قصة قصيرة: خروج

د. قائد غيلان | اليمن

قمت مفزوعاً بعد غارةٍ ليلية، وفي الليل تكون الغارات أشد فتكاً، لكن هذه الغارة هزّت كل شيء في هذا البيت، وأحدثت تغيرات عجيبة لا تخطرُ على بال. صرتُ بعدها ألحظُ تغيُّـرات عجيبة على جسدي؛ استطالت أصابعي قليلاً وصارت أكثر نَهَماً، لكأنّما تحوّلت الحواس وتجمّعت في أطراف أصابعي. صرت أتعرّف على الأشياء عن طريق اللمس، وأتلذّذ بالأشياء عن طريق اللمس. أصبحت شغوفا بالخواتم، أشتري أنواعاً مختلفة منها وأظل أجرّبها على أصابعي طوال الليل. أذهب يوميا إلى محلات الخواتم أجرّب المئات منها على أصابعي الواحد تلو الآخر، حتى مُـنِعتُ من دخول تلك المحلات.

فتحتُ عيادة مجّانية للتداوي بالقرآن والعسل، كنت لا أفعل شيئاً غير تلاوة بعض الآيات وتقديم العسل بأصبعي إلى فم الفتيات، باعتبارها الطريقة المثلى لمكافحة السحر والمسّ الشيطاني. كنت أغسل أصابعي بالماء والصابون أمام الزبونة حتى تطمئن، أغمس الأصبع في العسل ثم أغمسه في فم الزبونة، وكانت كلّما لَعـقَت أو حرّكت لسانها حول إصبعي أحسّـها تسحب كريات الدم من أبعد خلية في الدماغ. كنت أستمر في غمس إصبعي تارةً في العسل وتارةً في فم الفتاة حتى يخرج آخر جنّي من إصبعي.

ُأُقفِـلَت العيادة وطردتُ من الحي، وأصابعي تزداد شَراهة، فكان لابد من العمى؛ أخرج أتحسّس الطرقات والمنحنيات، ويا سبحان الله، لم تكن يدي تقع إلا على الأجساد البضّة. كنت أسير فتهرب الفتيات إلى جانبي الطريق أو يدخلن المحلات، بينما كانت متوسطات الأعمار  يتعمدن المرور من أمامي طمعاً في تمريرة طائشة.

تأتي الأعياد ومواسم الأعراس، وهي المواسم الذهبية للتسوق، والمواسم الخصبة لأصابعي، أينما أضعها ترجع مرتوية، لهذا كنت أتخلّى عن فكرة العمى وأذهب إلى أماكن تسوُّق لاتعرفني، وفي هذه المواسم بالذات لا يعرفك أحد، فكل اللائي تراهن في السوق تراهن لأول مرّة، هنّ في الغالب ربّات بيوت كُنّ مقصورات في غرفهن، لا يعرفهن أحد، ولا يعرفن أحد، ولا تتعرّض أجسادهن لأشعة الشمس، تعرف ذلك من بياض بشرتهن والنعمة التي تقطر من كفوفهن، هذه النوعية من النساء أكثر عطشا لما في السوق، وأكثر تقبّلا لنزوات يدي وحنين أصابعي

في الشهور الأخيرة بدأت أصابعي تفتر، فلم تعد تستجيب لأوامر الدماغ، فلا تمتد كما ينبغي لها الامتداد، انزويت في ركن الغرفة لأيام، ثم فكّرت في اقتناء “بيانو” آخر جديدا، فالقديم صار أخرس، لا يستجيب لنداء أصابعي، كلّما لمسته أصدر ضجيجا لا علاقة له باللحن الذي أريد، أغرِمتُ بآلتي الجديدة، وعادت أصابعي لكامل لياقتها ورشاقتها وألحانها الشجية، صارت تتباهى بقامتها الفارعة وقدِّها الميّاس، وتلهو مع الخواتم عند كل مساء ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى