مرادفات  العقل بين القرآن والفلسفة

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري

دائما ما يأتي القرآن للمعنى من أقرب طريق للعقل، وأيسر لغة للذكر والفهم “ولقد يسرنا القرآن للذكر”، كيف لا وقد جاء ليعجز العرب ببلاغته، ويبهرهم بحجته فلا يستطيعون لهاجوابا، ولا يمارون له خطابا، وهو الذي يقول:”ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا”.

 ثم يأتي الفلاسفة قبله أو بعده ، وهم يقدّون من الصخر، أويرشفون من الديم، ثم لا يجدون أنفسهم بعد ذلك إلا دائرين في فلكه، ولا يخرجون عن جاذبيته، كما قال أحدهم “اعلم أن العلاقة مع القائد نوع من العبادة .. فأنت دوما لا تستطيع أن تصلي إلا في محرابه”.

لا يتعرض القرآن للعقل ك (اسم)، أو كمصدر ولا إلى تعريفه، مما يوحي أن قضية وجود العقل الفطري(المطبوع) قضية بدهية لم ولن يختلف عليها أحد، كما ذكر أيضا علماء اللغة أن التعبير بالفعل أقوى من التعبير بالاسم من حيث الدلالة على التجدد والنشاط والاستمرارية، فجاء التعبير ب (يعقلون، يفقهون، يتفكرون، …) لذلك .. وقد ذكر ذلك الإمام على رضي الله عن الفرق بين العقل الغريزي والمكتسب .. وهو الإمام الملهم الناهل من معين بيت النبوة، فقال:

رأيت العقل عقلين **   فمطبوع ومصنوع

ولا ينفع مصنوع **   إذا لم يكون مطبوع

كما لا تنفع شمس ** وضوء العين ممنوع

والمطبوع هو الفطري، أو ما يسميه الفلاسفة: الهيولاني، والمصنوع هو المكتسب، وهو ما يسمونه: العقل الفعال..

أما الحديث الذي يمارى في أمره فهو نشاط العقل وتعلقه بالقلب أو الدماغ، فذكر القرآن مفردات العقل متعددة بمعنى: القلب والفؤاد واللب و الحجر والنهى والحلم والفكر  والفقه والتدبر ..

فالقلب: وهو من كثرة التقلب والتغير، كما يعني الوسط واللب والخلاصة من كل شيء، وأرقى ما فيه”لهم قلوب لا يفقهون بها” (الأعراف)، “إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد” (ق). 

والفؤاد: هو بالنسبة للقلب كغشاء أو باطن “وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون” ( النحل)، “ما كذب الفؤاد ما رأى” (النجم).

واللب: اللب من كل شيء خلاصته وخياره ونفسه وحقيقته، وهو ما في جوفه “إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب” (الزمر).

والحجر: وهو الذي يحجر الإنسان، أي يحول بينه وبين شهوات النفس “هل في ذلك قسم لذي حجر” (الفجر) ..

 قال الإمام الفخر الرازي:” الْحِجْرُ الْعَقْلُ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ عَنِ الْوُقُوعِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي كَمَا سُمِّيَ عَقْلًا وَنُهْيَةً/ لِأَنَّهُ يَعْقِلُ وَيَمْنَعُ وَحَصَاةً مِنَ الْإِحْصَاءِ وَهُوَ الضَّبْطُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ إِنَّهُ لَذُو حِجْرٍ إِذَا كَانَ قَاهِرًا لِنَفْسِهِ ضَابِطًا لَهَا كَأَنَّهُ أَخَذَ مِنْ قَوْلِهِمْ حَجَرْتُ عَلَى الرَّجُلِ، وَعَلَى هَذَا سُمِّيَ الْعَقْلُ حِجْرًا لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الْقَبِيحِ مِنَ الْحَجْرِ وَهُوَ الْمَنْعُ مِنَ الشَّيْءِ بِالتَّضْيِيقِ فِيهِ.”.

والنهى: جمع نهية، وهوغاية الشيء وآخره، أو طلب الامتناع عن الشيء: “إن في ذلك لآيات لأولي النهى” (طه).

والحلم: وهو ضبط النفس عن سرعة الغضب والانفعال،والتأني في تعاطي الأمور”أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون” (الطور).

والفكر: هو إعمال العقل فيما يثمر أمرا مفيدا من دفع ضر، أو كسب نفع “إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون” (الزمر).

والتدبّر: هو التأمل لإخراج مكنون الحكمة، والاستنباط والفائدة  “أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها” (محمد).

والفقه: هو الفهم ، وحسن الإدراك، والعلم .. ويطلق على علم الشريعة “لهم قلوب لا يفقهون بها” (الأعراف).

تناول القرآن نشاط العقل بهذه المفردات المتوافقة المتقاربة، التي يدل كل منها على معنى من معاني العقل، وفي كل مرة منها  يٌذكّر ويدلل، ويبين ويفضل، ويحاجج ويجادل بالتي هي أحسن ــ حسب ما يقتضي السياق ــ  ويقرّع ويؤنب، ثم يعاتب بعد سرد الآيات البينات والحجج الدامغة :كيف يؤفك هذا العقل عن الحق، ويخاطب أولي الألباب مذكرا، وكل ذي حجر، ومن كان له قلب يفقه، أو فؤاد يعلم من طريق السمع والبصر ما ينقل إليه من الآيات المسموعة والمنظورة، ويستفز أولي النهى أن ينظروا إلى هلاك القرون من قبلهم، وما حاق بهم جزاء ما أغفلوا عقولهم، وصموا آذانهم، وأعموا أبصارهم..

أما الفلاسفة: (كالكندي مثلا.. فهو على خطى أرسطاطليس وأفلاطون ) و يرى العقل على أربعة مراتب: العقل بالفعل، والعقل بالقوة، والعقل بالملكة، والعقل البائن أو الظاهر ..

أما الفارابي (المعلم الثاني): فيرى تقسيم العقل: العقل الهيولاني (العقل بالقوة)، والعقل بالملكة (العقل بالفعل)، والعقل المستفاد، ثم العقل الفعال.

وكلها معان تدور على: أن (العقل الهيولاني) هو العقل (بالقوة)، وهو الأولي أو العريزي أو الفطري و آلة العقل ومادته (القوة) الذي يميز بها بين ما يضر وينفع من الخطأ والصواب، والخير والشر..

والعقل بالملكة (بالفعل): الذي يتم نقل فيه حقيقة المعقولات من الواقع إلى الصورة العقلية، فتصير له ملكة الإدراك والتعقل.. ومالم يتم إدراكه يصبح في حيز (العقل بالقوة).

العقل المستفاد: وهو الذي أدرك المعقولات وصارت فيه ملكة كأنها جزء منه ، وهو أقرب جزء إلى العقل بالفعل.

والعقل الفعال: وهو عقل خارج عن نطاق العقل الإنساني الذي يمنح العقل الإنساني صور الموجودات، وهو بالنسبة للعقل بالفعل كالشمس بالنسبة لضوء العين، والذي يمنح العقل بالفعل ملكة الإدراك ؛ ويعزوه بعضهم إلى الله الواحد الذي تستمد منه العقول جميعها قوة الإدراك والتعقل.    

ولا يختلف ذلك عن كلام الشيخ الرئيس (ابن سينا) الذي يرى أن: العقل (الفعال) الأول هو الذي يفيض بالصور والمعقولات على العقل الإنساني(العقل بالقوة )، ويهبه قوة المعرفة والإدراك .. كما أن النفوس الناطقة يراها ابن سينا أنها لا تٌمنح المعرفة بقدر ما تجتهد نحوها، ولكن بقدر اتصالها بالعالم العلوي، أو بالعقل الفعال الذي تتلقى عنه المعرفة .

أما الإمام الغزالي: فيحدد مراتب العقول كما يحددها الفارابي وابن سينا، ثم يقول: أن العقل الفعال هو عقل كوني خارج النفس الإنسانية، يفيض عليها من المعرفة حسب استعدادها لقبول إشراقه، ثم يرى أن العقل كالسراج والشرع كالزيت الذي يمده، فمالم يكن زيت لم يحصل نور السراج، وما لم يكن سراج لم يضئ الزيت.. فالشرع عقل من خارج والعقل شرع من الداخل، وهما متعاضدان بل متحدان .

وهكذا نرى تعريفات الفلاسفة تدور معظمها على ما يفصله القرآن ويبينه من مرادفات العقل ومعانيه، غير أن القرآن لا يأتي إلى المعنى إلا من أقرب طريق،ثم أنه لا يصف الله بمعنى العقل الفعال كالفلاسفة، ولكن يعزى أن كل علم في الكون لا يكون مبدؤه ومنتهاه إلا من الله وإليه، فيقول: “علم الإنسان مالم يعلم” (القلم)، ويقول: “الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى” (طه)، ويقول”وعلم آدم الأسماء كلها” (البقرة).

……………

المراجع:

  • المعاني : المعجم الوسيط
  • التفسير : الفخر الرازي
  • العقل عند الفلاسفة المسلمين (د تيسير أحمد الركابي)
  • معارج القدس في مدارج معرفة النفس (الغزالي)
  • دراسة موضوعية لمصطلح العقل من القرآن الكريم (مجلة الرقيم عدد يونيو2019) د.نادية الشرقاوي
  • العقل في القرآن والعلم الحديث(موقع طريق الإسلام ـ عدد07/2019
  • موقع ملتقى أهل التفسير (ناصر عبدالغفورـ عدد ديسمبر2019)

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى