كيف تنأى ببياناتك الرسمية عن السخرية؟
أنغام عبد الرازق شعيب | كاتبة ومترجمة مصرية
في أبهى عصور الدول وأكثرها ازدهاراً، يكون لرجال الكتابة شأن لا يقل في حقيقته عن شأن رجال الدولة.. ففي أوج تألق دولة الأندلس مثلاً، احتل الكاتب مكانة لا تقل رفعة أو سموًّا عن مكانة القاضي والفقيه، وذلك في نظر الخاصة والعامة على حد سواء، حتى إنّ حكام الأندلس قد أنشأوا ما سُمي بخطة الكتابة والتي تعادل الوزارة في عصرنا.
فإن احتاج السلطان شاعراً يتغنى بمحاسنه وأفضاله، فإن حاجته لمن يعينه في تصريف أمور السياسة ومخاطبة الرعية كانت حاجة أهم وأشد إلحاحاً!
ومن أبرز أهل الكتابة والبلاغة والفصاحة كان (كاتب الرسائل) الذي هو أعلاهم شأناً وأوفرهم حظاً..
والرسائل عنت في ذلك الوقت المكاتبات والأوامر الإدارية والسياسية والبيانات والإعلانات وما إلى ذلك.
ورغم مكانتهم تلك، لم تغفل عنهم عين من أعين العامة أو الخاصة، ولا عن عثرة من عثراتهم للحظة! ذلك أنهم أداة السلطان ولسانه الذي يخاطب به رعية دولته وولاته وملوك العالم، فكان أغلب الظن أن الخليفة أو السلطان -رغم ملكته البلاغية في أغلب الأحوال- كان يملي مقصده فيصوغه الكاتب صياغة لا لبس فيها ولا عثرة، يقترب فيها النثر مع الشعر بإجادة جلية للفنين على حد سواء.. حتى بلغ أمثال ابن زيدون وابن عمّار مرتبة الوزراء لما عُرف عنهم من حسن النظم والنثر وبلوغ القصد.
ومن النساء أيضاً من حظين بالنبوغ الأدبي بما أهلهن لتولي مكاتبات الخلفاء رأساً! منهم مُزنة كاتبة الخليفة عبد الرحمن الناصر، ولُبنى كاتبة الحكم بن عبد الرحمن الناصر.. وهما من هما!
ومثلما أعلت البلاغة من هيبة الدولة وشأنها، أعلت الدولة من شأن الكتّاب والكتابة، فكانت النتيجة وفرة من الإنتاج الفكري والأدبي على حد سواء، وتعدد أعلامهما ونبوغ متنافسيها، حتى أن ملوك الطوائف اصطنعوا لممالكهم الصغيرة الأدباء والشعراء وتنافسوا في اجتذابهم إلى عواصمهم مباهاة بهم، وليظهروا بهم بمظهر الملوك الحقيقيين!
وكانت أكثر المجالس الأدبية والمناظرات الفكرية تعقد في بلاط الملوك والوزراء، فكانت ميداناً للمطارحات الأدبية والنقدية والفقهية والعلمية أيضاً.
يُفهم من ذلك كله أنه كلما أخذت الدول في التمدن والتحضر والاعتزاز بهيبتها بكل سبب، تعين عليها إدراك حاجتها لبلاغة مخاطباتها وبياناتها الرسمية وأن تستعين على ذلك بأهل ملكة الكتابة والبلاغة، لتخاطب الدولة رعيتها وجيرانها بما تتحقق به الغاية بأبلغ من العبارات اللسانية أو الخطب الملفقة الركيكة.
فإن عزم حقا من هو في رأس سلطة أو مؤسسة -أو أي كيان كان- على حفظ هيبة كيانه ورفعة شأنه وتنزيهه عن النقد والسخرية التي هي سلاح معارضة لاذع لم يكن لسلطان قبل به على مدار التاريخ، فعليه أن يختار من كتبته من هم أهل لذلك من أهل الأدب والثقافة، وممن يملكون مقاليد البلاغة والفصاحة، لا هم من أهل حظوته ومقربيه ممن ينشغلون بأنفسهم عن المصلحة العليا التي يتصدرون لها من دون ما يؤهلهم لها.
فالحقيقة التي لا طعن عليها أن سمعة الدول ومؤسساتها ترتبط ارتباطاً واضحاً بمستوى بياناتها الرسمية ومخاطباتها اليومية وبقدر ما جمعت من فنون أدبية أو ما جمعت من عثرات أو إعجام أو ركاكة تنقص من قدرها ومن قدر اسم موقِّعها.