لوحات موجعة..بصمات واقعية موقّعة بالأمل.. إضاءة على قصص ناديا إبراهيم

سمر يوسف الغوطاني | شاعرة وناقدة سورية

عندما يعيث الفساد في القلوب والأجساد والأرواح تصاب الأرض بالنجاسة وتهرق على الأرض كل قيم الإنسانية فيغدو الهواء وبالاً والسماء نقمة والمياه قهر وينساب الألم مع الخبز الممزوج بالدم وتكثر اوجاع الروح ويجتاح الموت ناصية الدرب والمآل وتتفحص العين الناظرة بحرقة كل شيء وعن قرب لتكتب بأنامل الوجع كل ماتراه بحرقة قلب.

إنها العين الثاقبة والقلب الراعف حرقة واحساسا هي القاصة ناديا إبراهيم والموصوف (لوحات موجعة من أرض الوطن) عنوان عريض شامل يحكي قصة الوجع ويلثم الجرح بالأمل بواقعية كبيرة استطاعت كاتبتنا المبدعة ملامسة الأرض بقلمها وحطت من سماء الابداع كهدهد سابرة اغوار الألم راصدة جوانب حقيقية لألم شعبنا العربي السوري ولم تنسَ قضية وطنها الفلسطيني بعمل متقن يأخذك بكل شخصياته بوصفه وبانسيابية الحدث وتآلفه دون انقطاع فالبداية تقودك للنهاية دون انقطاع ضمن حيزي الزمان والمكان قد حددتهما الكاتبة.

فانطلقت بنا من العنوان حتى نهاية السرد بجدارة محترف فالقاريء لديها يواسي الحدث وبشفق على شخصياته ويسير في شوارع المخيم ويتألم لما أصابه في كل تفصيلة من تفاصيل قصصها ففي زمن الحرب نحن… الحرب الكونية على سوريا حرب الفسادوالمرتزقة منذ بدايتها وفي احتدامها فالعصابات هم الغربان السود والليل عميق في سواده متجهم بألمه هكذا يطالعنا العنوان الأول (غربان الليل) فالبطلة تضع يدها على مكان الألم تتركها الكاتبة لتحكي ألمها إذ تقول: (ألاتعرفون أنني ابنة بلدتكم ياحيف عليكم وعلى أفعالكم الناقصة…)
هذه معلمة فرت مع زوجها من الضاحية الكبيرة في منتصف الليل هربا من العصابات المسلحة مع ابنهما الوحيد وعند الفزع والخوف يحتار النازح ماذا يحمل من بيته وجنى عمره….غير الألم لأن الفرار بالروح هو المهم الأن.. هذه المرأة وبالصدفة كانت معلمة لأصغر أفراد العصابة…هو قد عرفها فقال: (اتركوا الآنسة بحالها ياجماعة لاتفضحونا مع أهالي الضاحية) وهنا دلالة على بداية الأحداث المأساوية حيث العصابات كانت تعمل سرا اعمال السرقات والخطف وكل الرذائل …
وهذه نقطة هامة إشارت اليها الكاتبة بالحوار الذي خدم المعنى وشرح المسألة ببساطة وذكاء
وفي حضن الحصار يبقى ( الخبز الممزوج بالدم) شاهدا على أرملة قضت نحبها من أجل إطعام اولادها الجياع أسرعت خطاها نحو مخبز المخيم وقد شاهدت وهي ترتجف خوفا منظر سرقة الخبز المخصص للمواطنين بكميات كبيرة من الباب الخلفي للمخبز فتأخذ ارغفة الخبز بحذر وتغادر مسرعة فالخبز المهرق والمسروق يذهب من حصة الأهالي في المخيم للمرتزقة والعصابات وهذا مايحرق القلب وهنا الكاتبة ربطت من خلال المونولوج الداخلي للبطلة قضية البلاد بقضية فلسطين لتثبت أن المرتزقة هم أنفسهم هنا وهناك في جسد الوطن العربي…ولتعود بنا إلى ألم اللاجيء الفلسطيني الحاضر دائما في وجدانه أينما حل فهو غريب يحتاج وطنه ويحن إلى العودة ويتذكر النزوح وقسوة اقتلاعه من وطنه توضح ذلك من خلال حوار البطلة مع نفسها حين قالت: (ياحسرة علينا ترى رح ترجع فلسطين ونشوفها مع أولادنا) مستخدمة اللغة العامية فيه مما يزيدها التصاقا بالواقع وحميمية في مشاعر الانتماء فالحوار هنا بلغته الجميلة لم يتقوقع بمحليته لكنه بلغة بيضاء شاملة لبلاد الشام.. والحديث يطول في ماهية هذه القصص الجميلة التي أخذتنا بإحساس مرهف ومواكبة مستمرة من خلال السرد والحوار والشخصيات المألوفة الواقعية نحو حميمية النص وحرارة الشعور وحسن التدبر والمعالجة وإدارة الأحداث بأسلوب شيق خال من الغموض المربك المشتت لعقل القاريء وأنفاسه.

لكنني هنا اضع يدي على الخطوط العريضة لاوراق ابداعية ترسم الحدث بواقعيته دون تدخل من الخيال سابرة به العواطف والاختلاجات النفسية والحالة العامة والخاصة ضمن أسلوب مدهش وإطار وصفي للمكان والزمان يزيد الحدث قربا من القلب وواقعية.

ففي اللوحة السادسة تجسد الكاتبة مسالة غاية في الأهمية وهي تجارة الأعضاء وهذه نقطة ارتكاز مهمة كانت من فجائع الازمة حقيقة مثلتها لنا قصةعنونتها (حال الموت) فالموت صار حال المواطن فمنوى تلك الزوجة الخاىفة على زوجها تستيقظ في الليل قلقة كي تمنع زوجها من مخاتلتها والذهاب لتبديل اسطوانة الغاز التي تستخدمها في الطبخ والآن هؤلاء الأولاد الجياع يتقوتون بأي شيء أمامهم لكن ابنته اشتهت طبخة وتحسر من أجلها فقرر أن يأتي باسطوانة الغاز مهما كلفه ذلك لكن الزوجة تمنعه لأن من يخرج من بيته يموت حتما الحصار والقذائف والعصابات كل شيء على أشده ..وعند ما ذهب الأب دون علم زوجته..استيقظت تتفقده عند أذان الفجر فلم تجد الاسطوانة مكانها فعرفت أنه خرج بها لكنه ظلت تنتظر خائفة وتتخيل قدومه كلما سمعت صوتا خالته هو…ظلت أملة حتى فتحت الباب فرأت ما أفزعها (لكن يديها لم تعثر ا إلا على صرة مزمومة من الثياب ملقاة أمام العتبة) فقدان زوجها وعزاء المعزين السبحة في يدها وشرود تام عن الناس في تذكر لمشهد واحد وتنعجن هذه الذكرى بدموعها وصف جميل من الكاتبة وينعجن الدمع بعرقها وتتساءل في نفسها: لماذا دفن سرا وبعيدا عن المخيم؟!) بحر من الألغاز ورسالة مع ثيابه تحدد موقع دفنه فقط
الأسىلة الكثيرة تتبادر لذهن البطلة والقاريء يتابع بترقب ولكن بعد مشوار الخوف نحو المقبرة وبكاء عنيف وحسرة وبجانب قبر حديث يطل رجل غريب عليها وهو حارس المقبرة المرتجف خوفا واشفاقا عليها اذ يقص عليها السر ورؤاه في فجر امس حيث (ر أى ثلاثة رجال يرتدون الأقنعة المطاطية ويحملون جثة رجل لفّ بشرشف لم يميز ألوانه احدهم كان يحمل بين يديه حقيبة سوداء مددوا الجثة على التراب وانتهكوا الجسد المضرج بالدم ثم بقروا بطنه وأخرجوا مافيه ….أشياء لم يرها بسبب العتمة وارتفاع شواهد القبور المتراصة ناوأته نفسه لكي يمنعهم من فعلتهم….. ………….لكنه انكفأ مترددا…أحدهم أطلق عدة رصاصات في الهواء عندما سمع صوت خشيش داخل المقبرة……………….) وبعدها دفنت الجثة بشكل فوضوي والآن قطعت كل هذه المسافة لتتأكد وترى جثة زوجها وماذا جرى له وكيف هي ميتته ..لكن الخوف والحذر جعلها تنوح بمرارة وتصمت بعد سرد حارس المقبرة لقصة اللصوص تجار البشر وخوفه على نفسه وحياته أمام هؤلاء الوحوش….وبهذه التفاصيل السردية والوصفيه للحدث الأليم تضع يدها على تفاصيل حقيقية للألم …
ونراقب عن كثب الساحة والشارع العام ودكان البائع مفيد وهو يرش الماء صباحا ويتأفف من اعتراض سيارة مرسيدس واجهة محله.في لوحة (الرمق الأخير) وكما يقال في الأمثال( دود الخل منه وفيه) حيث تضع الكاتبة القاريء امام حقيقة لابد من الوقوف امامه بتمعن ودراية وخصوصا في الازمات هي الخيانة التي قد تأتي من اقرب الناس وحرص الانسان يجب أن يكون من حيث يأتمن….فمن لاتشك فيه توقع ان يخدعك ويخونك وللاسف فهذه الأزمة الكارثية جعلت الأعداء والانتهازيون كثر.

وقد يكون الفاسد والمجرم برداء جميل وعربة فخمة وابهة لكنه قاتل نجس …(اعترض وصلة البرنامج الإخباري صوت سيارة مرسيدس بيضاء توقف خلسة في الفسحة المتاخمة لدكانه فزفر غيظه وهو يرى هذه الكتلة المعدنية تسد عليه منافذ رزقه صعق من اناقة الرجل الغريب الذي ترجل منها كان وجههه مكفهرا جافا وكانت أطراف اصابعه تقبض على موبايل فخم يهمس به بصوت خفيض متعمدا ألأيسمعه أحد المارة ….. …….) ومع هذا الرجل كانت نهاية البائع مفيد إثر تفجير ارهابي بعربة (مرسيدس) وقد شهق شهقات الموت (وشفتاه ترتجفان تحاولان وصف الرجل الأنيق الذي غدر بهم وخانهم) وهنا إشارة من الكاتبة أن الخيانة تأتي من الداخل شديدة ومرة الطعم فالضحية عرفت الجاني تماما لكن للاسف كان الموت أسرع فغطى الحقيقة …فالخوف والهلع بات السمة المرافقة لكل روح تلهث وراء الحياة في كل آن فلاوقت اليوم للعواطف وتبادل الحب والرغبات الإ رغبة واحدة هي الحياة فقط (حي أو ميت) ذلك مايهم والباقي ترهات واوهام ففي اللوحة الثانية عشرةوالاخيرة تلتفت الانثى لدى الكاتبة لذاتها فتبحث عن امانها المفقود واكتمال انوثتها التي نسيتها بالفقد والترمل والحسرات والحزن والعبء الثقيل التي تنوء بحمله…الاولاد وتربيتهم ومعاشهم وامانهم …بعد ست سنين من الحرب الضروس التي كسرت الارواح والقلوب هذه المرأة المنكسرة (البائسة) كما وصفت هي نفسها ضجيج القذائف والقصف والانفجارات تعشش داخلها وتتلف اعصابها (أخي وزوجي ذهبا تحت قذيفة هاون في المخيم وأنا هنا مشردة مع والدي العجوز وأولادي في مكان يغوص حتى الركب او حال الوباء و الفجور والابتزاز)
بهذا الحديث التي أجرته الكاتبة على لسان البطلة لخصت الجو العام للقصة ثم جعلت الشخصية تعبر عن نفسها عن طريق المونولوج الداخلي وكذلك مهيئة للحدث بالحوار الخارجي المؤثر والمحفز للشخصية البطلة حيث قالت لهاابنتها ذات مساء( الى متى تدفنين إنسانيتك بهذا اللباس الأسود؟!)
وعندما خلعت الاسود عاملة بالنصيحة متجنبة حزن ابنتها ومللها…ارتدت فستانا ازرق مزركش بالياسمين….فاعجب بها شاب وسيم يركب سيارة فضية وظل يلاحقها .. مسلطا نظره عليها طيلة الوقت
لكن لم يخطر ببال البطلة انه معجب بها بل تردد على هاجسها مئة سؤال وسؤال( هل انا احلم؟ ام اتخيل؟ اهو احد اصدقاء زوجي الشهيد؟ ام هو رجل رماه الزمن في طريقي ليسُرَّ لي شيئا لم اعرفه عن قضية زوجي واخي ….) فكان الحوار الداخلي لديها اداة لتوضيح القصة ومعينا للسرد على المضي بالحدث…فهذا الحس الذي تسكنه الرحمة الأنثوية لم تأت على الذات بل ظلت بين جدران البيت والانتماء للاسرة …ثم دفعها هاجس الخوف من السرقة وهي شائعة في هذه الفترة العصيبةوبقوة الى تغيير منحى السؤال( ترى هل يود سرقة محفظتي ؟ انا احبها لأنها هدية من اولادي)
ظل هذا الحديث الداخلب النفسي يرافق البطلة كصديق مشاكس يقلّب الأحداث كي يوصلنا الى حقيقة الامر متماديا في عصف الظنون ( لم يبدِ هذا الرجل نحوي أية إساءة بل كان مبهوراُ بشخصيتي الشامخة كشجرة السنديان لم اتجرأ وانا اسابق ظلي ان اسأله لماذا يطاردني ماذا يريد مني! لم اجرؤ ان اضع حداً لتماديه في ملاحقتي بل لذت بالفرار)
تشرح الكاتبة بهذا المونولوج حالة المراة النفسية وهي ربما حال عامة تنطبق على انثى مجتمعنا العربي
لأن الانثى محاصرة بالقيود الأليمة المفروضة عليها مجتمعيا واخلاقيا ونفسيا والأن هنا زادت وطاة الخوف بسبب ا لخطف والقتل والسرقة ..وحيث ان القيم الخلقية تردت وقلت المروءات فالخوف صار جلادا ..( اهيم على وجهي وروحي ترتعش منتحرة من حرارة تموز المكدسة فوق رأسي اركض وسياط من الاسئلة المحيرة تجلدني بإشارة لم اشتمها منذ عشرين عاماً) رائحة العطر كانت تشير الى ان هذه المرأة لم تلتفت الى نفسها منذ عشرين عاما..الراىحة التي اعادتها الى احساس الانثى المفقود لديها في خضم القهر الاجتماعي النفسي ومن ثم قهر الحروب والخوف وانعدام الأمان ( فتل رأسي أمامي رأيت الأشجار تتحرك من امكنتها والأبنية تدور على الأرض والناس تسير باتجاه معاكس …) الارهاق والحرارة والاوهام والفكر المتلاحقة والهواجس قلبت دنياها رأسا على عقب
( كلماته التي رددها اسمعها للمرة الأولى من رجل لا أعرفه )
وفي عبارة شارحة للحالة قالت البطلة ايضا( أحسست بدعائه يخدش صقيع وحدتي وعتمة الانطفاء في جسدي واسرار كثيرة لازلت اكتنزها في أعماقي)
اذا هذا هو حال المرأة في مجتمعنا معظم النساء يشعرن بالفقد والحاجة الى اشياء كثيرة تخجل ان تبوح بها لكي لايلومها المجتمع او يسيء معاملتها بهذه الحوارات الجميلة والمعبرة عن الحالة النفسية للبطلة الارملةو الأم وا الزوجة والأخت والانثى التي لاتنطفي جذوة الحياة فيها لخصتها الكاتبة ببضع عبارات اجرتها على لسان بطلتها باتقان وجمال استعانت بالصور الحسية الجميلة والحواس لتصل الى المعنى ودفق العاطفة والتفاعل مع شخصياتها وقصصها بكل شوق ومحبة باسلوب خبير طليق جميل وواقعي كان الملاذ فيه التجربة والمشاهدة اقتصر فيه استخدام الخيال على مقاربة الصور وتسيير الحدث وآلية القص الحكائي الناجح …
ويبقى للنص لديها فضاء اوسع وآفاق متصلة باثنتي عشرة لوحة مؤلمة من ارض الوطن النازف بقلم يفيض احساسا وعمقا وجمالا وهي خطوط عريضة لخصت فيها الكاتبة ناديا إبراهيم قصة ألم الوطن وتداعيات الازمة نفسيا واجتماعيا واقتصاديا فكان الحوار اداتها الطيعة الناجحة واختيار شخصياتها من ارض الواقع واستخدام الصور الحسية باعتمادها غالبا على التشبيه ادخالها للكلمات العامية الراقية البعيدة عن المبتذل والمكروه واستنادها الى واقعية الحدث وتفاصيله المعاينة.. وكان المخيم هو الحيز المكاني لمسرح القصص جميعها والزمان هو زمن الحرب منذ بداياتها…. عسى ان اكون وفقت في هذه الأضاءة المقتضبة لبعض القصص المنتقاة غير ان الكتاب وفي كل نصوصه القصصية حافل بمشاعر واحداث كثيرة فيها زخم فكري وعاطفي يفيض احساسا والتصاقا بالواقع….ناديا أبراهيم لقلمك رائحة الزعتر البري والياسمين الدمشقي وعبق الخبز والتراب والشوارع والمأذن ورائحة الوطن الغالي فقد وقعت بقلمها هذه اللوحات المؤلمة بالأمل الناهض في نهاية كل قصة مؤلمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى