طارق عبد الكريم محمود في محراب الشعر (عندما تحلق الكلمات)
محمـد علوش | شاعر وكاتب من فلسطين
(عندما تحلق الكلمات) ديوان شعري للشاعر الفلسطيني طارق عبد الكريم محمود، ابن شقيق الشاعر الفلسطيني الشهيد عبد الرحيم محمود، وهذه المجموعة تشكل عصب التجربة الشعرية للشاعر، صدرت الطبعة الأولى منها في العام 2012م، وتم طباعتها في ” مطبعة حجاوي ” في نابلس، وصمم الغلاف الفنان عارف ذوابه، وجاءت المجموعة بـ 379 صفحة من الحجم المتوسط .
الشاعر طارق عبد الكريم محمود من بلدة عنبتا، وهو شاعر مكرس له تجربة شعرية وكتابية ثرية، وتمتاز كتابته الشعرية بالتنوع في أساليب الكتابة، إلى جانب ولائه المطلق لقصيدة الشعر العمودي والأوزان والقوافي الشعرية، وبلغة جزلة وسهلة ممتنعة، ويتناول في كتابته مواضيع مختلفة وطنية ووجدانية وإنسانية واجتماعية.
وكونه معلماً متقاعداً، أمضى سنوات طويلة من عمره في سلك التربية والتعليم، فقد انعكست شخصية المعلم على مكانة الشاعر في شاعرنا أبي طريف، وقد خصص عدداً كبيراً من قصائد المجموعة في مديح ورثاء وتوجيه التحيات لأفراد أسرته ولأصدقائه وزملائه في المسيرة التربوية.
شاعر يمتلك أدواته الشعرية والفنية ويمتلك لغته الثرية، ويمتلك ثقافة تاريخية ودينية، ولديه اطلاع على الأساطير والتي قام بتوظيفها بطريقة سهلة في أشعاره، حيث تنّم كتابته الشعرية عن شاعر متمرس ومكرس الحضور، وحريص على أن تشكل القصيدة الجديدة جديداً في تجربته، وهو مقل في الكتابة بحيث أن كل قصيدة جديدة يكتبها تشكل مدماكاً جديداً في تجربته الشعرية والإبداعية عموماً .
وقد وجدنا في أشعار وقصائد الشاعر قدرة كبيرة على السخرية، فهو يكرس شعراً ساخراً يشكل لوناً خاصاً في كتاباته ، كما هو الحال في قصيدته ” أرباب السياسة ” ( ص 81 ) :
ما بالُ أرباب السياسة / يتخبطون ولا كياسة
الرافعون لنا شعارات / المذلة والخساسة
هذا يصيحُ أنا الزعيم / وذاك يسعى للرئاسة
حبُ الكراسي شدّهم / والجهل أطبق والتياسة
وطني يباع ويشترى / بالرّخص في سوق النّخاسة
والشاعر طارق عبد الكريم حافظ جيد للأشعار القديمة ، وقد تحول مع الوقت إلى ناظم للشعر منذ بدايات تفتح وعيه الشعري ، فنجح تارةً ، وأخفق تارة أخرى ، ومع الوقت أصبحت القصيدة مصاحبة لشاعرها الذي أستطاع بإبداع واقتدار أن يشكل علاقة ثنائية وأن ينصهر بالتجربة وبالنص الشعري .
تتجلى المجموعة بالقصائد الوطنية التي تلامس الهّم العربي والفلسطيني والدعوة للمقاومة والصمود ومجابهة التحديات والإصرار على الحق والنضال في سبيله ، وهنا يتجلى الموقف الشعري في قصيدته ” صرخة ونداء ” (ص 206 ) التي يقول في جانب منها:
سر يا رفيقي وارفع العلما / واجهر بصوتٍ عانق القمما
وازأر كليثٍ هبّ مندفعا / يحمي عريناً صدّ من هجما
واسحق قوى العدوان في غضبٍ / واصهر بنارٍ حاكماً ظلما
واصمد بأرضٍ حرةٍ أبداً / واشمخ كطودٍ .. ثبت القدما
وأغلب قصائد المجموعة وجدانية واجتماعية وذاتية ، بمعنى أن الشاعر يكتب ما يدور في خاطره ، وقد كتب عشرات القصائد لزوجته وأولاده وأحفاده وأخواته ، ولها جوانب اجتماعية مضيئة وذات قيمة معنوية ، وتدلل على مكانة الشاعر الاجتماعية وارتباطه بالأجواء الأسرية ، وهنا مثال من هذا الشعر في قصيدة ” إلى رفيقة عمري في أيامنا الأولى ” ( ص 12 ) :
رفيقة الدرب كم فيك المنى درجت/ فيك القصائد كم تحلو قوافيها
بيت المسرة شدناه بمفخرة ٍ / يا نجمةً في سما عيني أحييها
أيامنا ضحكت تنساب في دعةٍ / كنت الشعاع المرجّى في دياجيها
يا دارةً بالهنا جئنا نعمّرها / بالودّ نحرسها بالحبّ نحميها
وربما يكون الشاعر هنا متفرداً بمضامين قصائد لا تجد رواجاً لمثيلاتها في الشعر العربي عامة وفي الشعر الفلسطيني على وجه الخصوص ، فمعظم القصائد العربية والفلسطينية تجنح نحو وجهات أخرى فيها صخب الأوضاع العامة ومواكبة الأحداث ، وتتناول الوضع العام على حساب شاعرية الشاعر التي نجدها أكثر نقاء عندما يعود الشاعر إلى ذاتيته بدون شعارات براقة وبدون لغة الصراخ والابتذال .
يأخذنا بعيداً في مضامين القصائد التي تتصف بالصدق والبساطة وجزالة اللغة والابتعاد عن المباشرة الفجة أو الرمزية المقيتة ، حيث انتهج أسلوب البساطة الآسرة ، أو ما نسميه السهل الممتنع ، وهذا ما نطمح إليه لدى الشعراء الآخرين بحيث يمتلك كل شاعر صوته الخاص وقاموسه الخاص وصوره الشعرية والإيحائية الخاصة ، وهو ما ميّز الشاعر هنا ، حيث يذهب للقصيدة مختمر التجربة ويعرف تماماً أين يوظف كل كلمة في النص ، وكيف يشتق الصورة الشعرية بشكل تفجري في اللغة التي هي الكنز الذي يجب أن يبحث عنه أي شاعر يريد أن يكون شاعراً متفرداً وباحثاً عن الصفاء والنقاء في ملكوت القصيدة ، كما يقول في قصيدة ” الشعر مرآتي ” ( ص 94 ) والتي يهديها للأستاذ الشاعر حنا أبو حنا :
أرى روحي محلقةً / كأنّ الشعر مرآتي
أعبّر فيه عن ألمي / وأحكي عن معاناتي
وعن سعدي وأفراحي / وضحكي وابتساماتي
^^^
وأنسج من خيوط الحبّ أشعاري ولوحاتي
وأمضي تاركاً خلفي / أريجاً في محطاتي
غدي المرجوُّ أرقبه / وأشعر أنّهُ آتٍ
عسى الأيام تضحك لي / وتخفق فيه راياتي
ورغم ما تضمنته المجموعة بين سطورها من قصائد مكتملة وجميلة ومفعمة بالدهشة ، إلا أن هناك عدداً من القصائد التي أرى بأن الشاعر قد تعجل نشرها في هذا الكتاب ، وهي بحاجة إلى مراجعة والى إعادة تدقيق ، فنحن أمام شاعر له تجربة طويلة ، وكل نص يحسب له أو عليه ، وإزاء هذه التجربة الكبيرة للشاعر طارق عبد الكريم محمود ، فقد تعجل عملية جمع القصائد وطباعتها في المجموعة / الديوان ، وخاصة تلك القصائد أو الأناشيد التي نشرت في المجموعة والتي تفتقد الجانب الفني ، والتي جاءت كمساهمات من الشاعر في مناسبات مدرسية أو اجتماعية ، ومن هنا فقد وجدنا بأن الغزارة الإنتاجية أحياناً تضر بالشاعر وذائقته الفنية والتعبيرية .
(عندما تحلق الكلمات) تحلق في سماء صافية نقية ، تحلق بأجنحة ملونة ، تطلق صوت الأرض وبوح القلب ، تتدفق بالمشاعر الجياشة ، وتدخلنا أجواء القصائد في حديقة هذا الشاعر الذي يمتلك القدرة الحقيقة على الاختلاف في كتابة النص الشعري ، بعيداً عن التقليد والتكرار وطرق ذات المواضيع التي تاه في دروبها كثير من الشعراء.