حَوِّلْ ضَعْفَك قوةً…!!

أ. د. مصطفى رجب

Mostafaragab2@gmail.com

من أخطائنا الشائعة في تربية أبنائنا : تلبية كل رغباتهم مهما تكن طاقة الأسرة وإمكاناتها، وأمثال هؤلاء الصغار الذين يُنَشَّأون على الاستجابة الفورية لكل ما يحلمون بامتلاكه، أن يصيروا –إذا تقدمت بهم الأعمار- رجالاً ضعافًا أمام الماديات، يتهافتون على الثراء السريع، ويجعلونه أهم هدف يعيشون به وله. وفي مقابل ذلك تَضمُر في نفوسهم نوازع التميز الأخرى، فلا يعنيهم التقدم العلمي، ولا تجتذبهم أضواء النبوغ الفني، ولا تفتنهم العبقرية. وعلى نقيض هذه النماذج البشرية الغارقة في الملذات والتهالك على الأموال والثروات نجد نماذج أخرى من البشر تمتلك نواحي التميز وأزمَّة النجاح.

وهذه النماذج الأخيرة نشأت [في الأغلب الأعم] في أسر فقيرة أو متوسطة ،  لكن هذه الأسر امتلكت أهم مفتاح من مفاتيح النجاح في الحياة، وأعني به مفتاح “القدرة على الموازنة بين الرغبة والقدرة”.

وهذا المفتاح يمكن تركيزه في ثلاث كلمات هي: “إمكاناتي لا تتحمل ذلك” أو “ظروفي لا تسمح بهذا”. فمثلاً إذا أراد الطفل شراء لُعَب غالية كالتي يراها مع أقرانه، أو ارتداء ملابس فاخرة وما شابه ذلك، تقليدًا لأصدقائه، فهذه رغباته ورغبات أسرته أيضًا، مسايرةً له، لكن “قدرات” الأسرة أو “إمكاناتها” المادية قد لا تسمح بتحقيق هذه الرغبات، وهنا يكون الأب حائرا بين خيارين: إما إعادة ترتيب أولوياته بحيث يقدِّم رغبة الطفل على احتياجات أخرى للبيت قد تكون أشد إلحاحًا أو أكثر أهمية ، وهو لو فعل ذلك يكون قد غشَّ ابنه، ونشَّأه في ظروف مصطنعة من ثراءٍ متوهَّم، وإما أن يكون واعيًا بترتيب أولويات بيته، فيجلس مع ابنه جلسة الصديق القريب الناصح ويحاوره حول تفاوت القدرات المالية بين الأسر، ويكشف له عن حقيقة احتياجات البيت، ويتوصل معه –  بالحوار الهادئ المغلَّف بروح الود والمرح وتبادل الآراء – إلى أهمية تقديم كذا وكذا على كذا وكذا من المطالب.

 وبهذا السلوك يصيب الأب هدفين معًا : فهو يستجيب لإمكاناته الحقيقية ويلبي أولوياته تلبية طبيعية. وفي الوقت نفسه يعوِّد طفله تدارس الأمور بعقلانية وتدبر ويغرس فيه محبة التفكير، والتماس الحِكْمة في تدبير شؤون حياته كافة.

فإذا خرجنا من نطاق الأسرة وتنشئتها أطفالها على هذا النحو، ومددنا خط تفكيرنا على استقامته لنرى  سلوكياتنا نحن الكبار، فسنرى عَجَبًا من أثر غياب تلك الكلمات الثلاث عن حياتنا.

إن الكلمات الثلاث [إمكاناتي لا تسمح بذلك] إذا أردنا اختصارها أكثر فإنها تؤول إلى : (لا) و ( لا ) هذه : حرف واحد فقط من حروف الأبجدية العربية، أو إن شئت فقل : حرفان (اللام والألف) والمعنى النهائي للحرف (لا) هو: الرفض، أي : رفض الانصياع للرغبات – مهما تكن جاذبيتها وسحرها-. والخضوع للقدرات –مهما تكن ضحالتها أو تواضعها-

 وواضحٌ أن اعتراف الإنسان بحقيقة قدراته فيه قدرٌ كبيرٌ من المجازفة لأنه يضع الإنسان في حرج اجتماعي أمام معارفه وأهله وأصدقائه وزملائه، ولكنه في الوقت نفسه علامة مضيئة من علامات الصحة النفسية وقوة الشخصية، فالاعتراف بالضعف في ظاهره يُشعرنا بالخجل ولكنه يحقق لنا في النهاية السلام النفسي، ويقينا شر كثير من الاضطرابات النفسية التي قد تتطور مع التكرار إلى أنواع من التوتر والعُقد النفسية ، ويحتاج المرء في تفاديها إلى الوقوع في براثن الكذب والمجاملة والنفاق والتظاهر والخداع وقد تنتهي باحتراف النصب أو السرقة أو الاختلاس… إلخ.

وانظر حولك إن شئت فسترى فريقًا من الناس يشهدون اجتماعات مختلفة فيُنكرون فيها أكثر مما يتقبلون، ويستهجنون منها أضعاف ما يستحسنون، ولكنهم [ استجابةً لما تعودوه من غش في حياتهم] لا يصرحون بما أنكروه، ولا يُعربون عما استهجنوه. فتراهم يوافقون وهم كارهون، ويصمتون وهم مقهورون داخليًا.

وترى فريقًا من الناس يسيرون في حياتهم اليومية بما فيها من أفراح وأحزان ومناسبات مختلفة وفق ما يرونه سائدًا وإن كان ضد ما يؤمنون به من قيم ومبادئ، وعذرهم في ذلك “أن الآخرين يفعلون هذا!!”. ومثل هذه الحياة الرتيبة التي تخضع لما يفعله “الآخرون” بلا أية مقاومة. حياة مغشوشة لا أثر فيها للسعادة وإن تظاهر بها المتظاهرون!!.

فالإنسان الحكيم يمكنه –في أي وقت- أن يجعل حياته أكثر سعادةً، وأن يجعل صحته النفسية في تمام قوتها وتألقها، وأن يجعل أبناءه أكثر نجاحًا في حيواتهم المستقبلية… ولا يحتاج في سبيل ذلك كله إلا إلى الكلمات الثلاث “إمكاناتي لا تسمح بذلك” يواجه بها أي رغبة تتصادم مع قدرته، أو أي اقتراح يجعله يتفلت من ترتيب أولوياته وفق قدراته.،

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى