الدرجــات… قصة قصيرة
نبيل عودة | فلسطين
– ” ليرحمنا الله جميعا، خسارتك يا رافع.. وحياة والدك أنزلني قرب الدرج.. آه هنا .. يلعن الموت وأيامه، ما تشوف إلا الخير يا ابني. كم ادفع لك ؟.. الحمد لله على كل شيء. تفضل يا ابني ، يرحم الله أمواتك . ما عاد قد ما مضى، أين كنا وأين أصبحنا ؟ المرض يهد الحيل .. إنها مشيئته ، يختار من يشاء .. ولا نطلب إلا رحمته . لماذا الباب يستعص على الفتح ؟ .. آه ، ما عاد في اليد حيل ، يخلف عليك ويسلم أيديك .. وان شاء الله ما تشوف يوم اسود . هالبلاد من يوم ما تشرد أهلها ما عاد فيها خير .. أيوة.. راح الشباب وما عاد في البدن حيل.. ارحمنا يا رب.. ارحمنا وخلصنا .. وأرفق بحالنا “
نزلت من سيارة الأجرة ووقفت تتأمل الدرج الممتد إمامها إلى الأعلى، بشيء من الحيرة والأسى.
كانت شمس آب تشوي شيا. أمسكت بدرابزين الدرج والتفتت حولها تبحث عن مساعدة. كيف ستعلو كل هذه الدرجات لوحدها ؟!.. قالت لنفسها ” ما في اليد حيلة ” .. بحثت عن نسمة هواء تلطف بها عن نفسها من هذه الشمس الملتهبة. فتحت فمها وأخذت نفسا عميقا حاولت به أن تبرد عن جسدها الممتلئة طياته بالعرق المتفصد الحار .. وبشيء من الاستسلام لأمر مفروغ منه ، صممت على الصعود تاركة أمرها لمن في يده الحل والربط..
الدرجة الأولى
على مهلك يا محروسة.. اطلعي درجة درجة .. صحتك على قدها .. كل شيء ولا تعب القلب.. ها .. خذي نفس واطلعي .. عبئي صدرك بالهواء .. على راحتك .. من يوم ما شفناهم ما شفنا الراحة. انتبهي انتبهي .. تنفسي بعمق .. بعمق شديد . العجلة من الشيطان ، الله يلعنك يا عزرائيل ، ما بتتعب لا من طلوع دراج ولا من نزول دراج . طالع خفيف ونازل مليان . نازل فاضي وطالع حامل . لا هم لك إلا الطيبين . خذ عنا أولاد السوء.. يا ربي أبعده عنا .. أنت الغفور الرحيم .. أنت الجبار المتمكن .. اشملنا بمحبتك ورحمتك يا عالما بالأسرار .هبنا من لدنك قوة . خذ أولاد الحرام.. ذهب الخير يوم جاءوا. خذي نفسك وعلى مهلك .. ايوه ..
الدرجة الثانية
الطبيب قال لك نزلي وزنك.. وأنت يا محروسة بطنك فابركة .. ماكينة شغالة ليل نهار . يقبر الطب واللي اخترعوه .. هل نعيش بالحرمان حتى نرضي الطب والأطباء ؟ حتى لذة الأكل يستكثرونها علينا بعد أن فقدنا لذة الشباب . أيام زمان عاشوا فوق الميت سنة، وما عرفوا مرضا.. كانوا يطحنون الصخر ولا يشكون من الم الأضراس. لا يعرفون أوجاع المعدة ولا عسر الهضم. اخترعوا الدواء ومرمروا أجسامنا وحياتنا به . حياة والدك كان ينطح جرة عسل وعمره ما قال شبعت.. ولا قال أخ .
عسل أيام زمان كان عسلا .. واليوم يا حسرة صار سكرا !!
من يوم ما شفناهم راح الخير .. الدنيا ما عاد فيها خير .. دوسي على عزرائيل .. ها..
الدرجة الثالثة
( مرمر زماني يا زماني مرمر )
عزرائيل مرمر أيامنا.. جاء بركابهم وقعد .. يصول ويجول دون وجل من حساب . هل صارت رقابنا رهن إشارته ؟
آه يا أم رافع يا مسكينة.. ماذا أقول لك ؟!
جئنا للتعزية .. حياة زفت. الموت دابك نهش بالبشر . شباب مثل ليرات الذهب يخطفها عزرائيل في غمضة عين . ماذا ستقولين لامه المسكينة ؟.. اعتمدي على الله يا أم رافع..يا نحس ابعد عنا.. تفو على عزرائيل .. تفو عليه أعمى البصر والبصيرة .. هناك من هم أحق بالموت والحرق. مرمروا أيامنا ولاد الحرام .
مصيبتك لا تحتمل يا أم رافع… يا عاقلة، يا خدومة ، يا كريمة . تفو على عزرائيل .. ألف تفو عليه وعلى أيامه .
على مهلك .. خذي نفسك .. ونفسا آخر أكثر عمقا يا محروسة. املأي صدرك بالهواء . . وعلى راحتك ..
اصعدي ، ايوه .. الله معك..
الدرجة الرابعة
مات الخاير وترك أطفالا مثل العيدان الخضراء . القلب قتله .. قاتل الله الأمراض .. عرض وطول ووجه مدور مثل القمر.. كل أم كانت تطمع بعريس مثله لابنتها.لا ينفع اللطم يا أم رافع.. أولاده صغار وبحاجة إليك .. دنيا لا تخضع إلا للقوي.. وبعدنا عم نقول مشيئة الله ؟ هل مشيئته حقا تيتيم أولاده وهم أطفال بحاجة إلى رعايته ؟ ترميل زوجته وهي صبية بحاجة إلى صدر يحميها ؟ ونقول الموت حق ؟ طز في هيك حق . حياة لا تسوى .. آه يا صدري .. قال مشيئة الله ؟ يلعن الدرج واللي يحبوه. يقطع النفس ويوجع القلب . . والواحد ما عاد فيه مروة .. يا ساتر .. كله من الأكل اللي يخترعوه.. خيار على شجر.. وبندورة على شجر ، كثير وقليل الخير ، لا يقوي جسما ولا يمنع مرضا .. ولا يقاوم موتا .. والهم والغم دافق ..
الدرجة الخامسة
وقفت برهة تلتقط أنفاسها .. وصدرها يعلو ويهبط إرهاقا ، وعرقها يسح مالئا طيات لحمها المتثاقلة .
أخذت أنفاسا سريعة متلاحقة، محركة الهواء أمام وجهها بيدها.
تأملت ما تبقى من درجات أمامها ، وهزت رأسها برثاء وعجز وحيرة ، وعلى محياها ارتسمت خطوط عابسة . ارتاح صدرها قليلا وهدأ تنفسها .. تأملت ما تبقى من درجات بحيرة . شدت قبضتها على الدرابزين حتى لا تفقد توازنها ويحدث ما يخيفها.. ليت أحدا يعينها .. حتى هذه الأمنية تستعصي بلحظة الشدة .. أخذت أمرها بيدها . وصعدت .
الدرجة السادسة
الدرج طويل يا محروسة . ابنك قال لك ” ارتاحي يا يما ما بيعتب عليك احد ” . الطبيب أمرك بالراحة … ولكن الواجب مقدس وله حرمته .. جيل اليوم لا يعرف الواجب إلا من خلال مصالحه.. النقود أكلت الأخلاق . كثيرة وما لها قيمة ..أيام الليرة العصملي كانت الليرة تنطح بقرة ، وليرة اليوم ما بتكفي ركبة حمار … غيروا شكلها مرات . قطعوها ووصلوها وغيروا اسمها .. يرحمها الله .. ما عدت أميز بين الأوراق . كلها بلا قيمة . هي أحق بالموت من شباب اليوم. لن يأسف عليها احد .. والأخلاق صارت زي الليرة .. تقلصت مع تقلصها .. قال ما بيعتب عليك أحد ؟ أنت حر .. المواساة في الموت يا ابني ولا الاشتراك بالأفراح . الله يساعدك يا أم رافع.. زوجك تركك صغيرة .. قتلوه الانكليز .. جاء النحس بركابهم .. خرجوا وما خرج .. عدوى لا فكاك منها.. وابنك يقتله عزرائيل النحس ولا يشفق على شبابه، دنيا مقلوبة.
شعرت ببعض الإرهاق فتمهلت تلتقط بعض الهواء .
الدرجة السابعة
بلغت نصف الدرج ولم تسمع لا حس ولا نس.. أهذه دار ميت ؟ !
ما الحكاية ؟ ولماذا هذا الصمت ؟!
نظرت إلى الدرجات المتبقية أمامها بألم وحيرة وقالت لنفسها : ” يسكنون في العلالي من أجل وجع القلب “
الدرجة الثامنة
لا ترهقي نفسك يا محروسة.. حافظي على أعصابك .. وعلى مهلك .. حتى الباب مغلق ؟ ما الحكاية يا عالم ؟ ! ولا تبدو حركة في الساحة ..؟ ربما بكرت في القدوم ؟ .. ولكن أنت مثل أمه .. أرضعته مع ابنتك الكبرى .. ولولا ذلك لتزوجها .. الدنيا أسرار، لا يعلم بالغيب إلا صاحب الغيب نفسه. حتى قدماك تصبحان ثقيلتين . أرطال اللحم تضغطهما تحتها. قال خففي وزنك قال.. على آخر العمر ، دنيا ما بتسوى ، ركض وشقا والكل واصل للجورة .. صار الناس يترحموا على زمان الترللي بعد ما ذاقوا الأمرين من حكام اليوم .كانت الدنيا بخير .. فانقلبت . رحمتك يا عالما بالغيب .. ها …
الدرجة التاسعة
ها.. ركض وشقا والكل واصل للجورة..ما بيدوم غير عزرائيل ووجع القلب ونجار التوابيت . لماذا هذا الصمت والميت شاب ، تمزق اللوعة عليه القلوب ؟!
يا غراب البين .. ها .. هاه .. أف من هذا الحم وقلة الهواء .. ارتاحي لا تسرعي للموت برجليك . خذي نفسك وعلى مهلك .. تمسكي بالدرابزين .. اصعدي على راحتك .. لا احد وراك بعصى .. سوى عزرائيل ، لا احد وراك .. سنتين لم تزوري أم رافع.. منذ انتقلت لهذه الأنحاء. معرفة وجيرة عشرين سنة مضت بلمحة البصر.عمر يمضي بغمضة عين . أمس كان الأولاد يرضعون مع بعض.. دنيا !!
الدرجة العاشرة
( جينا الدار نسأل ع الحبايب )
( لقينا الدار بتبكي ع اللي غايب )
ارتاح من شرهم ، قلوبهم مثل الحجر .. ضرب الخناجر ولا حكم النذل . لولا انه الموت لقلت زاح الهم عن أكتافه. من يوم ما شفناهم والشباب يموتون بسبب وبلا سبب . حتى الأمراض كثرت . شيء نعرفه وشيء لا نعرفه. جابوا الأمراض عشان يشغلوا الأطباء.. رحمتك يا رب .. رحمتك وقوتك .
هانت .. بقي درجتين وتصبحين في الدار .. لا ترهقي روحك بالبكاء، مع أن المرحوم بمقام ابنك.اللوعة في الصدر تنشف الريق وتغم البال . احترسي .. قلبك مهزوز ووراك عيلة .. بنتين مثل زرين قرنفل .. والعرسان كثار .. الله يبعث منهم من يشاء ومتى يشاء . نصيبهم بيده .. يرحم من يشاء ويهب من يشاء . ترحم بنا وابعد عنا النحس يا رب . تفو على عزرائيل .. درجتين لا غير ..
الدرجة الحادية عشرة
البيت هادئ كأنه مسكون .. الفأر بدأ يلعب بعبك .. ما هذه الحكاية ؟! أنت في حلم أم في علم..؟ لا حس ولا نس ؟ لا صوت ولا صراخ..؟ لا بكاء ولا لطم ..؟ والميت مثل ليرة الذهب ..وأم رافع ست من ناح ولطم ؟ فكيف والفقيد فلذة كبدها ؟؟
ولكن يا للعجب .. لا سمع ولا حركة ؟!
توكلي . . خذي نفسك .. والله معك..
الدرجة الثانية عشرة
بقيت درجة والأنفاس تقطعت .. خذي نفسك يا محروسة.. الخبر وراء الباب المغلق. عبئي صدرك وعلى مهلك .. عبئي صدرك هواء، أثمن شيء ببلاش .. اياك من المغالاة بقدرتك .. أنا مثل أختك يا أم رافع.. ورافع ابني .. رضع حليبي يوم رماك المرض .. عمر يركض ويتركنا نلهث .. الحياة تهجرنا وتتركنا خرائب .. يا حسرة على أيام زمان .. وأكل زمان .. ما ذهب من عمر لا يعود .. حتى الأرض خطفوها أولاد الحرام.. يا غراب البين .. يا غراب الشؤم.. تفو على عزرائيل .. يحرمنا من الفرح في آخر عمرنا .. كمان عزرائيل مع القوي .. تفو على عزرائيل ..
الدرجة الثالثة عشرة
الثالثة عشرة .. والأخيرة، الحمد لله.. عدتهم بالتمام والكمال . رقم منحوس . من يوم آدم وهذا الرقم منحوس .. ما له نصيب .. لو نقصوها درجة..؟ أو زادوها درجة ..؟ جئت أشاطرك حزنك يا أم رافع. آه من لوعتي .. كيف ألقاها وماذا أقول لها ؟.. كيف أطيب خاطرها بهذه المصيبة ؟ تحلي بالصبر .. هل عاد فينا صبر حتى نتحلى به ؟! طرقت الباب وهي تلهث منهكة مقطوعة الأنفاس من التعب والحر واللوعة وصعود الدرج…
أطلت بعد برهة فتاة صغيرة ، وقفت قبالتها صامتة تتأملها ، هل هي ابنة المرحوم ؟ أين قلبك يا عزرائيل ؟ نظرت للفتاة الصامتة والتي لا يبدو عليها أمر خاص..كأن الميت ليس والدها ؟ نظرت من الباب المفتوح إلى الساحة أمام البيت .. فلم ترى ما يشد نظرها أو يشير إلى وجود ميت . ما الخبر ؟!.. لا يبدو كبيت ميت ؟!
استولت عليها الحيرة وثار قلقها مما هي فيه.. أو يكون الميت قد عاد إلى الحياة ؟! سألت الفتاة وكأنها تسأل نفسها :
– بيت أم رافع يا عيوني ؟
ثقتها تقول أن هذا هو البيت، لا يمكن أن تصعد كل هذه الدرجات هكذا لوجه الله.. ولكن الفتاة رغم صغر سنها .. إلا إنها، كما يبدو، فهمت المراد.. فها هي تتحمس وتطل نحو البيت على الجهة الأخرى من الشارع، وتقول مشيرة إليه بيدها:
– الدرج المقابل يا خالتي !!