من رسائل الأدباء.. عمر هزاع مجدد الشعر أنموذجا

محمد بركات | مصر 

ليس شيءٌ أثقلَ على القلم من أن يكتب مكرهًا مجبرًا، لا مختارًا حرًّا، وقلمي هنا ينتابه شعوران متناقضان غامضان، فهو يريد بكامل حريته أن يكتب، ويريد بكامل مشيئته ألا يكتب، يريد أن يكتب لأن المكتوب له يستحق ما سيقال فيه وله، ولا يريد أن يكتب لأنه مهما قال له فالصمت به أليق وأجدر، وحبره فيه نافد قبل بلوغ أدنى ما يستحق من الإشادة والتكريم، وحسبك حيرة وضلالًا أن تعرف إخفاق مسعاك في النتيجة قبل الشروع في مقدماتها، وهو كذلك يريد أن يكتب لئلا يبخس حق رجل حقُّه على الشعر والبيان عظيم، وحقه على الأقلام أن تظل على سجاد قراطيسها ساجدة لا ترفع رأسها أبدَ الشِّعْر في صفة شعره وبيانه، متقربة إلى الله بحب هذا الرجل العظيم.
هنا حيث النثر يغار من الشعر، فيعلو ويسمو ليكون شعرًا منثورًا؛ لأن هذه الرسالة إلى شاعر العصر الحديث الضخم عمر هزاع، ذلك الرجل الذي يتنفس شعرًا، فيقول الشعر متى شاء وكيف شاء، وتلمس مشاعرُك في كل حرف في قصيدته شعرًا، فأنت حين تقرأ له لا بد أن تستحضر حواسك الخمس؛ لأن في شعره ما يُلمَسُ، وما يُشم، وما يذاق، وما يرى، وما يحس، فالحرف عنده بل النقطة في الفراغ تدل على كلام كثير، وشعر بليغ، وصور مدهشة لا تقل روعة عما أفصح به.
إن عمر هزاع لا يأتي الشعر، بل الشعر يأتيه؛ لا مشيًا على القدمين، بل سعيًا على الرأس.
كل يوم يفجؤني الفيس بشاعر كبير أو أديب فذ عبقري، فأعرف أن الأدب ما زال بخير وأن الأمة لم تمت ولن تموت، نعم إن أمة فيها أمثال عمر هزاع أمة باذخة الجمال، وحروف لغتها في الشعر تفوق قيمة الذهب والألماس حينما يكتب بها فذ بليغ يحسن الضرب على أوتار البلاغة والفصاحة والبيان.
أقول هذا لأني كلما وجدت أحدًا يكتب بعشق وحب وحرفية، وأسلوب مغاير عِمادُه البلاغة والتركيب العربي الفصيح، تغمرني السعادة؛ لأن هذا يكون لصالح الأمة كلها؛ ليجد كل مريد للأدب ما يناسب ذوقه، فلا نريد أن تكون الأمة كلها الجاحظ ولا أبا حيان ولا الرافعي ولا شاكرًا، ولا نريد كل الشعراء أن يكونوا المتنبي ولا أبا نواس ولا أبا العلاء ولا شوقيًّا ولا نزارًا، بل نريد من كل أديب وشاعر أن يهضم ما سبقه من أدب، ثم يخرج نفسه هو بعد ذلك، وكذلك فعل كل قساورة الأسلوب.
وشاعرنا عمر هزاع هضم الشعراء وشعرهم، وأخرج لنا شاعرًا لا كالشعراء، بل شاعرًا نفاخر به الدنيا بحق، وهو يجب أن يأخذ دوره في ترتيب قساورة الأسلوب الشعري، فهو لعصره أول طبقة الشعراء فيه، وهو لمن قبله مسك الختام، فقد حاز الفضيلة ابتداء وختامًا.
وإنه إن كان يأتي لهذه الأمة على رأس كل مئة مجدد، فإن عمر هزاع هو مجدد الشعر في هذه المئة التي نحياها.

أقول هذا اقتناعًا به، ويقينًا راسخًا، وكل ما سبق مراد بحقيقته ومجازه إن كان فيه مجاز، فلم يطغ مني القلم، بل كبحت جماحه أن يطغى، ولم يجمح بي الخيال، فليس للخيال هنا دخول لكي يجمح، بل هنا الحقيقة مجردة عارية لائحة لذي عينين، وقد يخالفني في بعض ما قلت مخالف، ولكل وجهة ورأي هو مسؤول عنه ومحاكم إليه، فليس حسنًا، بل قبيح، بل مذموم، أن تتعصب لكاتبك أو شيخك المفضل في كل شيء، وتصادر على الناس أقوالهم فيه، فكل أولئك مظنة زلل العقل، فما منا إلا هو مأخوذ منه ومردود عليه إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، المهم أن تجتنب كبائر الأقلام، وأفاعي الأفهام وما سوى ذلك فللقول فيه مجال، ولخيل القرائح فيه مضمار، وللحبر رؤوس أقلام، ولكني أحذرك أن تعيب القمر ليلة البدر وتقول: «هو مظلم»؛ لأن هذا سيدل على فساد ذوقك، وسخيمة نفسك، وفهاهة منطقك، ورعونة عقلك، فتبصر ما تقول ثم قل، وما عمر هزاع إلا قمر ليلة البدر، أو هو أكثر نورا، وأوضح ظهورا.
ولم أقتطف من شعره هنا شيئًا، بل أدعوك أن تدخل صحيفته وتقرأ ما تقع عليه عينك من دون انتقاء، وستجد شعره كله عيونا تتفجر روعة وجلالًا وبهاء وشعرًا، فالحمد لله على أن أدركنا زمنًا فيه هذا الشاعر الضخم.
وهو صاحب مشروعات شعرية كبيرة لا مجرد شاعر كالشعراء، فأنت تقرأ في شعره نفسا كبيرة لا شعرا مزخرفا مزورا بالكنايات والتشابيه حسب، وهو قد أثر في شعراء جيله فترسموا خطاه واتبعوا سبيله.
شعره تطريز بديع، ووشي منمنم، وحلى عروس، وبهجة نفوس، وروح وريحان، لو سابق الريح لسبقها، ولو قابل الأسود لاعتنقها.
وهو فم يهدر شعرا، وعقل ينثر درا وتبرا، القواميس بين عينيه يأخذ منها ويدع، والمعاني رهن بنانه إن أشار لطائرها وقع، إن نظم في جراحات الأمة فخيل مضمار، أو شعر في الغزل فجونة عطار، لو رآه الجاحظ لأوقف عليه بيانه وتبيينه، أو التوحيدي لكان في الإمتاع والمؤانسة سميره.
الصديق والأستاذ والأخ والشاعر عمر هزاع هذه مقالة عنك، أو إن شئت التحقيق فهي مقالة حولك؛ لأن الكلام عنك صعب جدا، فتقبلها خالصة حبا وشهادة حق وصدق من محبك محمد بركات.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى