دور العلوم الإنسانية في ظل الثورة الصناعية الرابعة
د. أسامة محمد إبراهيم | أستاذ علم النفس التربوي – جامعة سوهاج – مصر
تضع الثورة الصناعية الرابعة قيمة كبيرة على قدرة النشء على التكيف والتعلم والتفكير الموجه ذاتيا، أكثر من أي شيء آخر. لقد أصبح العمر الافتراضي للمعارف المهارات في البيئة الحالية قصيرًا بشكل متزايد، مما سيتطلب من العاملين في المستقبل القريب تحديث مهاراتهم باستمرار وتعليم أنفسهم حول التقنيات الجديدة والصناعات الجديدة التي ربما لم تكن موجودة أثناء إعدادهم وحصولهم على درجاتهم الأولية.
إن الثورة الصناعية الرابعة والتقنيات المرتبطة بها، مثل التكنولوجيا الحيوية والذكاء الاصطناعي، تتحدى بعض افتراضاتنا الأساسية حول معنى أن نكون “بشرا” في عالم “ما بعد الإنسانية”. والتحدي أمام التربويين وصانعي سياسات التعليم هو: كيف ينبغي للعلوم الإنسانية أن تستجيب لهذا الوضع الإنساني الجديد؟
هناك العديد من العناصر الأساسية التي يبدو أنها جزء لا يتجزأ من برامج العلوم الإنسانية والتي يجب العناية بها في مؤسساتنا التعليمية وجامعتنا على وجه الخصوص.
أحد متطلبات تصميم التعليم خلال الثورة الصناعية الرابعة يتمثل في تضمين بنية قوية من التفكير الأخلاقي والوعي بين الثقافات والتفكير النقدي للتمكين من التطبيق المدروس والمستنير “للتقنيات الأسية” المتنامية. في عصر الثورة الصناعية الرابعة، يجب أن تَضمَن أي خطة جيدة الإعداد للتعليم العالي أن طلابنا سيخرجون إلى عالم يمكنهم أن يساعدوا في تشكيله بحكمة وكفاءة. يجب أن يكون أي تعليم عالِ في ظل الثورة الصناعية الرابعة قادرًا على خلق ثقافة تعمل على تطوير تقنيات على نحو أخلاقي ومستدام.
سوف تحتاج البرامج التعليمية إلى تحويل التركيز بعيداً عن المهام الروتينية، لتركز على تطوير عادات العقل والقدرة على الإبداع لدى الخريجين على جميع المستويات. تقترح أحد الأطر الخاصة بـ التعليم المهني والتقني التركيز على المهارات اللينة مثل التنقل الوظيفي وأخلاقيات العمل والابتكار وبناء قدرات العمل الجماعي والتعاون بين الطلاب، مما يعد الطلاب بشكل أفضل لأسواق العمل الناشئة في الثورة الصناعية الرابعة.
كما يتوقع أصحاب العمل والصناعات أن تكون المهارات الاجتماعية التي تشمل الإقناع والذكاء العاطفي والقدرة على تعليم الآخرين ذات أهمية كبيرة.
وقد أدرك أصحاب العمل بالفعل قوة العلوم الإنسانية في تحفيز ريادة الأعمال وتطوير مهارات الأفراد التي تسعى العديد من شركات التكنولوجيا الكبرى بنشاط على تطويرها.
يجب حساب الاختلالات الاجتماعية الناشئة عن الثورة الصناعية الرابعة ضمن منهج جديد للعلوم الإنسانية لهذه الثورة. نظرًا لأن الآلات الذكية التي تعمل بطاقة الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة الأخرى أصبحت أكثر شيوعًا داخل الشركات، فمن المتوقع أن يتسارع هذا الاتجاه.
تحتاج مناهج التعليم في ظل الثورة الصناعية الرابعة إلى الاستجابة للتوترات السياسية والاجتماعية التي ستصاحب وتيرة التغيير التكنولوجي المتسارعة، والاستجابة لمفارقة التقنيات التي تزيد من تركز الثروة والنفوذ لدى شركات التكنولوجيا، كما نراه اليوم واقعا في أمريكا بطريقة غير معهودة.
ومع تطور التعليم عبر الإنترنت والتوسع في استخدامات الذكاء الاصطناعي، هناك حاجة إلى إرشادات جديدة لتوفير أساس نظري لأصول التعليم الرقمي.
وقد أطلق البعض على النماذج القديمة التدريس “الإنساني البشري”، والأنواع الجديدة من التعليم الرقمي التدريس “ما بعد الإنساني”.
وتؤكد هذه المقاربات أن التعليم الرقمي هو أكثر من مجرد اهتمام تقني بحت، لأن البيئات عبر الإنترنت تغير ديناميكيات الفضاء والوقت لخلق ثقافات تعلم جديدة تتحدى مفاهيمنا السابقة للتفاعلات الاجتماعية، وتمكّن وجهات نظر جديدة حول إنسانيتنا المشتركة، بغض النظر عن الحدود الجغرافية.
يمكن أن يساعد هذا النهج أيضًا الطلاب على التعامل مع القضايا المعقدة للعلاقات عبر فضاءات الإنترنت والأبعاد الفلسفية للتطبيقات المتقدمة التي قد يقترب أو حتى يتجاوز الذكاء البشري.
قام أحد المؤلفين بإنشاء “بيان سايبورغ Cyborg Manifesto للمساعدة في شرح الواقع الاجتماعي لكائن عصبي عبر الإنترنت، والذي سيكون “مخلوقًا في عالم ما بعد الإنسانية” حيث تتشعب الاختلافات بين ما هو طبيعي وما هو ثقافي، وبين العام والخاص، والبشري وغير البشري.
لا يمكن فصل هذه الاهتمامات الإنسانية عن التقدم التقني، وسيحتاج المناهج الجيدة في الثورة الصناعية الرابعة إلى تقليص الانقسامات بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية المختلفة لإنشاء نظام تعليمي أكثر تكاملاً يمكنه استكشاف المفاهيم الناشئة حديثًا عن الذات والهوية في الثورة الصناعية الرابعة، بما في ذلك مناقشات حول الاستقلال الذاتي، والإرادة الحرة، والحتمية الجينية مقابل الحتمية الاجتماعية.
إن الطبيعة المتغيرة للعلاقات الاجتماعية والتفاعلات بين وسائل التواصل الاجتماعي، والالتزامات تجاه مجموعات الهوية، والمجتمع، والأمة والعالم، يجب أن تكون أساسية في منهج الثورة الصناعية الرابعة لأن كل هذه الهويات والولاءات تتغير بسرعة بسبب زيادة العولمة.