د. يوسف زيدان: حي بن يقظان.. النصوص الأربعة ومبدعوها

كان ذلك “من أقرب الكتب التي أصدرتُها إلى قلبي لأنني أنجزته في زمن الفتوة والانتقال: من التعامل مع التراث باعتباره نصا جامدا، إلى تأسيس وعيٍ أو خطابٍ تراثي”.

في هذه الدراسة جمعتُ الصياغاتِ الأربعة التي قُدّمت بها “حي بن يقظان” ودبجَّتُ سيرة لكل واحد من المبدعين حسب تَسلْسُلِهِمُ الزمنيّ، كما شرحت في حواشٍ ما استغلق من الكلمات أو اختلفت فيه المخطوطات، وهو جهد قصدتُ تيسير الفهم والقراءة.

كتب ابن سينا الشيخ الرئيس المتوفى (عام 428 هـ بهمدان) ، “حي بن يقظان” أثناء سجنه في قلعة همدان. وهي قصة رمزية تشير إلى أن الإنسان مشدود بين متنازعات حسية كثيرة تأخذ وقته وجهده فلو استطاع أن يتخلص منها فإن روحه سوف تستشرف العالم الأعلى.

فهي رحلة العقل الإنساني إلى الملكوت الأعلى، من خلال شخصية “حي” الذي يرمز به إلى النوع الإنساني، و”ابنِ يقظان” أي العقل اليقظ في الإنسان.. وهذا البناء القصصي كان معروفا قبل الإسلام، عند الأفلوطينية المحدثة أو “الاتجاهات الأنوسية” ولا يتوافق هذا الاتجاه مع الإسلام الذي يقوم على فكرة الرسالة.

كان لهذا العمل ثلاثة أصداء مهمّة: فبعد ابن سينا قام ابن طفيل الأندلسي (المتوفى عام 581 بمراكش) بكتابة “حي بن يقظان” أو (أسرار الحكمة الإشراقية)، محتفظا بذات العنوان، ومتابعا نفس النسق الذي كتب به ابنُ سينا ولكن بتفصيل قصصي أكثر، إذ أنه وضع فلسفته كلها على لسان “حي بن يقظان”. وهو الكتاب الأشهر من بين الأربعة.

ثم جاء شهاب الدين السُّهْرَوردي (شيخ الإشراق)، المقتول سنة 586 هـ بقلعة حلب) ليتناول قصة ابن سينا، معتبرا إياها الفصلَ الأولَ الذي يريد استكماله، فأضاف إليها المزيد من التلويحات العُلوية التي وجد قصةَ ابنِ سينا متعرّيةً منها، مع ما فيها من عجائب الكلمات الروحانية والإشارات العميقة ، كما يقول.

فأعاد صياغتها في قصة قصيرة الحجم سمّاها “الغربة الغربية” حمّلها مفاهيمه الصوفية، متقدماً أكثر في الطريق الصوفي.

وهي من أعلى النصوص الأدبية مكانة في الثقافة العربية، ولا يمكن أن يحصّل معانيها إلا الخاصة.

وتجدر الإشارة إلى أنه لم يهتم باحث معاصر بالجانب الإبداعي عند السُّهروردي وبالنظر إليه بوصفه شاعرا أو قاصّا.

وأخيرا، جاء ابن النفيس، رئيس أطباء مصر والشام، والفقيه الشافعي المتوفى عام (687 هـ بالقاهرة)، فلمح خطورة هذا المدخل من الزاوية الشرعية، فإذا كان بإمكان الإنسان الاطلاع على الحقائق العلوية بالتجرد عن الحسيات فلاتعود الحاجة للرسالة وتنهار الشريعة، وإن كان ذلك ليس شرطا.

 لم يستطع ابن النفيس، أن ينقض ابنَ سينا لأنه كان يقدّره ويسميه الشيخ الرئيس، لكن خطورة هذا الطرح الفلسفي من وجهة النظر الشرعية جعلتِ ابنَ النفيس يكتب قصته بعنوان “فاضل بن ناطق”، فإذا كان حي بن يقظان يعني الوعي الإنساني الحر المنطلق، فإن “فاضل بن ناطق” يرمز إلى الفضيلة المرتبطة باللغة وبالرسالة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى