أدبية الأسطورة الكرامية
بقلم: سفيان مغوز | المغرب
يسعى هذا المقال الموسوم باسم:”أدبيّة الأسطورة الكرامية”؛ إلى محاولة الكشف عن تجليات المكونات السردية الموجودة في نص الأسطورة، لنتبين هل حقّا الأسطورة هي جنس أدبي مستقل كباقي الأجناس الأدبية الأخرى، أم لا .
لأجل ذلك، قمنا أولا بتعريف الأسطورة والكرامة في اللغة والاصطلاح، لنعرف مفهومهما في الجذر اللغوي، ثم رصدنا أهم العناصر المشكّلة لنص الأسطورة، ورصد أيضا مكونات البنية السردية التي من خلال تستمدّ أدبيتها .
ثم أخيرا، حللنا أنموذجا أسطوريا، ينتمي لنوع الكرامية، حيث بينا بالتطبيق تجليات هذه المكونات السردية .
المحور الأول: مفهوم الأسطورة، والكرامة، لغة واصطلاحا .
مفهوم الأسطورة لغة : ورد في لسان العرب مادة:” سطر “، التي هي أصل كلمة أسطورة في المعجم العربي .قال ابن منظور ( 711 هـ ):” سطر : السَّطْرُ والسَّطَر: الصَّفُّ من الكتابِ والنخيلِ ونحوِها ” .ولعله جرى على الشجر أولا، ولا سيما النخيل، قبل أن يجريَ على الكتاب، ويُطلقُ عليه مجازا في الأصل، بقرينة المشابهة في الانتظام والاعتدال، والاستواء والتتابع، والتكاثف والتشابك، الموجودة بين سطر النخيل مثلا، وسطر الكتابة ” .
وقال ابنُ منظور أيضا:” والجمعُ من كلِّ ذلك: أسطرٌ وأسطارٌ وأساطيرٌ وسطورٌ…والسَّـــــــــــطَرُ: الخـــــطُّ والكتابـــــة . وورد لفظ الأسطورة في القرآن الكريم كثيرا دائما بصيغة الجمع، مع نسبتها للأولين، لا للآخرين، يقول تعالى:”…إنْ هذا إلاَّ أساطيرُ الأولينَ..”، وفي آيات أخرى .
الأسطورة اصطلاحا : تؤكد المعاجم الفرنسية، والإنجليزية،والإسبانية؛ أن كلمة أسطورة من أصل الكلمة اليونانية: موتوس، والتي تعني في اللغة اليونانية القديمةِ، الخرافةَ، وعُمومَ السردِ والحكي..فهي سرد خرافي..” .
أما في الاصطلاح العربي، فهي كما عرفها الباحث المغربي، الدكتور بلحاج السلمي:” هي حديثٌ يتضمن خبرا بالضرورة، أي تحكي قصة ما، فالإخبار عنصر ثابت من عناصر الأسطورة ” .
مفهوم الكرامة لغة: جاء في لسانِ العرب:” كَرُمَ الرَّجُلُ كَرَمًا وكَرامَة “، فبهذا التعريف نجد أن الكرامة، مشتقة من فعل :كَرُمَ، وهو مرادفٌ للكرمِ، والصفةُ منه : الكريم .وبالتالي، فالكرامة: هي فعل كريمٌ يصدر من رجلٍ كريم، لإكرام مَن هو أكرم منه . مفهوم الكرامة اصطلاحا: قليل من أهل التراث الصوفي من عرف الكرامة، ولكننا سنقف على مفهومها عند ابنِ الزّياتِ التّادليّ ( 628 هـ )، وهو أوّل من عرفها من أهل المغرب، حيث يقول:” وأما حقيقتها، فهي كلّ فعلٍ خارقٍ للعادة، ظهر على يدَيْ عبدٍ ظاهرِ الصلاح في دينه، مستمسكٍ بطاعة الله في أحواله، مستقيم الطريقة في تصرفاته، إذ قد حصل الإجماعُ على أن الكرامةَ لا تحصل إلاّ على يدِ متمسِّكٍ بطاعة الله، تخصيصا له وتفضيلا، كما أجمعوا على أنها لا تظهر على يديْ فاسق ” .
إذن، خلاصة القول، إن الكرامةَ هي كل حدث خارق للعوائد، مخالف للواقع وللأصل .وهذه الخوارق لا تحدث إلا على يد البطل الكرامي، وهو الولي الصالح، فالصلاح شرطٌ ضروري في الولي .
كما نجد أن الكرامةَ فرعٌ من الأسطورة، ونوع من أنواع هذا الجنس الأدبي، حيث نجد هناك من فرق بين الأسطورة، وعلم الكرامات وسبب ذلك هو الاقتصار على نوع واحد من أنواع الأسطورة، وهي التكوينية، وفي مقابل ذلك نجد أيضا من وصل بينهما، نتيجة تقسيم آخر للأساطير، والذي أحدثه الباحث المغربي الأستاذ جعفر بن الحاج السلمي .
مما يجعلنا نتساءل: ما علاقة الأسطورة بالكرامة ؟
إن العلاقةَ بين الأسطورة والكرامة، علاقة وطيدة جدا، حيث تعد الأسطورة جنسا أدبيا عاما وشاملا، تندرج تحته عدة أنواع، منها؛ الأساطير الكرامية .فقد فصل الدارسون الأدب الأسطوري، عن الأدب الكرامي، أو ما يسمى علم الكرامات، لكنه ليس فصلا صرفا، إنما بقوا مترددين في هذه النظرة القاصرة، وقد حصل هذا لكل من الباحثين العريين، ” علي زيعور، والميلودي شغموم “، إذ شبها الكرامات بالأساطير، وبالتالي، نقول: إن الدكتور السلمي، قد أرسى نظريته التي وصلتِ الأسطورة بالكرامات، انطلاقا من خلال هذا التردد، وهذا التشبيه والتقارب بين علم الكرامات، والأسطورة، فكانت الكرامات، نوعا من أنواع الأساطير، وفرعا من فروع هذا الأصل الشامل وهو الأسطورة .
المحور الثاني: أدبية الأسطورة الكرامية
الأسطورة كلمة عربيةٌ أصيلة، موجودة في القرآن الكريم بصيغة الجمع بتَكرار، حوالي تسع مرات، ولم ترد بالمفرد؛ لأنها متعدّدة الأنواع والمضامين، مثلما نجدها في القرآن منسوبة للأولين دائما .
كما تعد الأسطورة من بين أهم أجناس الأدب الشعبي، وأغناها من حيث مادّتها الأدبية. وهي أوّلُ وعاء صبَّ فيه الإنسان فكرَه، وهي حق أخرج مخرجَ الباطل، وباطل أخرج مَخرج الحق، فلا هي حق ولا هي باطل، إنما هي منزلة بين المنزلتين. وهي: جنس أدبي، نثري، سردي، حكائي، خبري، يتميّز بمكوني: القداسة وخرق العادة، وما دوّنت إلاّ لقداستها .
ظلت الأسطورة مهملة ومقصية، إلى أن جاء الباحث المغربي، الدكتور حعفر بن الحاج السلمي، الناقد الرصين، الذي أخرجها من قفص الإهمال والاتهام، إلى حيز الإثبات والوجود، حيث أدرجها ضمن مجال الاشتغال النقد الأدبي، فكانت بذلك حق الإجناس الأدبي، أي أصبحت جنسا أدبيا مثل باقي الأجناس الأدبية الأخرى، وهي دراسة مهمة لما تكتسيه من طابع الاجتهاد والاهتمام بتراثنا العربي عامة، والمغربي خاصة .
ولمّا صارت الأسطورة جنسا أدبيا، قسمها الباحث المغربي الدكتور السلمي، إلى ثلاثة أنواع: الأسطورة التكوينية؛ وهي التي تتحدث عن قصص الخلق، وهي نوعان: كلية: تبحث في سؤال خلق العالم والكون من العدم. وجزئية: تبحث في سؤال خلق المدن مثلا، مما هو موجود، أي من الحجارة، والطين… وهي أوّل نوع من أنواع الأساطير وأقدمها .
الأسطورة العجائبية الغرائبية: هي التي تتسم بالعجب والغرابة، فهي تتحدث عمّا هو غريب وعجيب، خارق للعادة والمألوف، والبطل فيها شيطانيّ، أو جنّي، أو عفريت، أوما إلى ذلك .
الأسطورة الكرامية: وهي الأسطورة التي تتحدث عن كرامات الأولياء الصالحين، والبطل فيها يكون رجلا مقدسا، وليا من أولياء الله الذين اختصهم بالصلاح .
مما يجعلنا نتساءل: أين تتجلى أدبية الأسطورة الكرامية ؟. وعلى ماذا تبى الأسطورة ؟ .
للإجابة عن هذا الإشكال الكبير، وهو إشكال العرض كلّه، لا بدّ أن نشير إلى مجموعة من الأمور، التي تُعد بمثابة أعمدة مهمة لنص الأسطورة .فبما أن الأسطورة جنس أدبي كباقي الأجناس الأخرى، فلا بدّ إذن أن نجد فيها مكونات البنية السردية المعروفة:
*.الأحداث؛ وغالبا ما تنطلق من الواقع للخوض في الخيال..
*.الشخصيات؛ تكون إما حقيقية وإما متخيَّلة.
*.الزمان؛ أما فيما يخص تحديد مكون الزمان في الأساطير، فهو شديدُ الارتباط بالسياق التاريخي الذي سُطّرت فيه الأساطير، قد يكون الزمن فيها زمان البدايات الخرافي، كما هو الشأن عند مرسيا إلياد .وقد يكون هو الزمن المضارع حالَه واستقبالَه، كما يقول الباحث بلحاج السلمي .ويمكن تأويل الزمن الموجود في الأسطورة وردّه إلى الزمن الأنموذجي، وهو الزمن الماضي.والأسطورة المغربية زمنها ليس دائما هو الزمن الأول ولا الزمن الخرافي، لأنها متشكلة في سياق حضاري إسلامي، له تصوره الخاص للزمن، وغالبا ما يكون زمنها زمنا خرافيا داخل زمن تاريخي حقيقي معين مثل: زمن المرابطين، والموحدين…
*.المكان؛ قد يذكر في الأسطورة لفظا أو ما يدل عليه، وقد لا يذكر كما هو الحال في بعض الأساطير الكرامية، والمكان ليس شرطا ضروريا في الأسطورة الكرامية .
*.والبطل؛ قد يكون الولي الصالح في الأسطورة الكرامية، وقد يكون جنا أو عفريتا في الأسطورة العجائبية..
فكل هذه المكونات موجودة في نص الأسطورة، بل توجد فيها مكونات لا توجد في الأجناس الأدبية الأخرى، ومن جملتها، خرق العادة والقداسة، بالإضافة إلى مجموعة من العناصر التي تشكّل مادّتَها وتضبط نصَّها، وتجعله أدبيا، من ضمن هذه العناصر نجد :
عنصر الحديثيّة أو الخبريّة: أي أن الأسطورة إخبار، تخبر عن قصة وقعت في الزمن الأول، وخير مثال على ذلك، الأسطورة التي تخبر عن حَبس المطر، الواردة في أخبار أبي العبّاس السبتي .ولا بدّ للخبر من مخبِرٍ معلوم أو مجهول، ومخبَر عنه، مذكور أو مغفل، وصيغة يجري فيها الخبر .
عنصر التعدّد: أي أنّ الألف واللام في كلمة ” الأسطورة “، يدل على أنها متعددة، أسطورة داخل أسطورة، وتعدّد نوعها وموضوعاتها، بمعنى تعدّد المقامات داخل الأسطورة .وهنا نتذكر على سبيل التمثيل: أسطورة طنجة؛ التي اعتبرت فردوس الأرض .
عنصر الكتابة والتقييد : إن الأسطورة لا بدّ أن تُقيّدَ عندما تسطَّر أو تكتب، حتى تُدرس، لأن الدراسة لا تكون إلاّ على الشيء المقيّد .
عنصر التنظيم والتأليف: هو عنصر يقوم على التسطير، أي التأليف، فسطر، أصل لكلمة أسطورة، بمعنى التنظيم والتصفيف .قال ابن منظور: السَّطْرُ، والسَّطَرُ: الصَّفُّ من الشجر والنخل والكتاب، كلّ ما هو مصفف؛ هو سطْر، وقال ابن منظور: وسَطَّرَها: أي ألَّفَها وصفَّفَها ورتَّبَها ونظَّمَها…
عنصر الزخرفة والتنميق: إن الأسطورةَ نظامٌ متراكبٌ من اللغة والخيال، وبما أنها مسطّرة مؤلفة مصففة ومرتبة..فإنها كذلك؛ مزكرشة مزخرفة ومنمَّقة ومزيَّنة، فعنصر التنميق حاضر في الأسطورة وبقوة، فلا نتصور أسطورة لم يُعمد فيها إلى تزيين شكلها ومضمونها، وذلك بالتفنن في الألفاظ، وضرب المعاني .
عنصر الباطل ومشابهة الباطل: أي كيف نضبطُ الباطلَ داخل الأسطورة .بما أن الأسطورةَ في لسان العرب تعني:” أُبطولة “، فإن الأبطولة ضدّ الحقّ، وكلّ أسطورة هي أبطولةٌ بالضرورة، وليس كلّ أبطولة أسطورة .وبالتالي، فعنصرُ الباطلِ شرطٌ ضروريّ في تحديد أسطورية الأسطورة .
لكن، متى يكون الشيء باطلا ؟ .وما هو الباطل ؟ . وهل هو نسبيّ أم مطلق ؟ .
في حقيقة الأمر إن تحديد الحق والباطل؛ هو من اختصاص الفلسفة، كما أن الحق والباطل لا يتحدّدان إلاّ في دائرة نظام من القيم الخاصة بمجموعة بشرية ثقافية معينة .فمثلا: إن ذبح أضحية العيد لدى المسلمين، هي شعيرة دينية إسلامية للتقرب بها إلى الله تعالى، فعلها النبي إبراهيم عليه السلام، ولكن، هذا الفعل عند الهندوسيين أمرٌ يُبعد من الله، لأنه انتهاك لحق أرواح الحيوان .لذلك، فسمألةُ إبطالُ الباطلِ، وإحقاقُ الحقِّ، مسألة شديدة النسبية، يتحكم فيها الزمان، والمكان، والعلم، والثقافة، والأشخاص، والظروف، والاعتقادات…وما إلى ذلك .
لكن، هذا لا يعني أننا نعجز كليّا عن إبطال الباطل، إنما نستطيع أن نبطلَ الباطلَ داخل مجتمع معين في مكان وزمن محدّدين، مثلا في ثقافتنا العربية الإسلامية المعاصرة، انطلاقا من الضوابط أو المقاييس العلمية والثقافية .وقد تعددت هذه المقاييس لضبط الباطل في أسطورة ما، وهي كالآتي :
1.المقياس التاريخي: وهو مقياس نبطل به الباطلَ في الأسطورة من جهة التاريخ .وخير مثال على هذا، هو ما ورد في أسطورة طنجة؛ حيث زعم مسطِّرها، أن:” شدّادَ بن عاد “، هو من بنى مدينة طنجة، وهذا باطل، فضلا عن أنه قد بناها بالذهب والفضة، ولا يُعقل أصلا أن يكون بناها رجل واحد وحده، فهذا باطل من جهة التاريخ، لأننا عندما نبحث عن اسم شداد، لم نجده مذكورا في الكتب، هو اسم متخيَّل فقط، وبالتالي، فمدينة طنجة العريقة، بنيت من طرف أهل المغرب، من الفنيقيين والرومان .
2.المقياس الجَغرافي: وبه يتم إبطال الباطل من جهة المكان، أي به نتحقق من الأماكن التي قد ترد في نص الأسطورة، نتحقق من وجودها في الواقع أم لا يوجد، ونذكر في هذا السيّاق ابن خلدون، الذي زيّف أسطورة:” وادي الرمل “، بقوله إنه لم يُسمع بهذا الوادي قط ذكره في المغرب .
3.المقياس اللغوي: وبه نبطل الباطل اللغويّ، وهو يغلب على الأساطير التكوينية .نتذكر هنا، الأسطورة التي تتحدث عن بناء مدينة:” سلا وشالّة “، فإنها استثمرت القرب اللغويّ والصوتيّ بين الفعلين العربيين: سلا وسال ، والعَلَمَينِ الأعجميين: سلا وشالّة .
4.المقياس العلمي التجريبي: وبه نبطل الباطل العلمي التجريبي في الأسطورة، ومثال ذلك:” أن ماء حَمَّةِ مولاي يعقوب، لا يغلي بسبب وجود فيه عفريتين يسخنانه، أو لبركة الخليفة الموحدي يعقوب المنصور ..ولكن، عندما نقوم بتجربة علمية، فإن الماء يغلي عندما يصل لدرجة معينة، وبالتالي، فهذا باطل أسطوري .
5.المقياس الرمزي: وهو مقياس نحصل على مادته من كتب تفسير الأحلام، ومن الثقافة، لأن أغلب الأساطير، ليست إلا تمثيلا للواقع بالرمز الحلمي، أي إنها تنطلق من الرمز الحلمي في تعبيرها عن الواقع…ولكل مجتمع رموزه الخاصة .
6.المقياس الأدبي: هو مقياس يزكي المقاييس السابقة، ويتداخل معها .
فإذا كان الأدب يعيد بناء العالم على الهواء، بخرق اللغة، والواقع، والمثال، فإن الأسطورة؛ تقوم على خرق العادة والمألوف، وهو شرط ضروري في أسطورية الأسطورة، ومكون من مكوناتها، فالقول بأن أسوار طنجة كانت من بُرُنز، وسقوفُها من ذهب وفضة .ومقابر سبتة يصعد منها النور إلى السماء..فكلّ هذا خرق للعادة، وهو خرق أدبي، لأنه لا يخرج عن دائرة اللغة والخيال البشريين، وهو مقياس من مقاييس إبطال الباطل داخل الأسطورة .
7.المقياس العلمي الحديثي: وبه نبطل الباطل الحديثي، أي نبطل الباطل من الحديث النبوي الشريف، لأن بعض الأساطير المغربية قد ترد في صورة الحديث الشريف، كأساطير المهدي المنتظر الذي يخرج في آخر الزمان، وفضائل سبتة وفاس…فكلّ ما لم يرد في الصحيحين:” البخاري، ومسلم “، وكان متعلقا بخصوصيات المغرب، فهو بالضرورة باطل أسطوري، صيغ صياغة الحديث الشريف .لذلك لا بدّ أن نعرفَ الحديث ونحفظه، لنفرق بين الصحيح والباطل .
8. المقياس الديني الإسلامي: وبه نبطل الباطل في الأساطير الدينية، كالأساطير التي تحكي عن أنبياء المغرب: مثل، وصول نوح عليه السلام إلى طنجة، وموسى إلى سبتة…ولكن، لم يصرح القرآن الكريم ولا السنة النبوية بهذا الشيء المزعوم، وبالتالي، فيمكننا إبطال الباطل في هذه الأساطير من خلال قوله تعالى:” ولن تجد لسنّة الله تبديلا ” .
9. المقياس المذهبي: وهو تابع للمقياس الديني، يبطل الباطل في الأساطير الكرامية على الأغلب، لأنها تتحدث عن كرامات الأولياء .والاختلاف في المذاهب يؤدّي إلى الاختلاف في خرق العادة، أي الاختلاف في الكرامات التي تنخرق للولي، مما يؤدّي هذا إلى رفض ما يحكى عن كرامات الأولياء، وبه أيضا نفرق بين الكرامات والمعجزات، فالمعجزات خاصة بالأنبياء والرسل، والكرامات خاصة بأولياء الله الصالحين .
إذن، فكلُّ هذه المقاييس، تضبط النصَّ الأسطوريّ، وكلّ نصٍّ خرق العادة، فهو نصٌّ أسطوريّ بالضرورة، لأنه إذا اجتمع خرق العادة مع القداسة كانت الأسطورة .والأسطورة ليست للتصديق ولا للتكذيب، إنما هي للتأمل والتأويل .
نموذج تحليلي:
النص:” استفاضَ عندنا ما اتفقَ لأبي داوود، [ مُزاحِمِ البَطِّيويِّ الرِّيفيّ ] مع العدوِّ البحريّ، قَصَمَه الله.وذلك أنّ الشيخَ أبا داوود، باتَ ليلةً في رابطته، فحبسه العدوُّ فيها، وتُحُمِّلَ أسيرا في سِلَّورةٍ [ سفينةٍ ] للرّوم، فلمّا حاولوا المسيرَ به، توقَّفتِ السّلّورةُ .فما زالوا كذلك حتى أصبحوا وهم في موضعِهمُ الذي كانوا فيه حينَ تُحُمّل الشيخُ أبو داوودَ عندهم في السّلّورة .فعلِموا أن ذلك من أجل الشيخ .فقالوا له: قم فانزل، فأنت طالق .قال لهم: لا أنزلُ حتّى تُخْلوا سبيلَ كلِّ أسير عندكم من المسلمين، ففعلوا .ثم راموا الحركةَ بالسّلّورة، فلم تتحرك .فأشاروا إليه بالضراعة والتذلل أن يُخلي سَبيلَهم، فأشارَ إليهم أنْ قد بقيَ في سلّورتِكم عصاي، وقيل: كانا نعليه .فلمّا ردّوا عليه عصاهُ أو نعليه، نهضَ جَفنهم ” .
التحليل :
إنّ النصَّ الذي بين أيدينا، نصٌ أسطوريّ، ينتمي لنوع الأسطورة الكرامية، وهي التي تحكي عن كرامات بطل يكون وليّا من أولياء الله الصالحين، تتمثل هذه الكرامات في خرق العادة والقداسة .
ويتجلى الحدثُ الخارق للعادة في هذه الأسطورة؛ في عدم تحرك السّفينة بعدما أُسر فيها الشيخُ مع باقي الأسرى .ورغم المحاولات المتواصلة من أجل البحث عن العطب في السفينة، يجدوا كلّ الأشياء مشغلة لا عطب فيها، ولما انتبهوا إلى الشيخ الذي أسروه مؤخرا، فهموا أن المشكل فيه، فقالوا له: ” قم فأنزل، فأنت طالق “، لكنّه أبى أن ينزل إلا ومعه جميع الأسرى الذين في السفينة، ففعلوا وأطلقوا سراح الجميع، ورغم ذلك لم تتحرك السفينة .فترجّوه أن يُخلي سبيلهم، فأشار إلى أن عصاه وبلغته بقيتا في السفينة، فلما جلبوهما له، تحركت السفينة وذهبوا .
فهذه الأحداث كافية لأن تكون الأسطورة أسطورة كرامية، لأنها تتحدث عن كرامة هذا الولي، والتي كانت سببا في انخراق العادة له .والكرامة كما لاحظنا في في النص ليست متعلقة فقط بالولي كذات، إنما تتعدّاها إلى كلّ الأشياء المتعلقة به، من لباس، وحذاء، وعصا…وما شابه ذلك .
كما تتجلى قداسة هذه الأسطورة في المُكرِمِ الذي خرق العادةَ لمُكرَمه، أي أن الوليّ، ليس هو من خرق العوائد لنفسه بنفسه، بل انخرقت له بصلاحه من الله تعالى .وبما أنه يُشترط في المُكرِم أن يكون كريما، فقد أكرم الله وليَّهُ بخرق العادة والمألوف، لأن المُكرَمَ تحقق فيه شرطُ الصلاح .
مثلما تتميز هذه الأسطورة بمكوني: الزمان والمكان كباقي الأجناس الأدبية الأخرى .أما فيما يخص مكون الزمان في هذه الأسطورة، هو زمن الأولياء والصالحين، وهو الزمن الماضي .أما مكون المكان، فحسب ما جاء فيها هو: الروم، لأن السفينةَ سفينة الروم .
وقد حضر في النص من غير شخصية الشيخ البطل بوصفها شخصية رئيسة، نجد كذلك شخصيات ثانوية، وهي الأسرى، وأصحاب السفينة .
ويمكن إحقاق الحق، وإبطال الباطل في هذه الأسطورة، انطلاقا من المقياس التجريبي العلمي، فمسألة عدم تحرك السفينة وليس فيها أي عطب، هذا غير مقبول ويجب أن تتحرك، وعدم تحركها في هذه الأسطورة هو باطل ولكنه باطل أسطوري، وليس باطلا مطلقا، لأن ديننا يقر بخروقات تحدث للأولياء. وضبط الباطل في الأسطورة شرط ضروري في أسطورية الأسطورة .
كما تتحدّد مادة هذه الأسطورة من خلال الحَبكة السردية، فقد افتتحت بمشهد سردي حكائي خبري، ثم طرحت مشكلا، وهو عدم تحرك السفينة، وفي الأخير عمل المسطِّر على إيجاد حل لهذا المشكل، وما بين الافتتاح والخروج من المشكل، عنصر خرق العادة، وهو ما تميز به نص الأسطورة، وأثر في المتلقين .
خاتمة
خلاصة القول: إن أهم استنتاج خرجنا به من خلال هذه الرحلة القصيرة التي، حاولنا أن نعالج فيها الحديث عن الأسطورة الكرامية، هو أن نص الأسطورة على الرغم من كونه نصا نثريا، هو كذلك كان بحق ما يسمى بالإجناس الأدبي أو التجنيس، فمن خلال التحليل الذي أجربناه على نص من نصوصها، تبين لنا أنه جنس أدبي سردي، خبري، حكائي، وذلك لتوافره على شرط الأدبية، لأنه حافل بمجموعة من مكونات البنية السردية المعروفة في الأجناس الأخرى، بل أكثر من هذا، فإن نص الأسطورة أكثرها أدبية من حيث العناصر، وأغناها من حيث مادته الأبية، والذي يجعله متميزا هو عنصرا: خرق العادة، والقداسة .
ثم أخيرا، لا بد وأن نهتم بالأساطير بكل أنواعها، لأنها ثرية من حيث أدبيتها، ومن حيث الأفكار التي تمررها لنا وهي تفسر مختلف الظواهر الكونية وغيرها، لذلك وجب تحليلها من مختلف المناهج والمقاربات التي لا شك، ستحييها من جديد .
ملحوظة:” ليس كل هذه العناصر، والمكونات السردية، تحضر في جميع النصوص الأسطورية، كما أنها لا تحضر جلها في النص الواحد، إنما يحضر بعضها في نص، ويغيب الآخر، وهذا متعلق بخصوصية المسطِّر الذي يكتب هذه النصوص، وبطبيعة كل نص، وعند التحليل نلحظ تلك الفوارق، لذلك سبق أن قلنا: إن الأسطورة ليست للتصديق، ولا للتكذيب، إنما هي للتأمل والتأويل، والدراسة والتحليل ” .