قراءة في ديوان “استيقظ كي تحلم” لـ”مريد البرغوثي”

رائد محمد الحواري | فلسطين


الجميل في الشعر سرعة تأثرنا به واستمرار أثره فينا، هذا القول ينطبق على شعر مريد البرغوثي، رغم أن ذاكرتي مثقوبة، ولم تعد قادرة على حفظ أي شيء، إلا أنها ما زالت محتفظة ب”منطق الكائات”، فهذا الديوان الذي نوقش في ملتقى بلاطة قبل أكثر ما يزيد على العشرين عاما، وما زالت متعلقا به وبما فيه، وها وهو “مريد البرغوئي يقربني من جديد إلى “منطق الكائنات، مرة أخرى” ويجعل خاتمة ما قاله المصباح عنوان لديوانه “استيقظ كي تحلم”.
ففكرة العنوان تبدو مقلوبة/معكوسة، لأننا ننام كي نحلم، فالحلم يأتنا في النوم وليس في اليقظة، لكن الشاعر أراد بالحلم ليس حلم النائم، بل حلم المستيقظ:
“ما قاله المصباح السحري:
قال مصباح السحري للولد المعدوم:
كذبت كل حكايات الأجداد عليك
الأمنية الكبرى ليست في القمقم
لم تعط يدين لتفرك مصباحا سحريا وتنام
استيقظ كي تحلم”
اللافت في هذا المقطع اللغة البسيطة السهلة، والتي تلائم منطق االود، فالشاعر لم يستخدم لغة عالية ولم يطرح أفكار صعبة/معقدة، بل استخدم لغة سهلة توصل إلى فكرة عميقة، وحتى مدهشة، ونلاحظ أنه شكلاها يتماثل مع شكل الحكايات القديمة، فمن خلال ألفاظ : مصباح/ا، سحري/ا، حكايات، الأجداد، الأمنة، الكبرى، تنام” كلها تستخدم في الحكايات، وهذا ما يوحد المقطع شكلا ومضمونا وألفاظ وطريقة تقديم، فبنية المقطع “كالبنيان المرصوص” متكاملة وموحدة ومنسجمة، وهذا ما يستوقف القارئ ليتفكر فيما طرح الشاعر.
“ما قالته الدقائق:
أنا أثمن من أن تبددني
في مناقشة هذا المتعصب السعيد
دعه يذهب في سبيله
لا تحاول إقناعه بشيء
شجرة البلاستيك
مهما رويتها
لا تنمو عليها ورقة واحدة”
عندما تتكلم الجمادات، فهذا يشكل تمردا على العقل وتحديا للمنطق، فالشاعر أراد بإنطاق/بقول “الدقائق” أن يحرك العقل، ويقدمه إلى الأمام، مبتعدا عما يعيق حركته أو يعكر مسيرته، في هذا المقطع نجد مجموعة ألفاظ متعلقة بمن يستخدمون المنطق/الفكر: “مناقشة، المتعصب، إقناعه” وهذه الألفاظ بشكلها المجرد توصل القارئ إلى فكرة التفكير التي يُراد طرحها، وبما أن هناك “مناقشة، المتعصب، إقناعه”، فكان لا بد من استخدام العقل والمنطق، من هناك جاء مثل “شجرة البلاستيك/المتعصب” حاسما وقاطعا، بعدم وجود حياة فيها.
“قال السلم:
لماذا اخترعتموني
لإذا كنتم تفضلون
أكتاف بعضكم؟”
نلاحظ أن الشاعر يُنطق/يُقول وما لا ينطلق/يقول، وهذا الأمر بحد ذاته يعد إختراق وتحدي لما هو كائن/حاصل، وهذا ما يستفز العقل/المنطق ويقدمه إلى الحالة التي تتحدث/تتكلم، فما تقوله الكائنات/الجمادات/الأشياء يعد تمردا على ما هو سائد، وهذا الأمر يُوصل فكرة التمرد/الرفض للقارئ حتى لو لم يتفق مع الفكرة المطرحة، وبهذا يكون الشاعر قد أستطاع أن (يجعل) القارئ يقف إلى جانب الرافضين من خلال شكل تقديم المقطع، بمعنى أنه أوصله إلى نصف الطريق، وعليه أن يكمل.
فما بالنا عندما يكون المقطع متفق مع الإخلاق والعقل والحياة السوية!.
“قال النجار:
كرسي المقهي
وغد لا يعرف صاحبه
كرسي القاضي
في بعض البلدان
تصنعه شركات الهاتف” فهنا تم (العودة) إلى المنطق فالتحدث هو نجار/إنسان، لكن الشاعر لا يقدمه بصفته الوظيفية، كنجار، بل كخبير يعرف كل التفاصيل عن مصنوعاته وعن المضمون الذي وجدت من أجله، وهذا ما يجعل قول الخبير/النجار حكمة دامغة، لا يمكن أن تزول.
نعود إلى الديوان وكيف بدأ وبماذا خُتم، يبدأ الديوان بإهداء إلى زوجة الشاعر “رضوى عاشور” ثم بقصيدة “خلود صغير” القصيدة الأطول في الديوان، والتي يتحدث فيها بأكثر من قضية، لكن يغلب عليها مشاعره تجاه الحياة/المكان، الواقع/زوجته رضوى وابنه تميم وما عاناته الأسرته في ظل النظام الرسمي العربي.
يفتحح القصيدة بهذا الشكل:
“مفردا، شاهقا، شرفتي غيمة دللتها السماء
أطل على شاطيء جنة
قال أخضرها كل أقواله هامسا، هادرا
فتسقي الذوائب، يوشك يلمع
أخضر يرضع، يحبو
يكاد يشب إلى المشمش المضيء
ويدخل في الصدئي الموشى كما
قشر رمانة أو غلت في النضوج
وأخضر فيه الدخاني” نجد حضورة الطبيعة البهي، من خلال مجموعة ألفاظ: “شاهقا، غيمة، السماء، شاطيء، جنة، أخضرها، هادرا، فتسقي، أخضر، يرضع، المشمش، المضيء، رمانة، النضوج” لهذا كان البياض هو الغالب في المعنى، ونلاحظ أن هناك اشارة إلى الحياة الأسرية: “أخضر يرضع، يحبو” ونلاحظ أن الشاعر يتحدث عن منزله/بيته: “شرفتي، أطل” فالبداية متعلقة بأنا الشاعر وبما يخصه/المكان/الأسرة.
واللافت في هذا المقطع تماهي الشاعر مع الالفاظ والحروف، فنجد في حرف الشين يظهر بكثرة في هذه الألفاظ: ” شاهقا، شرفتي، شاطيء، يوشك، يشب، المشمش، الموشى، قشر” ونجد حالة الخضرة/النضوج في: “أخضر/ها، المشمش، رمانة، النضوج” وهذا ما يشير إلى أن الشاعر يتعامل مع القصيدة بطريقة الصوفي، الذي يحل فيها وتحل فيه، لهذا كانت الفاظ والحروف والمعنى تتوحدا معا، وظهرت بهذا الشكل المتناغم، وهذا يؤكد على الفكرة التي يريد طرحها، فكرة تعلقه بعائلته وباسرته، وتمتهيه معها.
“خلف أزرار هذا القميص الخفيف،
أوصل أشغال من ظل حيا:
أدفئ “رضوى” من البرد
وتقطف “أم منيف” زهور حديقتها
في انتظار “منيف”
وها نحن نمشي معا في صبح الجبال
نقول ونسمع نعتب نبطئ نرتاح نسرع
نغضب نغفر
ننسى نتوه قليلا ونسأل
نذكر بيتا من الشعر للمتنبي
ونضحك من نكتة خالطت دمعنا” ص13، نلاحظ حضور الحياة الأسرية، بكل ما فيها، فمن خلال استخدام الشاعر لغة بسيطة/عادية، اللغة التي يتحدث بها مع أسرته: “أواصل اشعال، أدفئ رضوى، تقطف أم منيف، نمشي معا، ومن خلال الأفعال التي تحدث عنها: نقول، نسمع، نعتب، نبطئ، نرتاح، نسرع، نغضب، نغفر، ننسى نتوه، نسأل، نذكر” نتأكد أن الشاعر يحدثنا بلغة أسرية بسيطة، وهذه البساطة تخدم مسألتين، الأولى خدمة فكرة القصيدة “حياة اسرته” ومخطابة القارئ بعين تلك اللغة، بمعنى أنه شارك القارئ ليكون أحد أفراد الأسرة، وهذا يخدم تقدم القمتلقي من القصيدة.
بعدها يأخذنا إلى لحظة/ذكرى حميمة عاشتها الأسرى:
“…تميم سيلتقط الصورة الآن
قلت انتظر لحظة:
سوف أصلح ياقة رضوى
وأدني منيفا وأمي إلي وأطولنا، والدي ومجيدا،
إلى المنتصف
أيقنع الموت أنا بعثنا هنا كاملين
وطرنا معا من يديه مع الطير
فوق البحيرة، صرنا البحيرة
صرنا الجبال وصرنا الظلال
وصرنا مقاهي الرصيف
ها أنا أطرد الشوق من لغتي،
وهل الشوق إلا اتعراف بكسر المكان مكانين
والجسم جسمين والواحد اثنين؟
إن الضفاف هي النهر
من دونها لا نسميه نهرا”
المقطع أن الأسرة/العائلة ـ وهنا تشكل الأسرة حامل فرح/تخفيف ـ تفتح آفاقا أمام الشاعر ليتقدم من الطبيعة، بمعنى أن الأسرة/العائلة فتحت باب آخر للفرح/للتخفيف، هكذا يبدو مظهر/شكل المقطع، لكن في حقيقة الأمر نجد الطبيعة التي يقدمها الشاعر ـ رغم شكلها الطبيعي/المألوف ـ تبدو متوترة وقاسية، هذا ما نلاحظه في ثنائية الألفاظ: “النهر/نهرا، الجبال/جبالا، صرنا/وصرنا، البحيرة، الشوق، مكانين، جسمين” فهنا لم يأتي التكرار/المثنى كحالة تأكيد على الانسجام مع الطبيعة، بل كحالة صراع وتوتر، من هنا ظهرت ألفاظ تتناقض مع جمال الطبيعة، ومع الهدوء/السكينة التي تحملها: “الموت، أطرد، بكسر”، والتي جاءت بسبب غياب رضوى.
في خاتمة الديوان يحدثنا عن حزنه على رضوى: “من ينشغل بحزنه على فقد المحبوب، ينشغل عن المحوب، الآن أطلب من حزني أن يتجه إلى أقرب بوابة ويغادر هادئا كما أشاء، أو هادئا كما يشاء، لكن دون أن يلفت الأنظار، لا يعجبني جوعه ولا تلكؤه، أكاد أكرهه تحديدا لهذا السبب، كأنه حزن لا يثق بنفسه، وكأنه إن اكتفى اختفى، وكأننا لم نشاركه مقعده ومخدته ومنديله وملمس حذائه على زجاج ساعاتنا” ص134، فهو يفصل الحزن عن سببه، ويفصله عن ذات الشاعر، فبدأ وكأنه كائن/شيء آخر، وهذا يشير إلى أنه لا يريد الاعتراف بموتها، فأراد طرد الحزن، وعامله كشيء/كائن غريب.
الديوان من منشورات رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الأولى2018.
جميل
جميل السلحوت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى