جدليّة الزّمان والمكان في الشّعر العربيّ
الأسير الأديب الفلسطيني | كميل أبو حنيش – سجن ريمون الصحراوي
شغل كتاب “جدليّة الزّمان والمكان في الشّعر العربيّ” حيزًا كبيرًا من وقتي وجهدي، وكاد أن يستنفذ طاقتي، حتّى أنّني أسميته “الورطة” أثناء الانهماك الشّديد في العمل على إنجازه، وجاءت تسميته بالورطة بيني وبين نفسي لأسباب عديدة، أوّلها يتعلّق باهتماماتي في مجال الكتابة، فأنا مهتم بالشّأن السّياسي والأدبيّ (الرّواية والشّعر)، ولم أخض يومًا في مجال النّقد الأدبيّ ولستُ مختصًا بهذا الشّأن، وحتّى قراءاتي كانت قليلة في هذا الحقل، والسّبب الثّاني يتعلّق بالوقت. فقد استغرق العمل على إنجازه ثلاث سنوات كاملة (2013-2015) الأمر الذي أشغلني وعطّل إمكانيّة إنجازي للكتابات الأخرى، والسّبب الثّالث يرتبط بحجم الكتاب حيث بدأ المشروع بمقال لا يتعدّى الخمس صفحات، ثمّ ما لبث أن تحوّل إلى دراسة تقع بحوالي مئة صفحة، ثمّ في منتصف الطّريق تحوّل إلى كتاب متوسط الحجم يقع بحوالي 300 صفحة، إلى أن كبر مع الوقت وتحوّل إلى مجلد ضخم يتسع لأكثر من 700 صفحة، ولو توفرت المراجع اللّازمة لتعدّى الكتاب الألف صفحة. أما السّبب الرابع فيتعلّق بالجهد إذ أنّني كنتُ أعمل لإعداده في ساعات النّهار واللّيل وصرتُ أشكو من أوجاع في الظّهر، وكنت أشعر بالإنهاك الشّديد أثناء الكتابة. أمّا السّبب الخامس والأخير لهذه التّسمية الطّريفة، فقد جاء العمل على كتابته في خضم عدد من المتاعب والجهود والمهام: تنقلات بين أكثر من سجن، الحرب التي شنّها العدو على غزة وتأثيرها النّفسي على المزاج الكتابي، الانهماك في التّحضير للمؤتمرات الحزبيّة على مستوى السّجون والتّحضير لمؤتمر الفرع، وهو ما يعني أنّ الجهود باتت مضاعفة على أكثر من صعيد.
إذًا كان الكتاب ورطة، ولكنّها ورطة لا بد منها، ولكنّني كنتُ عنيدًا ومصرًا على إنجاز الكتاب مهما كلّفني الأمر.
بدأ المشروع كفكرة جنونيّة أثناء وجودي في سجل “ايشل”/ بئر السّبع في أواخر العام 2012، وكنتُ حينها قد أنجزت رواية “وجع بلا قرار” وانهمكت بعدها بالقراءات الشّعريّة، لا سيّما الشّعر العربيّ القديم، وأثناء تأمّلي بمعلّقات الشّعر العربيّ ووقوف شعرائنا على الأطلال، لمع برأسي مسألة الزّمن، وأنّ الوقوف على الأطلال ما هو إلّا استدعاء لزمن غارب لهذا المكان، من هنا كانت البداية، وبدأتُ الحظّ في كلّ قصيدة شعريّة، قديمة وحديثة، مسألة الزّمان والمكان ونبضهما في وجدان الشّاعر العربيّ، وأنّ مسألة الوقوف على الأطلال وجدت لها صدىً مدويًا في الثّقافة العربيّة، في الشّعر والرّواية والسّياسة والثّقافة، وباتت تشكّل نسقًا متكاملًا في النّفسيّة العربيّة الجمعيّة.
أمّا الشّرارة التي أشعلت الرّغبة في المجازفة وخوض هذه التّجربة، تمثّلت ببيت شعر قرأته ولا أعرف قائله ويقول:
يظلّ يجيء الذي قد مضى…. لأن الذي سوف يأتي ذهب…
تأثرت بهذا البيت الشّعري وصرتُ أردّده باستمرار، وبدأ وكأنّه يعبر عن حالنا كأسرى مدفونين تحت رمال الزّمن… فالزّمن الماضي
-فردوسنا المفقود- هو الزّمن الذي يظلّ يجيء في الذّاكرة ويحتّلها على الدّوام. أمّا الزّمن الآتي فلم يأتِ بعد، وربّما لن يأتي إطلاقًا في قلب أبديّة السّجن الصّارمة والقاسية، لقد كان مؤلمًا الوقوع تحت هذا الإحساس، فصارت مسألة الزّمن تشغل حيزًا من تفكيري وتأملاتي..
وكما أسلفت بدأ المشروع بمقالة تجريبيّة، في نهاية العام 2012، ثم تحوّلت إلى دراسة في بدايات العام 2013 ثم أخذت تكبر بالتّدريج، كانت دفاتري “مكتبتي المتنقلة” (كما أسميتها في حلقة سابقة) تختزن المئات من الأبيات الشّعريّة وعثرت بينها على عشرات من الأبيات والنّصوص التي تنطوي على بعدي الزّمان أو المكان أو كليهما معًا، والتي تصلح كبداية وبدأت أبحث في مراجع مكتبة سجن “إيشل” عن دواوين شعريّة وكتب نقديّة تصلح لاستكمال الدّراسة.
لم يطل بنا الوقت في سجن “إيشل”، حيث جرى نقل القسم إلى قسم في سجن نفحة في شباط من عام 2013، وبعدها بشهرين انتقلت إلى قسم بالسّجن ذاته، واستفدت من مكتبة المشروع بشكل نهائي. وكان ثمّة ضغوط تدفعني لإنجاز الكتاب، منها: قرب استحقاق مؤتمر الفرع، وطلب الرّفاق عودتي لسجون الجنوب. ولكن لا يزال أمامي عامٌ كامل بفعل مماطلات الإدارة ورفضها إعادتي للجنوب، فتفرّغت للعمل، وبدأت أعمل ليل نهار، واستغرق إنجاز كتابته النّهائية عامًا كاملًا من خريف العام 2014 وحتّى خريف العام 2015.
وفي صيف 2015، انتقل القسم بكامله إلى قسم في سجن جلبوع وكان قد تبقى أمامي بضعة أشهر لإنجاز هذا الكتاب، وفي أكتوبر من ذات العام كنتُ قد انتهيت منه بالكامل.
وقع الكتاب في أكثر من 700 صفحة من القطع الكبير، واشتمل على ثلاثة أبواب رئيسية: الباب الأول حمل عنوان: أشكال الزّمان في الشّعر العربيّ، حيث تضمّن هذا الباب خمسة أشكال للزّمان (الزّمان الدّائريّ، القدريّ، الاعتقاليّ، الاحتفائيّ، الاختناق بالزّمن) أمّا الباب الثّاني فقد حمل العنوان: أشكال المكان في الشّعر العربيّ، وتضمّن هذا الباب أربعة أشكال للمكان (الاحتفاء بالمكان، الاختناق في المكان، السّجن، المنفى والغربة) أمّا الباب الثّالث فقد حمل العنوان: جدليّة الزمان والمكان في الشّعر العربيّ، وتضمّن ثمانية أنماط أذكر أبرزها ( النّمط الطّللي، النّمط الاعتقاليّ، الجنائزيّ، الثّوريّ، الاحتفائيّ …الخ).
ومن الجدير بالذّكر أنّني خضّت هذه التّجربة من دون أدنى معرفة بأساليب النّقد، وكان اعتمادي على الإلهام والقدرة على تحليل النّص الشّعري، لقد كانت هذه التجربة مفيدة بالنسبة لي من عدّة زوايا؛ فقد تعزّز لديّ القناعة أنّه لا يمكن للمرء أن يحلّل نصًا في السّياسة أو الفكر أو الفلسفة، ما لم يكن بمقدوره تحليل نص أدبيّ، لا سيّما النّصوص الشّعريّة وما تحمله من رموز ومضامين مختلفة، ومن ناحية ثانية ستفيدني هذه التّجربة في خوض غمار التّجربة النّقديّة في أعمال أخرى قادمة.
أنجزتُ الكتاب إذًا، ولكن تلبسني هاجس فقدانه، أمّا الإشكاليّة الأخرى فكيف يمكن نسخ هذا الكتاب الضّخم، ليكون لديّ نسخة إضافيّة في حال مصادرة النّسخة الأصليّة على بوابة السجن أثناء تسريبها للخارج؟
تكاسلتُ ولم أحفل بإعادة نسخ الكتاب، وتركتُ أمر خروجه للحظّ، وتزامن تحرّر شابٍ اسمه عمرو من قرية بورين، وتعهّد بحمل الكتاب وإيصاله للبيت، وهذا ما حدث وانتظرتُ يوم الزّيارة، وحين أكّدت لي الوالدة خبر وصول الكتاب للبيت شعرت بارتياح كبير، وأزاح الخبر همّا هائلًا كان يثقل صدري..
ومع نهاية العام 2015، انتقلتُ إلى سجن “ريمون”، وعلى الهاتف تابعتُ الكتاب وغيره من كتابات باتت تتراكم في البيت. وتولّى الصّديق الدّكتور عبد المجيد حامد الاطّلاع الأوليّ على طباعتها على قرص لتكون جاهزة للإصدار بأي وقت، غير أن تنقلاتي الدّائمة بين السّجون قد حال دون متابعتها… فقد جرى نقلي في صيف العام 2016 إلى “هدريم” ومن ثمّ إلى “ريمون” ومن ثمّ إلى جلبوع، وحين عدتُ إلى “ريمون”صيف العام 2017، كانت المادّة مطبوعة على قرص، وبقيت مهمة البحث عن جهةٍ تتولّى أمر إصدارها لترى النّور.
خطرت لي فكرة عرضها على الجامعات المحليّة، وطمعتُ في نيل شهادة الماجستير على هذه الدّراسة، لكنّي صرفتُ الفكرة من رأسي بعد مشاورات مع عدد من أساتذة الجامعات الذين لم يحبّذوا الفكرة، وآثرت عرض الكتاب على عدد من المختصّين في الأدب، وكان الدكتور عبد المجيد حامد أوّل من طالعها وسجل ملاحظاته عليها وقيّمها بالجيّدة، ثمّ عرض الكتاب (المخطوطة) على الدّكتور نادي الدّيك الذي طالعها كاملة وقيّمها بالإيجاب، وأوصاني بضرورة العمل على إصدارها.
ثمّ أرسلتها من خلال الدّكتورة وداد البرغوثي، للدّكتور محمود العطشان أستاذ الأدب العربيّ المعاصر في جامعة بيرزيت، وقد كنتُ أعرف الدّكتور العطشان منذ أواخر التسعينيات حين عملنا معًا على تشكيل اللّجنة الشّعبيّة لمقاومة التّطبيع.
رحب الدّكتور العطشان بالفكرة، وأبدى استعدادًا لقراءة المخطوطة، ووافق على كتابة مقدّمة للكتاب، واستغرق الأمر بضعة أشهر، لأن الدّكتور العطشان، كان ضريرًا وكان يجب أن يقرأ له أحدهم مادّة الكتاب، وهذا ما تمّ بصعوبة. تابعتُ معه من خلال الهاتف العمليّة لعدّة أشهر إلى أن قرأ المخطوطة وكتب مقدّمة لها، وانتهت هذه العمليّة في منتصف العام 2018.
لم تتحمّس أيّ من دور النّشر لطباعة الكتاب؛ فإنّه حسب رأيهم غير مربح وحجمه كبير وبعد مدّة قبلته إحدى دور النّشر المعروفة، وبعد أن صمّمت له غلافًا وأوشكت على إصداره، اعتذرت عن طباعته وإعادته لي. وبقي مهملًا إلى أن تحمّس الصّديق بكر عبوشي، صاحب دار الشامل للنّشر والتّوزيع ووافق مشكورًا على طباعته إلى جانب طباعة الدّار لعدد آخر من كتاباتي.
تأخّر صدور الكتاب الذي كان من المفترض أن يرى النّور في العام 2019، ثمّ تأجّل إلى العام 2020 وتأخّر إصداره بسبب أزمة الكورونا إلى أن صدر أخيرًا ورأى النّور في أوائل نوفمبر من عام 2020.