إضاءات في علم المعاني..

طاهر العلواني | مصر

اعلمْ – أتمّ الله عليك نعمته، وزاد إحسانَه عندك، وجنّبك الشبهة، وجعل بينك وبين المعرفة نسبا- أن البيانَ جملةٌ من علمِ اللسان لم يقف عليها إلا من أنعمَ النظر في علم النحو، وأمضى جنانَه في الغوص في أغراضه، حتى بلّ ريقُه وسهُل طريقُه، وحتى يخرج من ألفية ابن مالك أو غيرها من كتب النحو وسيفُ بيانه في البلاغة أمضى منه في النحو؛ فليس النظم الفصيح إلا توخّي معاني النحو كما قال الإمام عبد القاهر رضي الله عنه.

فإذا نظرت في البدل ووجدته ينقسم إلى ما قرره النحويون في قولهم:

مطابقًا أو بعضًا او ما يشتملْ**عليه يُلفى، أو كمعطوفٍ ب(بل).

وكنت ممن رُزق التثبّتَ، وأُذيقَ حلاوة النظر، لم تكن لتقفَ عند هذا التقرير الكافي المرءَ أن يكون نحويا، إنما غرضك ما في هذه الجملة من صدرِ اليقين بأن لكلام العرب بيانا لم يُرزقْه لسان آخر، إذا جاوز ما وقع للبلغاء في القرائح، وتحصَّلَ للفصحاء في المطامح لم يكن شيئا إلا “الإعجاز”.

فأما البدل فإن فيه إيضاحا وتقريرا على ما قرره صاحبا المفتاح والتلخيص، وتوكيدا على ما قرره الشيخان. وهذا أيضا جواب ليس يشفي العلة ولا يقف على وجه الحكمة من تفريع ما هو على ذُكْرٍ منك عليه.

فأما ما قبل ذلك، فهو أن البدل لا يُصار إليه إلا إن كان في الكلام ما يقع فيه الشك أو يستوجب مزيد بيان، فهو بمنزلة ما وقع جوابًا عن سؤال مقدر، وإن لم يكن ههنا سؤال على الحقيقة؛ ألا ترى أن قوله تعالى “صراط الذين أنعمت عليهم” كأنه جواب: ما الصراط المستقيم؟ وأن نحو “لمن آمن منهم” كأنه جواب: لمَن مِن الذين استضعفوا؟ وإن لم يكن ذلك كذلك، إلا أنه زِيد في إيضاح الصراط والمستضعفين مع تكرارهما ما لو تُرِك ذكرُهما لم يكن فيه ما رأيت من الفضيلة وارتفاع الشكّ عن حقيقة الصراط وعن المقول لهم “أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه”. فاعرفه.

ثم إن رغبتَ في اقتداحِ زنادِ العقل، وكان من شأنك أن تتوق إلى معرفة حقائق الأشياء، ويأخذَك منها مأخذٌ يشبه السحر، فانظر في بدل البعض وبدل الاشتمال نظرَ المتثبّتِ الحصيفِ، الرابئ بنفسه عن وصمة التقليد الذي يجري مع ظواهر الأمور.

وهو أن قولك: أعجبني زيدٌ وَجهُه، أنت به مخبِرٌ عن جزء من أجزاء زيدٍ استوجب عندك الإعجاب وهو وجهه، ورفعتَ إبهام وجه الإعجاب عن زيد كلّه إلى جزء من أجزائه، وكنت لا تُخبر بهذا إلا من عرفتَه يريد وجه المزية وسبب الفضيلة التي حصل بها ذلك الإعجابُ الذي ذكرتَ.

وإن قلت: أعجبني زيدٌ علمُه، كنت بمنزلة من يخبر السامع بأن لا شيء يستوجبُ به زيدٌ تلك الحصّةَ من الإعجاب إلا العِلم. وذلك ليس من أجزاء زيد، فكان العجب من زيد لا لشيء به يكون، وإنما من أجل عرَض فيه كان.

فإن قلت: فلأي شيء كان ذلك الانقسام في البدل، وقد كان يُكتَفى مِن ألّا يتنوعَ بنوعٍ واحد!

قلت: لمّا كان الكلام في الوجه الأول عن زيد، وفي الثاني عن بعضه، وفي الثالث عن عرَض قام به وصفةٍ كانت له، وجب أن ينقسم من حيث كان الإخبار عن زيد ليس كالإخبار عن جزئه، وكلاهما يختلفان عن الإخبار عن صفته؛ من حيث إن الإبانة عن زيد وبعضه وصفته تختلف من واحدة لأختَيها، ومن حيث كان السامع يريد ما كان عليه زيد من المزية التي بها كان لإعجاب؛ ألا ترى إلى قوله تعالى “وجعلوا لله شركاء الجن” عند من جعله بدلا، أنّه يختلف باختلاف المراد بالشركاء؟ فلو كان الجنُّ بعضَهم كان تخليصا لهم للإخبار عنهم من جملة الشركاء، ولو كانوا جميعَهم كان إيضاحا.

وإذا كان القدماء اختلفوا في شأن النظم، وما تحصل به المزية من دقائق وأسرار لا تقف عليها ما لم تكدّ القريحة وتستهلكِ الفكرة، ثم لا تسلم بعد ذلك من خلف الظنون، وإن شئت فانظر إلى خلفٍ الأحمر لما سمع قول بشّار:

بكِّرا صاحبَيّ قبل الهجير**إن ذاك النجاحَ في التبكير.

فقال لبشار: لو قلت يا أبا معاذ: بكّرا فالنجاح في التبكير، كان أحسن، فقال بشار: إنما بنيتُها أعرابيةً وحشية، ولو قلتُ: بكرا فالنجاح في التبكير، كانت من كلام المولدين، فقام خلفٌ فقبله بين عينيه. عرفت أن مِن لُطفِ المعنى وخفائه ما يزيل عنك أن تُحدّثك نفسك أن لهذا النظم فروقا ووجوها، وأن ما أومأ إليه عقلك ليس مما يوجب التقسيم لمّا كانت المزية حاصلة فيها دفعة واحدة لا فرق بينها؛ ألا ترى أنْ لو قال لك قائل: لم يعجبك زيدٌ وجهه، فأنت تقول له: إنما أعجبني زيد وجهه؟! وليس وراء ذلك شيءٌ إن عجّبتُك منه عجبتَ، وإن نبهتُك به للمزية انتبهتَ. والله -سبحانه- العاصمُ من الزلل، والمُجنِّبُ من الشُبهات.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى