الارتباط الوظيفي بين الطبيعة والشخصية في ” رائحة الليل ” لـ ” حمدي الطليمي “
طارق عبد الفضيل | شاعر وناقد مصري
يوظِّف الكاتب المصري حمدي الطليمي الطبيعة ومظاهرها المختلفة توظيفا دلاليا في مجموعته القصصية ” رائحة الليل التي طبعها 2004 ونشرها نشرا حرا تتجلى الطبيعة في القصص وتتداخل دلاليا مع الرسائل التي يريد الطليمي أن يرسلها إلى المتلقي . وتطالعنا أول جملة في القصة الأولى ” الهروب إلى الموت ص5 ” : ” الليل يلفظ أنفاسه الأخيرة … والسماء تعربد في آذار … سحابات داكنة تغتال القمر .” وهي جمل اعتيادية لا جديد فيها ، لجأ الطليمي إلى أنساق معلومة ومتوارثة ليبني من خلالها الحالة الذهنية الممهدة للدخول إلى القصة . الوقت آخر الليل في آخر أيام شهر آزار والسماء غائمة و ” الطريق تملؤه الشجيرات ” وأشعة القمر واهنة . هذه الحالة تمهد للحالة النفسية والذهنية لشخصية القصة فهو يسير وحيدا يتوهم رؤية حيوانات خرافية ويفزعه حفيف الأشجار أو صوت مفاجئ لطائر ليلي يبحث عن وكره . والريح تصفر والأشباح في كل مكان . كل ذلك كرس لحالة الخوف التي يشعر بها بطل القصة . والمفارقة المدهشة التي استخدمها الطليمي أعطت القصة وهجها الحقيقي فقد زالت حالة الخوف عندما اشتعلت النار في حقل القمح وأنارت المكان .
وفي ” رسالة من الجنة ص9 ” يمهد الطليمي بوصف الطبيعة ” بعد ليل أرخى سدوله … وهدأت ريحه وأفل نجمه .. استلقى يريح نفسه القلقة وروحه المبعثرة .” لينتقل سريعا من الليل والريح والنجم الآفل إلى النفس القلقة وصور أبيه مضرجا في دمائه .. في ” عصفور النور ” تبدأ القصة ” كانت السحب تتصارع في السماء ، وكأنها تتسابق في الوصول إلى شئ لا متناه … والقمر هناك في زاوية السحاب يحاول أن ينبش ظهر سحابة فتأتي أخرى فتخفيه عن ناظري . كان الليل يزحف نحوي وأنا أجلس بجوار تلك الشجرة .. يتهادى إلى مسامعي صوت ذلك العصفور الشاحب ..” ولا يترك لنا الطليمي الربط بين حالة الطبيعة وحالة الراوي فيعاجلنا : ” ليل حالك وعصفور حائر كوجداني المعذب ” . ويقول : ” كانت هذه الشجرة هي ملاذي الوحيد عندما تتقاذفني أمواج الحياة .” يربط الراوي من أول القصة إلى آخرها بين حالته النفسية والشجرة والعصفور .
في ” انهزام ” هذه القصة الشعرية القصيرة تبدأ : ” ينحني للعواصف ، يسحب أقدامه في وحول الظلام بينما الحزن بحر يجمده الخوف ” يربط كعادته بين حزنه والعواصف والظلام .
ويستخدم الطليمي الفعل المضارع بمهارة فائقة وفاعله مستتر مما يعطي تنوعا في الخطاب السردي يثري القصص ويمتع المتلقي في قصة ” الدرويش ص19 ” التي عالج فيها الطليمي قضية اجتماعية خطيرة تقابل بين العلم والخرافة في الصراع المعلوم والذي عالجه يحيى حقي بشكل مذهل في رائعته ” قنديل أم هاشم ” . ويثبت الطليمي انكفاءة غير متوقعة للعلم أمام الخرافة رغم المسافة الزمنية الهائلة بين قصته وقصة يحيى حقي .
تبدأ القصة ” يقبع هناك وحيدا في طرف القرية ، منزله المتواضع تحيطه الأشجار ” . وهو تمهيد منطقي لحالة الدرويش المختلف عن بقية أهل القرية يصف انعزاله ويقرنه بانعزال البيت في طرف القرية ، وبالطبع الأشجار حاضرة أبدا .
تبدأ قصة ” لا ” ص23 : ” شعاع النور المتهالك ينسل من بين تلك السحابات الداكنة و ” حجرته المظلمة ” تمهيدا لقوله : ” يصحبه دوما ذلك الأرق الأبدي . ذلك الخوف الساكن في عينيه ” والارتعاشة والتردد والعجز الخفي الذي ينتابه ” كان يشعر أنه كائن هلامي ” ثم دخول أشعة النور الواهنة إلى حجرته الصغيرة يمهد لقراره الحاسم بأن يقول : لا
وفي القصة الأم التي تحمل المجموعة عنوانها ” رائحة الليل ” ص27 ، ولا يخفى هنا بروز معلم من معالم الطبيعة بعنوان المجموعة وهذه القصة وهو الليل الذي يلعب دورا مهما في المجموعة كلها . تبدأ القصة ” شعاع الشمس يداعب تلك السحابة الشاردة ، ضوء المصباح المندي يثلج النفس ويشبعها بالطمأنينة والراحة ، العصافير تتراقص بين الأغصان ” .. والأشجار ـ كالعادة ـ واقفة هنا منذ الأزل تحرس الحقل ” . مقدمة تشي بالأمل . لكن الطليمي يسارع إلى القول على لسان شخصيته ” هنا الأشجار ونيسي ، المياه الصافية الطاهرة مرآتي .. أرى فيها نفسي المنكسرة تحت وطأة الحياة القاسية .”€
اختلف التوظيف هنا فلم يمهد للحديث عن نفسه المنكسرة بمظاهر طبيعة غاضبة ولكن بضوء الصباح وتراقص العصافير . بيد أنه يجيب فورا على هذا التناقض بقوله ” كانت الأرض ملاذي يوم أن طاردني العسكر بين أزقة القرية ليلا ، وأذاقوا كلابهم طعم لحمي ودمي ” الطبيعة إذن ليست دائما غاضبة غضبا يعكس الحالة النفسية للشخصية وإنما نراها هنا ملاذا ونقيضا للواقع المتردي .
في تقديمه الدراسة المهمة عن القصة القصيرة بعنوان ( بلاغة القصة ـ مقاربات تطبيقية في القصة القصيرة) للدكتور أحمد يحيى علي وآخرين ـ الصادر عن الأكاديمية الحديثة للكتاب الجامعي – القاهرة 2010) كتب الدكتور ” سيد محمد قطب ” تعليقا على استهلال قصة ” رائحة المطر ” لابراهيم أصلان : ” عنوان القصة بداية يرتبط بعنوان المجموعة في استحضار البعد الكوني .. أو في التماس الخيط الواصل بين التجربة الإنسانية والتجربة الكونية . فلدينا إشارة تستدعي حاسة معرفية ( رائحة ) تصل بين الإدراك البشري ودراما الطبيعة بما فيها من متغيرات ” ص9 ” وهو ما ينطبق تماما على قصة الطليمي ومجموعته ؛ كأن الدكتور قطب كان يعلق على عمل الطليمي .
ويبلغ التفاعل ذروته بين الطبيعة والشخصية في قوله ” واصلت العدو بين الحقول وهم يلهثون ورائي ، ضاقت السماء ، ورأيت الشجر يمد نحوي فروعه ، حفيف الأشجار المتراقصة يرحب بي ويهدئ من روعي ” . ص28
ثم ” هبت ريح فانتفض الشجر ، وارتفع من البعد عواء الذئب ناحية المقابر .. ريح تقتلع الجمع من أماكنهم ” ص30
ثم ” والأرض … والأشجار … والطين يهمس في فضاء روحي … يهدئ من روعي ” ص30 . تفاعلت الطبيعة مع الراوي / الشخصية تهدئ من روعه وتدعمه في موقفه الرافض للتخلي عن الأرض للسلطة الظالمة .
في ” الأمل الواهن ” ص33 . تتفاعل الطبيعة مع الراحل الحزين ” اجتاحتني رياح عاصفة ” و ” اهتزت الأرض تحت أقدامي ” لكن ” هناك … بعيدا .. بعيدا .. كانت بارقة من الضوء الباهت تداعب عيني ” و ” توسمت في النور الخلاص والحياة السعيدة ”
وتبدأ قصة ” رأس السنة ص37 ” بقوله : ” خرج ليلا من منزله ” الرجل الذي لا يستطيع تلبية احتياجات زوجته ” احتدم الصراع في داخله … يضيق به المكان … يشعر أن تلك الجدران الداكنة تطبق على أنفاسه ” ويقابل الطليمي ببراعة بين المصباح الخافت الذي يتراقص في سقف الحجرة ” و ” الأنوار الساطعة جعلته بهورا ” ليقابل بين حالته وحالة الأغنياء كما قابل بين فقره وغنى زميله أمين في ” يتحسس جيوبه الخاوية ” و ” تداعت أمام مخيلته صورة زميله أمين وعربته الفارهة ” .
وفي قصة :” ثورة ص43 ” وهي من أروع قصص المجموعة يجسد الطليمي الصراع السياسي بين الحاكم والمحكومين بالعلاقة بين الحوذي موزع أنابيب الغاز والحمارين .” كان يتفاخر بخوف الحمارين الدائم منه .. يتندر بمواقف كانت شجاعته وسيطرته عليها هي الفاصلة ، وأن خوفهما هو الذي يجعله قادرا على أن يسوس !” حتى ثار الحماران و ” فجأة ” . يهرولان كمجنونين في الشارع ” حتى ” يجرانه ليأكل الطريق لحم وجهه وتتراقص الدماء أمام أعينهما ” ورغم الدلالة السياسة الواضحة إلا أن القصة تحمل رسالة أخرى وهي انتصار الطبيعة متمثلة في الحمارين .
وتبدأ قصة ” الدمية ” ص53 ” بالشتاء ” فشتاء قارس يلملم بقايا الناس ” وكالعادة ” يتراءى منزله من بعيد ” و ” خيوط النور تنساب من بين ثنايا النافذة ، تضئ حجرته ظلام البيت …” وهذا ما يثبت ” بعض الطمأنينة إلى نفسي بعد أن طاردتني الأمكنة .. وأطل القلق من رأسي كشيطان ” . كعادة حمدي الطليمي يأتي الشتاء والظلام والبرد لينقل للمتلقي حالة نفسية متردية يقاومها نور قادم من هنا أو هناك يبث الأمل في نفس الشخصية . لذا من الطبيعي أن نقرأ : ” نافذته المضيئة في ظلام روحي ” . في مقطع من قصة ” الدمية ” يلخص أسلوبه في الربط بين الطبيعة والحالة النفسية للشخصية ” راودتني نفسي أن أطرق نافذته المضيئة في ظلام روحي ” أطرق بأصابعي على زجاج النافذة … أنتظر بلا جدوى استجابة من الطرف الآخر … أتلفت فيصفعني ظلام دامس ..فأسرع الطرق .. تأتيني همهمات صوته يملؤه الأنين .. تنفرج النافذة عن ابتسامة تتسلل مع خيوط النور التي تتناثر لتمحو بعض ظلام يلف البيت ” هذا المشهد يلخص المسألة فصديق الراوي غير معلوم يتحدث عنه بضمير الغائب ووقوفه أمام البيت والظلام يحيط به ومصدر الضوء الوحيد وبالتالي الطمأنينة ؛ والأمل قادم من البيت حيث يوجد صاحبه / الأمل . ولوحات صاحبه مليئة ب ” أشجار ، وأنهار ، وطيور ” .. شمس تغيب تسحب خيوط النور .. بحر حزين … تفاصيل وثيقة تخفي وراءها نفسا قلقة معذبة ” وفي نهاية القصة ” ودعته .. وانصرفت ودبيب الأمل يسري في عروقي ” .
تبدأ قصة ” التابوت ” ص65 ” كالآتي : ” النوافذ الكئيبة المتهالكة … والجدران التي تساقط طلاؤها ؛ ودبت الرطوبة في عروقها … الأشجار الكثيفة التي التفت كإخطبوط حول البيت … بقايا القش المحترق خلف المنزل تحيط البيت بسياج من الدخان … تلك البوابة العتيقة التي انتصب فوقها تمثال لتنين ينفث النار .. !!
في قصة ” الفاكهة المحرمة ” ص71 ” يقول الراوي معبرا عن جمال حبيبته ” هاهي تنزل تسحب وراءها نور القمر ” وتبدأ قصة ” بعض أنفاس الليل ص77 ” كانت العربة تلتهم الطريق ، والليل يزحف ببطء شديد لتخيم على القرية سحابة سوداء داكنة . أشعة القمر المتسللة وراء تلك السحابات القاتمة تداعب نوافذ السيارة المسرعة ”
هكذا يتجلى أسلوب حمدي الطليمي في الربط الوظيفي/ الدلالي بين مظاهر الطبيعة / المكان و الشخصية كركيزة أساسية في بناء قصص مجموعته .