المجتمع والمرأة في رواية ” المطلقة “
رائد محمد الحواري | ناقد فلسطيني
صدرت رواية “المطلقة” للأديب المقدسيّ جميل السلحوت قبل أيام عن مكتبة كلّ شيء في حيفا، وتقع الرّواية التي يحمل غلافها الأوّل لوحة للفنّان التّشكيلي محمّد نصرالله ومنتجها شربل الياس في 192 صفحة من الحجم المتوسّط.
عندما يطرق الأدب مسائل اجتماعيّة فإنّه يكون قريبا من النّاس، من لغتهم، ثقافتهم، طريقة حديثهم، سلوكهم، وهذا يتطلّب من الأديب أن يتحرّر من لغته العالية، وأن يكتب بلغة شخصيّات الرّواية، وهذا لا يعني فقدان العمل الأدبيّ قيمته الأدبيّة، بل يؤكّد على أدبيّة العمل، الذي يُقدّم بطريقة تنسجم وطبيعة الشّخصيّات وثقافتها.
تتحدّث الرّواية عن “جمانة” التي تطيق ذرعا بزوجها “أسامة” المتزمّت دينا، والذي يحمل أفكارا تكفيريّة متطرّفة عن المرأة، بعد عودتهما إلى القدس وطفلهما “سعيد” من السّعوديّة حيث يعمل، تقرّر “جمانة” طلب الطلاق من زوجها، الذي عاملها كجارية في غربتها، ورغم أنّها لم تكشف تفاصيل كثيرة، إلّا أنّها أوصلت فكرة ضرورة طلاقها لأهلها وللمتلقي، وهنا يتمّ (طرق جدران الخزّان)، امرأة تطلب الطّلاق وتسعى له متخلّية عن كلّ حقوقها مقابل أن تنال حرّيّتها، رغم أنّ المجتمع لن يرحمها كمطلقة، إلّا أنّها تصرّ على الطّلاق الذي تحصل عليه بعد صراع مع أسام وفاطمة أمّه. هذا هو الحدث الرّئيس في الرّواية، والذي يبني عليه السّارد أحداث قصّته، ويضيف شخصيّات عديدة، “تغريد” أخت “جمانة”، “لطيفة” أمّها وأبوها “عيسى”، رأفت شقيق أسامة، وأبوه سعيد ـ الشّخصيّة الأضعف في الرّواية ـ، سوزان، “صابرين”، وعائشة المطلّقة بسبب غشاء بكارتها المطاطيّ والأرملة، الأسير المحرّر “فارس”، الدّكتورة أميرة، الدّكتور فريد وشقيقه “رمزي”، مأمون المخنّث وأمّه صبحة، إضافة إلى أمل ومنى شقيقتا فريد ورمزي، فشخصيّات الرّواية تمثّل شرائح المجتمع المختلفة، وبما أنّ الشّخصيّات شريحة اجتماعيّة فهي تستخدم الأمثال الشّعبيّة بكثرة، كحال أفراد المجتمع، فهناك العديد من الأمثال جاءت على لسان الشّخصيّات كافّة، وتكاد لا توجد شخصيّة لم تتحدّث بالأمثال، وهذه إشارة إلى (اجتماعيتها) وقربها من نبض عامّة النّاس، كما أنّنا نجد الثّقافة الدّينيّة حاضرة عند الجميع، إذا ما استثنينا “مأمون” المخنّث، لهذا نقول أنّنا أمام رواية اجتماعيّة واقعيّة بامتياز.
وإذا ما توقّفنا عند المطلّقتين “جمانة وصابرين” وطريقتها في مواجهة المجتمع والضّغوط الأسريّة والاجتماعيّة، سنجدهما أقوى وأصلب من “أسامة ومأمون”، فالأوّل فشل في زواجه مرّة ثانية، ولم تقبل به أيّ امرأة إلّا صابرين التي قبلته على مضض بعد أن أنهكها الخطّاب المسنّون العجزة، فقبلته قائلة: “بلاء أهون من بلاء وكساح أهون من عمى”، “شابّ يبهدلني ولا ختيار مخرّف يدلّلني” ص182، أمّا “مأمون” المخنّث فقد رفضت أمّه استقباله وتبرّأت منه عائلته، من هنا نجد أنّ النّساء في الرّواية، كن أقوى وأكثر أهمّيّة من الرّجال، وهذا ينسجم مع عنوان الرّواية “المطلقة”.
استطاعت”جمانة” أن تكمل تعليمها العالي،وأن تحتفظ بابنها “سعيد” وأن تتزوّج من المهندس “رمزي” الشّابّ الأعزب، بينما “أسامة” تزوّج من “صابرين” المطلّقة، وهي بهذا تتفوّق ـ اجتماعيّاـ على طليقها أسامة. وبالنّسبة ل”سيعد أبو أسامة” فإنّنا نجده شخصيّة ضعيفة يخضع لزوجته القويّة “فاطمة/أم أسامة”، التي تهينه في كلّ كبيرة وصغيرة، وإذا أخذنا ما قامت به عندما “تجمّلت وتزيّنت” وذهبت إلى المشعوذ “الشّيخ عديّ” وقبلت أن يضاجعها دون تردّد! مبرّرة ذلك بضعف زوجها جنسيّا! إذن النّساء في الرّواية أقوى من الرّجال، فالأحداث متعلقة بهنّ، وما الرّجال إلا كواكب تدور حول شموسهنّ.
جمانة
الشّخصيّة المركزيّة في الرّواية، فهي تتجمّل بصفات المرأة النّاضجة والقويّة والعارفة لمصلحتها، فهي عندما طلبت الطّلاق كانت تتحدّى المجتمع قبل زوجها، فبعد أن حضر أسامة لتهدئتها وردعها عن قرارها، خاطبته بقولها: “لا حاجة لدار الفتوى أو لغيرها، فلن أعود إلى عصمة أسامة تحت أيّ ظرف، فالحياة معه مستحيلة… لقد خبرته عامين كاملين، تعامل معي فيهما كجارية سجينة، هدر كرامتي واستباح إنسانيّتي، ولولا الغربة في السّعودية لما عشت معه أسبوعين وليس عامين ” ص17و18، بهذا الحسم تحدّثت “جمانة”، فهي لم تكن منفعلة بقدر ما حسمت أمرها، واتّخذت قرارها بالإنفصال عن زوجها، مهما كان الثّمن، فحريّتها وكرامتها أكثر أهمّيّة عندها من كلّ شيء.
وعندما حاولت أمّها “لطيفة” إقناعها “بأنّ الزّوج سترة”، ردّت عليها بمثل شعبيّ: “العزوبيّة ولا الزّيجة الرّديّة” ص25، وهذه إشارة أخرى إلى أنّها امرأة تعرف ما تريد، وتتقدّم بثبات نحو هدفها لخلاص من زوجها أسامة.
ورغم عتبها ولومها لوالدها، كونه السّبب الرّئيس لزواجها من أسامة المتديّن التّكفيريّ امتزمّت، إلا أنّه خاطبته بودّ وهدوء عندما ناقشها عن سبب قرارها بالطلاق من “أسامة”: “..لم أنج من كيد أمّه حتّى في ليلة الدّخلة، احتملت ذلك طلبا للستّر، وكي لا أجلب لكم المتاعب،…الحياة معه أصعب مما تتصوّرون، قراري ليس متسرّعا، ولا هو ردّة فعل على تصرّف عابر، وإنّما هي تراكمات لا يحتملها بشر، لذا لا داعي للتّريّث” ص27، مرّة أخرى تتجاوز “جمانة” أحد الموانع من أمامها بطريقة لبقة وهادئة، وتثبت صواب وأهمّيّة قرارها وإصرارها عليه.
وعندما حاولت أمّ أسامة الضّغط على جمانة من خلال خطف ابنها “سعيد” من حضن جدّته لأمّه لم ترتبك، ولم تنفعل، بل تصرّفت بحكمة وعقلانيّة، فذهبت إلى المحامي الذي أعاد طفلها إليها، وعقّبت على تصرّف أمّ أسامة هذا بقولها: “أنا اليوم لبؤة أعرف ما علينا وأعرف ما لنا أيضا” ولن أسمح لأحد بأن يتطاول علينا” ص47، إذن نحن أمام امرأة ثابته، تستطيع مواجهة المصاعب والأحداث القاسية، وأن تتصرّف بحكمة وهدوء.
تذهب أسامة مع والدته إلى المشعوذ الشّيخ عدي بن كعبح (ليفك السّحر) العالق بجمانة، يعطيه رقمها ليتّصل بها: “..أنا عالم روحانيّ، وأريد أن أقابلك، فقد علمت بمشكلتك من زوجك أسامة، وهذه المشكلة لن تجدي لها حلولا إلّا عندي.
ردت عليه جمانة فورا:
“من تدخل فيما لا يعنيه لقى ما لا يرضيه” وأغلقت الهاتف” ص 78، وهذا مشهد آخر يبيّن وعيها وقوّتها وصلابتها، وإصرارها على قرارها وقناعتها به.
ولم تقتصر قوّتها على المواجهة الاجتماعيّة بل تعدّتها إلى المواجهة الاقتصاديّة، فهي ليس لها أشقّاء، بل هناك شقيقتها “تغريد” فقط، لهذا كان عليهما أن تعملا لتأمين مصاريف البيت والأسرة: “ما بعد الضّيق إلا الفرج”، وقد حان الوقت ليستريح الوالد، فلكلّ مرحلة عمريّة متطلبات، فصحّته ما عادت تساعده على العمل، وبفضل الله وبسهر الوالد وشقائه، أتممنا أنا وتغريد مرحلتنا الجامعيّة الأولى، وحصلت كلّ منا على عمل يناسبها، ويسدّ تكاليف الحياة” ص90، بهذا القول تنسف جمانة فكرة ضعف المرأة وعدم قدرتها على الإنتاج، فهي تتحدّث (كرجل) يتحمّل المسؤوليّة الاقتصادية للأسرة وبصدر رحب، وبهذا تقدّم نموذجا للمرأة الحقيقيّة، والمرأة التي تكوّن ذاتها، بعيدا عن سطوة المجتمع الذّكوريّ ومفاهيمه المهترئة.
وعندما يجتمع المحكّمان اللذان عيّنتهما المحكمة الشّرعيّة؛ لبحث قضيّتها مع أسامة، ويسألها أحدهم عن سبب طلبها الطلاق، تردّ عليه بثقة: “البيوت أسرار، وأسامة والد ابني، لن أغتابه ولن أشهّر به، لكنّني لن أعود زوجة له” ص97، إذن نحن أمام امرأة ملتزمة أخلاقيّا حتّى لمن أساء إليها، وتكتفي بأن تطلب الطّلاق، دون الدّخول في التّفاصيل والأسباب.
فاطمة أمّ أسامة
بمقدار ما كانت”جمانة” ملتزمة أخلاقيّا تجاه زوجها، كانت أمّ أسامة على النّقيض، فهي امرأة مجبولة على الحقد والعنف والشّرّ، بحيث يصعب إصلاحها، حتى بعد ندمها على فعلتها القبيحة مع المشعوذ “عدي”، ومحاولتها لإصلاح ذاتها، لكنّها سرعان ما تراجعت إلى أخلاقيّاتها السّابقة، متّخذة العناد نهج حياة لها.
وهنا يظهر لنا الفرق بين إصرار “جمانة” وعناد فاطمة أمّ أسامة، الأولى وصلت وحقّقت رغبتها في الحياة السّويّة، والثّانية استمرّت في غيّها، حتّى غرقت في الزّنا رغم سنّها الكبير، ورغم أنّها أصبحت جدّة! لهذا يمكن للقارئ أن يفرّق بينهما، فهما بمثابة الخيط الأبيض والخيط الأسود.
ونتطرّق لنماذج من أقول أمّ أسامة لمعرفة طبيعتها الشّرسة العنيفة، في بداية طلب “جمانة الطلاق” تخاطب ابنها: “لو كنت رجلا لما احجتنا لتدخّل الإمام أو غيره، اسمع يا أسامة، إن كنت ابني حقّا فلن تعود بنت لطيفة زوجة لك، وسنزوّجك فورا ممّن هي أفضل منها، هذه سوزان بنت خالتك رائدة” ص23، ولم يقتصر شرّها على الكلام فقط، بل وصل الفعل، فقامت بخطف حفيدا سعيد بن جمانة من حضن جدّته لأمّه، مستند على مقولة “جحا أولى بلحم ثوره” ص46، وبعد فشلها في الاحتفاظ بسعيد، وحبسها لأربع وعشرين ساعة بتهمة الخطف، تعود إلى البيت هادرة: “هل بنت أمّ ريالة أم… سافر لعملك واتركها “معلقة” حتّى تموت بغيظها، وسنزوّجك أفضل منها” ص54، وتتوّغل أكثر في عنادها، فتقرر الذّهاب إلى المشعوذ “الشّيخ عديّ” الذي يضاجعها بحجّة إخراج الجنّيّ من جسدها، فقبل أن يعطيها موعد جلسة العلاج القادمة: “قفزت من مكانها.. حوّطته بذراعيها وقبّلته بعمق، وهي تجلس في حضنه، رفعت ملابسها حتى بان نهداها، تحسّس أعضاءها الحسّاسة وقال لها: من غير اللائق أن نعملها الآن، فربما يصدر منك آهات يسمعها ابنك، وهذا سيفسد العلاج، انصرفي الآن، وعودي غدا في السّاعة الثانية ظهرا” ص76، إذن هي تعلم أنّها سيمارس الجنس مع رجل غريب، ومع هذا ذهبت إليه في الموعد المحدّد وكأنّها عروس في ليلة دخلتها، وبعد أن قضى وطرا منها، بدأت “تلوم نفسها على فعلتها الشّنيعة” ص94، وبدأت تتغيّر إيجابيّا، لكن هذه الإجابية لم تستمر، فما أن سمعت بأن “جمانة” ستتزوّج حتى عادت إلى عهدها القديم، إلى شراستها وحقدها وحسدها: “يجب أن يتزوّج أسامة قبل بنت “أمّ ريالة” فلا يليق بنا أن تتزوّج طليقته مرّة ثانية قبله” ص180، هذه صورة المرأة السّلبيّة، المرأة التي تتحكم فيها غريزتها، فبدت امرأة قبيحة، نشازا، لا يمكن التّعاطف معها بأيّ شكل.
المكان
بما أنّ أحداث الرّواية تجري في القدس، فلا بدّ من الحديث عن المكان والاحتلال، “فارس” الأسير المحرّر يحتاج إلى عملية زرع كبد، تتبرّع أمّه بكبدها، ويتم تأمين مصاريف الزّراعة التي ستتم في الأردنّ من قبل احد أغنياء المدينة، لكن عند الجسر يمنع المحتلون فارس من المغادرة بحجّة المنع الأمنيّ، ويعود إلى القدس؛ ليقضي أيّامه الأخيرة فيها: “عند جسر “اللنبي” رفض الجانب الإسرائيليّ السّماح بعبور فارس بذريعة الأمن، لم يجد مندوب الصّليب الأحمر من يستجيب لطلبه بتسهيل عمليّة المرور، وأُجبرت سيّارة الإسعاف على العودة، لكنّ حاجز “الزّعيّم” عند مدخل القدس الشّرقيّ لم يسمح جنود الاحتلال بدخول فارس إلى القدس، ليرقد في مستشفى المطلع لعدم وجود تصريح ساري المفعول، يسمح له بدخول القدس” ص144، ليتمّ نقله إلفى مستشفى رام الله، وهكذا يتمّ (قتل) فارس من خلال عدم السّماح له بالذّهاب للعلاج.
مشكلة الفلسطينيّ لا تقتصر على ممارسات الاحتلال الآن فحسب، بل فيما فعله في الماضي أيضا، فأينما ذهب الفلسطيني يجد مأساته أمامه، فدولة الاحتلال قامت على حساب فلسطين وشعبها، عندما تقوم “جمانة ورمزي” أثناء خطبتهما برحلة استجمام ليافا، تأخذ بالبكاء، توضّح سبب بكائها لخطيبها “رمزي”:
“…أبكي فردوسنا المفقود، هل تعلم يا رمزي أن أبي ورث بيتا عن جدّي في هذه المدينة، وشرّدوا منه ومن أرضنا مع من شرّدوا من أهل المدينة في نكبة العام 1948، وأنّ غالبية عائلتنا وأقربائنا وأهل مدينتا قد غادروا بيوتهم على السّفن إلى لبنان” ص177، فالمأساة الفلسطينيّة باقية وحاضرة، حتى في المكان والوقت الذي يفترض أن يكون للفرح والبهجة، فالاحتلال هو الغصّة التي تقف في حلوقنا وتمنعنا من ا(التّنفس) بحرّيّة.
4-اكتوبر 2020