الجنُّوسة النَّسقية بين الثابت والمتحول في الخطاب السَّردي للروائية العراقية هدية حسين

د. أمل سلمان | أكاديمية وناقدة عراقية

     ما إنْ أُتيحت الفرصة للمرأة العربية بشكل عام والعراقية تحديدا ،لأمتلاك ناصية الحكي من جديد حتى ألتجأت إلى ربط ذاتها بالكتابة الإبداعية ، بوصفها ذاتا طموحة تطمع إلى مستقبل أفضل وغد مشرق ، وكرِّد فعل على الممارسات التقليدية التي عملت باستمرار على التشكيك بوجودها الإنساني وتغييب ذاتها .ومن هؤلاء النّسوة اللواتي استطعْنَ إيجاد موطىء قدم لهن في السّاحة العربية والعراقية ، الروائية هدية حسين ، إذ منحت السّرد النّسوي طاقة تعبيرية هائلة، فشكلّت حضورها على مقولات الوعي ورؤيا العالم وإثارة الأسئلة ،صوب الواقع والذات والمجتمع من خلال الاشتغال على مناطق مسكوت عنها ومغيّبة في اللاوعي ، وغامرت في كسر النمط التقليدي للسرد عبر تفنيد السلطة الذكورية ،وصياغة وعي ثقافي  جديد ونسق رؤيوي مغاير ، فالمرأة في المنظومة الثقافية والاجتماعية بقيت لقرون طويلة يُنظر إليها على أنّها كائن مجازي غير مشخص ، وهي حزمةٌ من الصفات الجسدية والمعنوية تتكرر في كلّ حكاية بلا اختلاف أو تميز شخصي أو بيئي أو طبقي  وكلهن واحدة .

     المتأمل في سرود هدية حسين ، وبالتحديد رواياتها (في الطريق إليهم، وبنت الخان، وما بعد الحب، وزجاج الوقت، ونساء العتبات وصخرة هيلدا، وريام وكفى)، يرصد أن هذا الوعي المبكر وأدراك مكانة المرأة قد جاء عبر مسارين، أحدهما : تفعيل أنموذج المرأة المثقفة والآخر ، تسكين أنموذج المرأة الجسد .

     وهذا لا يعني بالضرورة القفز خارج المنظومة الإسلامية ، فالثابت أنّ الإسلام في الوقت الذي كرم فيه المرأة ومنحها حقوقها كاملة، لم يدفعها إلى التّمرد والعصيان والطّغيان والتشاؤم من جنس الرجل مطلقا، فالنّهضة الإسلامية للمرأة كانت نهضة سلمية ، لم تلغ احترام الأباء لدى بناتهم ولا احترام الأزواج لدى زوجاتهم ، ولم تزعزع ركائز الأسرة، ولم تثر حالات سأم المرأة تجاه الحياة الزوجية والأمومة وتربية الأطفال، وهذا ما قصدنا به تفعيل أنموذج المرأة المثقفة ، فهي التي تعرف مالها وما عليها وهي أحدى الجوانب المهمة التي نجدها في سرود هدية حسين .

     وأما المسار الآخر ، فقد حاولت  الروائية صياغة وعي ثقافي جديد ، ونسق رؤيوي مغاير ، مستفيدة من نظرية الكتابة النسوية أو ما يسمى ب (الجندر) ، التي تعدّ إتجاها فكريا جديدا يقصد به ،”ذلك الوعي الفردي والجماعي بلاتكافؤ في العلاقات الاجتماعية بين المرأة والرجل وتلك الإرادة في تغيير هذا التماثل في أفق المساواة ” ونظرا لدينامية هذه الحركة ذات الصيرورة المنفتحة على التغيير المستمر ،دخلت النظرية في سياق جديد يركز على الجنوسة، التي يقف عمادها الحقيقي على مفهوم ثنائية الهيمنة الذكورية والتبعية الأنثوية، كمّا تعتمد هذه النظرية على أن الخصائص البيولوجية ثابتة لا يمكن التحكم بها على أساس أنّها امتيازسابق، بينما العلاقات الاجتماعية والتنموية في الثقافة المجتمعية قابلة لإعادة التشكيل والتغيير؛ لأنّها أُلصقت بالمعرفة الإنسانية عن طريق التقادم ، أي من خلال فكرة السُّلطة الأبوية والنظام الأبوي. ولذا حاولت الكاتبة في منجزها السّردي الانسلاخ من ما يُسمّى بالاستعمار المزدوج المتمثل بالسلطة والخطابات الذكورية معا، ونتيجة لذلك كان حضورها حضورا إشكاليا يكشف عن وعي جديد يدرك أن هناك روافدا مشتركة بين الرجل والمرأة فكريا ومعرفيا .

     وعليه فقد جاء خطابُها السّردي وجها جديدا للكتابة النسوية، وإنماز بملامح اكثر خصوصية بوصفه تمثلا لعالم المرأة، فكانت اغلب موضوعاتها تدور تحت هذه الثيمة ابتداءً من اللاوعي المُتشكل في تجربة القتل غسلا للعار ، ومرورا بوأد البنات واستعباد النساء وازدواجية الجسد الأنثوي وتقديسه، وإكراه المرأة على الزواج ،ومطالبتها بأنجاب الصبيان وهجرها وضربها وتعذيبها، وانتهاءً بتسليع جسدها باسم التّحرر في العالم المعاصر .هذه الموضوعات وغيرها شكلت الصياغات المحورية والثيمات الرئيسة في خطابها الذي يمكن حصره زمنيا على النحو الآتي :

_ اعتذر نيابة عنك ، مجموعة قصصية، ١٩٩٣ .

_ وتلك قضية أُخرى ، وهي المجموعة القصصية الفائزة بجائزة أندية فتيات الشارقة عام ١٩٩٩ وترجمت إلى اللغة الصربية عام ٢٠١٤ .

_ قاب قوسين مني ، ٢٠٠٠م .

_ بنت الخان ،عام ٢٠٠١م .

_ ما بعد الحب ، رواية ترجمت إلى اللغة الانكليزية عن دار سبرا لميوس الأمريكية عام ٢٠١٢م .

_ أدركها الصباح ، 

_ في الطريق إليهم ، رواية عام ٢٠٠٤ .

_ زجاج الوقت ، رواية ، ٢٠٠٦ .

_ مطر الله ، ٢٠٠٨ .

_البيت المسكون ، مجموعة قصصية ، ٢٠٠٨ 

_حبيبتي كوديا ، مجموعة قصصية ٢٠١٠ .

_نساء العتبات ٢٠١٠ ، 

_ إنْ تخاف ، ٢٠١٢ .

_ريام وكفى ، وهي الرواية التي وصلت للقائمة الطويلة للبوكر .

_ أيام الزّهللّة ، ٢٠١٥ .

_ ليلٌ صاخبٌ جدا ، ٢٠٢٠ .

_ درب الصّد، وهي آخر الأعمال الروائية الصادرة لها لعام ٢٠٢١م .  

    ولا تزال الروائية هدية حسين نهرا يتدفق عطاء وإبداعا وهي تحكي قصص بنات جنسها المهمشات، تقدم فيها للقارىء رؤيتها الخاصة للواقع ، الأمر الذي شكل انتقالة نوعية في نبذ الكتابة التقليدية المتعايشة مع كتابة الرجل إلى أمر جديد يبحث عن فرادته الإبداعية بعيدا عن منطق الاسترجال لغة وفكرا وإنتاجا أدبيا، وبعيدا عن الاستبدادية الأنثوية ، هذا التركيز على الهُويَّة الأنثوية والإتكاء على النسق الثقافي في منجز هدية حسين منذ التسعينيات حتى الوقت الراهن، يجعلنا نقول: إن الروائية تمتعت برفاهية المتغير السَّردي الذي شُكل من منظور النّسوية الجديدة .ويمكن حصر أهم تقانات السرد في خطابها على النحو الآتي :

_ يعتمد اغلب منجزها على التأريخ الشفاهي المسموع الذي تعيشه الكاتبة ، ويعيشه أبناء جلدتها ، وتحاول قدر الإمكان الإبتعاد عن التأريخ المكتوب، على الرغم من أنّه في الأعمال السردية عنصر جذب مهم .

_ تتكيء معظم رواياتها على تقانة (السارد العليم)، فنجدها تستعين بضمير المتكلم بشكل ملفت للانتباه ،فهو على ما يبدو الأقرب إلى نفسها والأكثر صدقا في التعبير عن مقصدياتها ، معلنة بذلك مسؤوليتها عن رؤاها وأفكارها المطروحة فهي لا تحاول النكوص منها والتخلي عنها .

_ استثمرت آليات الحوارومستوياته المختلفة والمتنوعة ، التي تتجدد مع تجدد موضوعاتها وما تتطلبه الحبكة، ووظفت في الوقت نفسه ، تقانات السينما ، من قبيل، المونتاج والفلاش باك وغيرها .

_ كان العراق ومدنه المختلفة شمالا وجنوبا ووسطا ، حاضرا في منجزها على الرغم من أنّها اختارت دولة كندا منفىً لها لسنوات طويلة_ وإن عادت إلى بلدها حاليا _ فالعراق بكل أوجاعه وحروبه قريب منها روحا وفكرا وثقافة وقلبا  وشخصياتها عراقية بامتياز .

_ شكّلت سرودها الروائية ، تشكيلة خطابية ذات لمسات أنثوية ظاهرة ، تهتم بحضورها المجتمعي والثقافي وتلتفت إلى ذاتها الأنثوية في وقت واحد ، موظفة بنية لغوية مغايرة للآخر /الذكر ، فكان منجزها ثريا على مستوى ابتكار وبناء صيغ الخطاب الروائي ، والبنيات والقوالب الخارجية التي منحت رواياتها القدرة على الإبداع ، بعدما كانت موضوعات السرد تتشابه لتشابه القضايا السياسية والاجتماعية والفكرية، لقد كسرت هدية حسين ، البناء الدرامي والخطي للرواية التقليدية والرواية الواقعية .

_ تعدد البنى والدلالة في رواياتها ، وتفتح الآفاق واسعة أمام التأويل على نحو ما فعلت في روايتها (إن تخاف) ، إذ لحظنا تحول الدلالة فيها من كونها رواية بوليسية إلى رواية تفضح مرحلة سياسية مرّ بها العراق عندما كانت تحسب على المواطن أنفاسه؛ ولأن القصد إبراز حالة الفرد النفسية والذهنية والجسدية والاجتماعية في ظل مجتمعات الخوف وسياسات القهر .

_ شكل التناص حضورا فاعلا في منجزها ، محاولة منها لاختزال الأحداث وإبراز المستويات الثقافية والنفسية للشخصيات ، فكان التناص التراثي مع الأغاني الشعبية والحكايات التراثية والأمثال ، زيادة على التناص الفني الغنائي ، وكأني بها تجعل من هذه التقانة معادلا موضوعيا لحالات التداعي النفسي والمنولوج الداخلي، وهذا ما نلمسه بشكل واضح في روايتها ريام وكفى، الفائزة بالمركز الثاني لجائزة البوكر لعام ٢٠١٤ .

_ المفارقات الزمنية في منجزها قامت على تقانتين ، هما الاسترجاع والاستشراف ، وما ترتب عليهما من عمليات التداخل الزمني بين الحاضر والمستقبل ،فهي تقوم في اغلب رواياتها على العودة إلى الماضي لاسترجاع الأحداث وتنتقل إلى المستقبل لاستشرافها ، الأمر الذي جعل السرد يخرج من كونه مجرد عرض محايد لمجموعة من الأحداث،  ومنح المتلقي رؤى متغيرة على مدار عملية القراءة ، فضلا عن ترسيخ مبدأ تكسير الزمن الفني  في مقابل استمرار الزمن الطبيعي .وهذا ما يجعلنا نضع اغلب منجز هدية حسين، ضمن روايات تيار الوعي،لأنها تركز على هاتين التقانتين، وعلى إحساس نفسي بالزمن وتعميق اللحظة الشعورية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى