم ألاحظ على أي واحد منهم سيماء الخوف والرعب، أو الاستغراب والدهشة. ربما لأنهم يعرفون أنني قدْ متُّ!
تُرى لو ذهبت إلى بيتي الآن هل سأجد مأتماً أُقيم لي؟ هل سينكرني أهلي أيضاً؟لكنني مؤمن بـ «الكوجيتو» الديكارتي بتحوير مني يناسبني أنا الميت : (أنا أفكر وأتذكر إذن أنا – حي!)
تابعت سيري وأنا مختلط العقل بين موتي وحياتي. ذهبت إلى دائرة العقارات لأتفقد معاملة استغرقت حتى الآن سنوات! لم يتعرّف عليَّ الموظف رغم أنني صدّعت رأسه بملفات القضية. ذهبت إلى المحامي الذي يتولى الموضوع. أنكرني وادّعى أنه ليس لديه قضية باسمي، رغم أنني أجلس معه كل أسبوع أكثر من ساعتين نتباحث في تطورات القضية!
ذهبت إلى مكتب البريد لأعرف ماذا حدث لشكواي حول سبب انقطاع الهاتف. كان المدير جارنا، وكنت أدرِّس ابنه، وقد وعدني خيراً عندما قدَمت له الشكوى.
لكنه لم يتعرّف عليّ! وأنكر أنني قدمت له شكوى منذ ثلاثة أشهر.
على افتراض أنني ميت، فلماذا لا يعرفونني؟ لماذا لا يمتلئون مني رعباً؟
قررت أن أذهب إلى قصر المحافظ لعله ينصفني. كنت قدّمت له شكوى من سوء المعاملة والمماطلة والتسويف والرشوة…
بعد انتظار ساعتين قابلته. أخبرته بكل معاناتي وشكاواي وقضاياي الضائعة. أحالني إلى قسم المتابعة. رئيس قسم المتابعة أحالني إلى قسم التدقيق. قسم التدقيق أحالني إلى الديوان لمعرفة رقم وتاريخ الطلب… شعرت بدوار وكأنني بطل رواية «الغثيان» لـ سارتر.
خرجت من قصر المحافظ لأستنشق نسمة أوكسجين تعيد إلي الحياة…
الحياة؟؟
أنا الميت – الحي في مدينتي الحية- الميتة!
عند ذلك وصلت إلى قناعة قتلتْ هواجسي بحقيقة مرّة، لكنها حقيقة:
إنني في هذه المدينة كائن افتراضي !
لست حياً ولا ميتا ً!
