فيكتور هوغو أسطورة القرون وخرافة الانتساب إلى الإسلام
منتصر لوكيلي | المغرب
أتوصل منذ أشهر بشريط فيديو على الواتساب من لدن عدة أصدقاء، مدته الزمنية لا تتجاوز الدقائق الأربع، يتحدث عن الشاعر الفرنسي الكبير فيكتور هوغو صاحب “البؤساء” و”أحدب نوتردام” وغيرهما من الأعمال الأدبية الخالدة، ويورد خبرا يزعم فيه أن الشاعر اعتنق الإسلام ونطق بالشهادتين؟ قبل أن يضيف أيضاً بأنه اختار لنفسه اسم “أبي بكر” نظرا لإعجابه بشخصية الخليفة أبي بكر الصديق، لكنه أخفى إسلامه دون أن يمنع قلمه من كتابة عدة قصائد عن مدح الإسلام ورسوله وبعض الصحابة الكرام.. وأن إسلامه كان على يد شيخ جزائري اسمه إبراهيم التلمساني سنة 1881، أي أربع سنوات قبل وفاته سنة 1885. ويستند أصحاب هذا الرأي على قصيدة «العام التاسع للهجرة»، التي وردت في ديوانه «أسطورة القرون»، التي خصصها هوغو لتكون تاريخاً شعرياً للإنسانية منذ آدم، والتي تذكرني بدورها بأرجوزة لعلي بن الجهم، وهذا تذكير لا إسقاط ولا مقارنة فيه، بل مجرد تذكر عابر.
وقصيدة العام التاسع للهجرة ليست الوحيدة التي يبدو فيها اهتمام للشاعر بالدين الإسلامي وشخصية النبي محمد وبعض الصحابة، لكنها في اعتقادي ليست دليلا دامغا على إسلام ونطق بالشهادة كما حصل لأكثر من شخصية في الغرب.
من أجل معرفة التوجهات الدينية لفيكتور هوغو، وحضور الإسلام في كتاباته الأدبية، يتوجب على قارئ سيرته فهم تفكيره الديني الغامض، وفي اعتقادي فإن شعر الرجل وأدبه هو أكبر مؤشر على دينه ومعتقداته. أما حياته، فقد بدأت بطفولة انعدم الدين فيها أو كاد، فلم يخضع لأي تأثير ديني لا من والده ولا من والدته: فوالدته كانت متأثرة بالمدرسة الفولتيرية، وتربت في مؤسسة علمانية، ووالده كان مشغولاً بمساره العسكري وأسفاره، وقد تزوج الأبوان مدنياً حسب ما يرويه لنا فيكتور هوغو نفسه: “لم تكن الزوجة تهتم كثيراً بمباركة الراهب، والزوج لم يكن يهتم بالأمر أصلا”. وقد سمحت هذه التربية لهوغو بأن يقرأ كل شيء دون تعصب لأي دين، ولا لأية عقيدة، قراءة مكنته من الاطلاع على الفلسفات وعلى المعتقدات والأديان، ومن بينها الدين الإسلامي، ونبيه محمد وصحابته.
وهكذا يمكن القول أن الشاعر فيكتور هوغو اهتم بالدّينِ كجوهَرٍ إيمانيٍّ راسخٍ على مرِّ العصورِ يخدم الإنسانية ويلهمها ولم يول اهتماما لدين بعينه وشكله مع اهتمام بطرق العبادة. فقصيدة العام التاسع للهجرة، ترسم لوحات لصفاتِ الرّسول الكريم وخصالِه، فحين أحسَّ بدنوِّ أجلِه، دفعه حسن خلقه إلى أن يطلب العفوَ من العابرينَ ويحيّيهم، وقدْ بدَت آثارُ السّنينَ على وجهِه ولحْيتِه، فهو يتأمَّلُ النُّوقَ وهي تَروي ظمأَها، ويتذكَّرُ رحلاتِه معَ القوافلِ،…ثم يركز على وصفه بشيء من الدقة فهو عالي الجبينِ، وخدَّاهُ ملائكيَّانِ، وحاجباهُ غيرُ كثيفينِ، وعيناهُ عميقَتانِ، وعنقُهُ مثلَ مزهرية فضية.
أما حكمته، فتذكرنا بحكمة نوحٍ العارفِ بسرِّ الطّوفانِ، وهو يحكم بالعدلِ بينَ النّاسِ، فلا يجد المذنبُ أمام هيبته وصدقه من مخرج سوى الاعتراف بذنبِه، صامت يُصْغي أكثرَ ممّا يتكلّمُ وهو آخر المتكلّمينَ، ويفيضُ على لسانِه ذكرُ اللهِ.. قليلُ الشَّغفِ إلى الطَّعامِ، يجوعُ حتّى يشدَّ حجرا على بطنِه؛ ويحلبُ شياهه بيديهِ، ويرتّقُ ثيابَه بنفسِه، كثيرُ الصّومِ حتى إذا بلغ من العمرِ ثلاثةً وستّينَ عاماً، وأدركَ دنو أجلِه، راحَ يتلو القرآنَ، تاركا لخليفتِه أبي بكر مسؤولية استكمال الطريق ونشرِ عبادةِ التَّوحيدِ… فهي رسالةَ الإسلامِ الّتي جاءَت متمِّمةً لرسالةِ المسيحِ عيسَى – عليهِ السَّلام- الّذي وُلدَ دونَ أبٍ من العذراءِ مريم، وكان طفلاً حميدَ السّيرةِ، فأشرقَ بنورِ رسالتِه كمَا يشرقُ نورُ الفجرِ من رحمِ الشّمسِ، فجاءَ محمَّدٌ لإتمامِ هذا النُّورِ.. وما محمد إلا بشر مخلوق منَ الطّينِ، وحياتُه مليئةٌ بالأسَى من ضنْكِ الذُّنوبِ، وجسدُه إلى انحلالٍ تأكلُه دودةُ الترابِ.
وتطولُ القصيدةُ في الحديثِ عنِ النّبيِّ وأعمالِه وصفاتِه وأخلاقِه، فهي ولا شك دليل على إعجابِ الشاعر الفرنسي الكبير هوغو بالإسلامِ ورسولِه، وعلى سَعةِ اطّلاعِه على تاريخِ هذا الدّينِ الحنيفِ ورجالاته، ولكن هذه القصيدة وغيرها لا يمكن أن تقوم دليلا على قيام الشاعر باعتناق الإسلام واستبدال اسمه باسم عربي لخليفة من الخلفاء الراشدين، بل إنها تعكس جانيا من جوانب أعجاب كتاب الغرب بالشرق الإسلامي، دون أن يتعداه إلى ما بعد ذلك.
وفي ديوان “أسطورة القرون” قصيدة مطولة عن الخليفةِ عمرَ بنِ الخطّابِ، حملت عنوان: (شجرةُ الأرْز) لقَّبَ فيها الفاروقَ بشيخِ الإسلامِ، وهناك من يرى أنها جاءت ردا على الخطاباتِ المعاديةِ للإسلامِ الّتي انتشرَت في فرنسا وأوروبّا بعدَ اغتيالِ القُنصلينِ الفرنسيِّ والبريطانيِّ في الخامسَ عشرَ من شهرِ يونيُو عام 1858 في مدينةِ جِدّة بالجزيرة العربية، فقد نحى الرّأيُ العامُّ حينها باللائمة على المسلمين، حتّى باتَ يُنظرُ إلى الإسلامِ في أوروبا على أنّهُ مصدرُ تعصُّبٍ ودافع للقتل. فقد تعامل الشَّاعرُ في هذهِ القصيدةِ مع الإسلامِ من خلالِ منظورٍ إنسانيٍّ لا يتَعارضُ فيه مع الدين المسيحيِ. فعَمدَ في إلى بناءِ حوارينِ صوفيّينِ بينَ القدّيسِ يوحنّا الإنجيليِّ والخليفةِ عُمرَ بنِ الخطّابِ، وبينَ مدينةِ جدَّة ذاتِ البُعدِ الرّمزيّ للإسلامِ والمُسلمين وبينَ اليونانِ الّتي ترمزُ إلى مهدِ الحضارةِ الأوروبية.
إننا إذ حاولنا تسليط نقاط ضوء على قضية إسلام فيكتور هوغو المزعوم، فإن الدافع في ذلك هو حرصنا على الإسلام دينا وحضارة من تسرع المندفعين والمتحمسين بانفعالات ومواقف تجعل من المسلمين أضحوكة، فلا يجد أعداء الدين والحضارة من غضاضة في التهكم عليه ليقولوا: “أنظروا إلى المسلمين، إنهم لا يتورعون عن خلق الأكاذيب من أجل رفع راية دينهم”. وبالطبع، فإن هذه العملية برمتها تجعل من المنافح عن حقوق الإسلام والثقافة العربية مجرد متنطح لا يفقه أدبا ولا تاريخا، وصار من الواجب تحري الدقة في مثل هذه الأخبار قبل نشرها والترويج لها… فشعر الشاعر وعمله الأدبي الخالد يظل موروثا حضاريا للغة الفرنسية أولا وللإنسانية جمعاء ثانيا.
ومن المستغرب أن ظهرت هذه الادعاءات الخرافية حديثا، وكأن المثقفين العرب والمسلمين لا يهمهم من مثقفي الغرب إلا أن يعتنقوا الإسلام وينطقوا بالشهادتين، ولعمري، لقد كان فيكتور هوغو محط احترام المثقفين العرب منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين من معاصريه، ممن قرؤوا له بلغته وترجموا له وأعجبوا بأعماله الأدبية وبما تقدمه للإنسانية دون أن يقيموا وزنا لموقفه من دين أو عقيدة، بل ومنهم من رثاه شعرا كما فعل الشاعر حافظ ابراهيم حين نشر رثائيته :
أَعجَمِيٌّ كادَ يَعلو نَجمُهُ
في سَماءِ الشِعرِ نَجمَ العَرَبي
|||
صافَحَ العَلياءَ فيها وَاِلتَقى
بِالمَعَرّي فَوقَ هامِ الشُهُبِ
|||
ما ثُغورُ الزَهرِ في أَكمامِها
ضاحِكاتٍ مِن بُكاءِ السُحُبِ
|||
سائِلوا الطَيرَ إِذا ما هاجَكُم
شَدوُها بَينَ الهَوى وَالطَرَبِ
|||
هَل تَغَنَّت أَو أَرَنَّت بِسِوى
شِعرِ هوغو بَعدَ عَهدِ العَرَبِ
|||
قُلتَ عَن نَفسِكَ قَولاً صادِقاً
لَم تَشُبهُ شائِباتُ الكَذِبِ
|||
أَنا كَالمَنجَمِ تِبرٌ وَثَرىً
فَاِطرَحوا تُربي وَصونوا ذَهَبي