حكايا من القرايا.. “سرطة جدي”

عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين

(ذكّرني بها النت، أحببتها، فأعدت صياغتها بتصرف) “سرطة جدي” كان اسمها سَرَطَة، صار اسمها سَلَطَة وسَرَطة جدّي (رحمه الله) كانت تتكون من:
البندورة، والبصل، والزيت، والملح، والماء.
يومها كان الخيار فاكهة يقدم مع التفاح والموز للضيوف، والجزر تِحلاية، يؤكل بعد الوجبة، والملفوف (الأبيض) للحشو بالأرز، والملفوف الأحمر غير معروف، والنعناع للشاي، والليمون لليموناظا، ولوجع الراس.
سَرَطة جدّي كانت وجبة قائمة بذاتها… ولم تكن مكمّلة لوجبة… أو مازة على هامش وجبة… رحمك الله يا جدّي… ورحم الله السرطة أم البندورة البلدية الحامظة… كنت تفرم زرّاً في الصحن، وتفغم آخر، وتحمد الله على نعمه، آه لو ترى بندورتنا يا جدي، يكون الزر أخضر حشيشيّاً، وفي يوم يشلهب، وفي ليل يحمرّ، فترى الهرمون يسبح في فضائه، غزانا الهرمون يا جدي…
كان أكل سرطتك بالتغميس أي بلقمة تمتد إليها في الصحن، ويحرم استعمال الملاعق في ذاك، وفي نهاية الصحن وقد انتهى (الحباش)، يشرب ما تبقى من مرق البندورة والماء… آه يا جدّي، لو تعرفت إلى (المايونيز) يخلط مع سرطتك، ولو فرمت الخس معها، لأصبحت السرطة فطورك وغداءك وربما عشاءك… ربما… ربما…
لا أريد أن أحدثك عن السرطة الجافة، ذات قطع البندورة الكبيرة، وقطع من أوراق النباتات الكبيرة، وهي غير متجانسة في التركيب أو الطعم أو الشكل… أظنك لن تعترف بها… ولن تستسيغها، وستضحك علينا ونحن نتناولها بالشوكة…
كنت أرقبك، وأنت تأكل العدس المجروش مع فتيت بقايا الخبز، تأكله بلذة، وتصدر صوتاً شهيقيّاً يعبر عن استمتاعك بوجبتك، وأنت تصف العدس بالجودة، وتقول: ” يستوي (ينضج) على الهبّال” وترظّ فحل البصل الكبير بيدك، فينفجر البصل، وينفصل عنه اللبّ اللولبي ويهرب، تبسم له، وتضعه في فمك لقمة واحدة، وتلحقه بملء اليد فتيتاً مرنّخاً بالعدس… يا جدّي: العدس اليوم، هو شوربة، صحن يكون مقدمة لما يليه من طعام… وهو كلمة السر في الحنين إلى الماضي، وتذكر ذاك الماضي…
يا جدّي، ما زال الناس يتحدثون عن (مقلى العِجّة) الذي كنت تصنعه، عن مقلى العِجّة ذي البيضات الثلاث، المخلوطات بـــِ (تِرويج) من الطحين… وكيف كانت تجتمع العائلة بكاملها حول القلّاية، يتناوبون اللقم… في ذاك كانت البركة يا جدّي…
الدجاجة في زمنك كانت تفقس وتكبر وتعيش وتذبح بعد سنة، ووزنها لا يتعدى الكيلو الواحد، ينقص قليلاً أو يزيد قليلاً… أخبرك أن دجاجنا ينتفخ كالبالون، يزيد وزنه يومياً، وتصل دجاجتنا الكيلوات في شهر أو شهرين… وتسألني: أيختلف طعمها عن جدتها؟ أقول: لا ندري يا جدّي، لم نعد نتذكر طعم تلك… كما لا نتذكر رائحة الخيار الجبليّ البعليّ، ولا رائحة المشمش الزكيّة… أصبنا بالزكام يا جدّي، وضعف التذوق… وكأن كورونا أبدية تلاحق حواسّنا… فتلوثها…
نعم، يا جدّي، ذهبت طوابيننا إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، واندثرت ولم يبقَ إلا ذكراها في قصائدنا ومواويلنا… وأصبحنا نشتري الخبز من الدكان، كما نشتري القازوز والحلقوم… وغادرت معها متابنها ومزابلها… وعدمنا رؤية القداحي، والأقراص، والقراقيش… كما عدمنا العويص مع الزيت والسكر (المفروكة) والفطير، والملتوت، والمخمّر، والبسيسة، ومتحفنا فضائل الطابون في أرشيفنا الثقافي…
سلام عليك يا جدّي… ورحمك الله رحمة واسعة… سلام على خبزك، وملحك، وسرطتك الرائعة… سلام عليك ورحمك الله…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى