د. يوسف زيدان: صورة ذهنية ماضوية وعقل جماعي لا يرى الواقع

فى كلامنا اليومى نصف ما هو مترف وذو دلال بأنه (يتبغدد)، والأصل في هذا الوصف واضح، لا يحتاج إلى تفكير عميق، فهو مشتق من مدينة بغداد التى قال عنها ياقوت الحموى  (المتوفي ٦٢٦ هجرية  –  ١ميلادية ) فى كتابه الموسوعى معجم البلدان أنها:  أم الدنيا وسيدة البلاد.. ففى زمن ياقوت الحموي لم يكن فى البلاد ما يقارب بغداد فخامة وترفا، وبغددة.

كان بناء بغداد سنة ١٤٥ هجرية، على يد الخليفة العباسي المنصور، و قد أنفق المنصور على تأسيس بغداد أربعة ملايين وثمانمائة وثلاثة وثمانين ألف درهم، و هو يعادل اليوم 000 . 500 . 324 . 7 جنيه. واستعان على عمارتها بحشود من المهندسين والصناع المهرة الذين جلبهم من سائر البلاد. ولخمسة قرون تالية على تأسيسها، ظلت بغداد سيدة البلاد، و جنة الأرض ومدينة السلام، وقبلة الإسلام، و دار الخلافة، و حاضرة الدنيا.. و قد خصها الخطيب البغدادي بكتابه الضخم ذى المجلدات الكثيرة: تاريخ بغداد.

ومن هنا جاءت في لغتنا اليومية، منذ مئات السنين، صفة البغددة التى نلحقها بكل ما هو جميل ذو دلال. غير أن هذا الوصف يدل علي أننا على مستوى العقل الجمعى: خارج التاريخ. فمنذ ثمانية قرون، وابتداء من سنة 656 هجرية، لم تعد بغداد متبغددة. ففي هذه السنة المذكورة، اجتاحها جيش هولاكو فأسقطها، وقتل من أهلها فى أربعين يوما ما لم يقتل مثله في حادثة مرت بالعالم القديم. وقد تفاوتت تقديرات عدد القتلى من البغداديين خلال هذه الأيام الأربعين، وهى مدة استباحة هولاكو للمدينة، ما بين ثمامائة ألف شخص، إلى ما يزيد عن المليون، وهو عدد كبير جدا بالنسبة لذاك الزمان.. حيث كان عدد سكان روما آنذاك ثلاثين ألفا.

ومنذ ذاك الوقت البعيد دخلت بغداد جب الأسى، و توالت عليها الكوارث، فمن اجتياح تيمور لنك إلى تخريب الصفويين إلى كوارث الاستعمار إلى اضطرابات الصراع السياسي، انتهاء بما شهدناه من مؤخرا من قيام و سقوط صدام حسين.. و لسوف يستمر حالها إلى الخمسين سنة القادمة التى لن تخرج فيها بغداد مما تعانيه اليوم. ومع ذلك، فمازلنا نتغنى بمجد قديم، ونعيش في صورة ذهنية لمدينة عاشت قبل ثمانية قرون من الزمان زمانا جميلا.

وعلى المنوال ذاته، نفعل مع القاهرة التى نسميها المحروسة، مع أن التاريخ القديم والمعاصر دل على أنها بلا حراسة! ومع القدس التي نسميها مدينة السلام، مع أنها لم تعرف خلال تاريخها الطويل سلاما ولا حضارة. و مع الإسكندرية التى نصفها دوما بعروس البحر المتوسط، حتى فى سنوات تدهورها الأخيرة، من بعد قيام ثورة الضباط  (الأحرار) الذين كانت لديهم  (الحرية) فى فعل ما يريدون.

إن عقلنا الجماعى لا يرى الواقع، وإنما يعيش دوما في الصورة الذهنية الماضوية التي لا تعنى فى الواقع الفعلى شيئا، ولا تغني عن الحق في غير الخيال شيئا.. فتأمل و تفكر وتحسر و تأخر عن زمانك مع المتأخرين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى