” ميلانين ” للتونسية فتحية دبش.. رواية السرد المشاكس
زياد محمد مبارك | كاتب سوداني
ميلانين؛ رواية التونسية فتحية دبش التي خطت بها أولى خطواتها في بلاط السرد ومنحت عنها جائزة كتارا للرواية العربية في دورتها السادسة ٢٠٢٠، فئة الرواية المنشورة.
تفوقت هذه الرواية – في تقديري – لتفريعها خطًا تفاعليًا في خطابها السردي للقارئ الذي يجد نفسه بين يدي الرواية منساقًا في هذا الخط مع رسائل تجعل تصوراته الذهنية للكتابة الروائية ونظرياتها النقدية عرضة للنقاش – والطحن! – في حوارية مشاكسة مع المؤلفة. إضافة لتوغل المؤلفة في ظرفية الكتابة الروائية الخاصة بها فيما يشبه المونولوج، توثيق ظروف كتابة الرواية ذاتها على صعيدها النفسي؛ ربما.
تدور الرواية حول أنيسة عزوز التونسية المهاجرة إلى فرنسا، باريس. وهي صحفية، روائية وملونة. تبدأ الرواية بلحظة وصولها إلى مطار شارل ديغول ليحيط السرد بالخمسة أيام الأولى التي قضتها في باريس. وصلت وفي جعبتها مسودة قيد الكتابة لرواية (ملف رقية). بينما تفكر أنيسة عزوز في روايتها عن رقية، وقبل تعريف القارئ بشخصيتها الروائية تفكر في ميتة مناسبة لها.. «أفكر في التخطيط لمقتل بطل الرواية كما أعلنته في إحدى منشوراتي الفيسبوكية. احتجّ يومها أحد القراء قائلًا: لا تقتلي أبطال رواياتك»/ ص٢٠. وهكذا يجد القارئ نفسه موعودًا بقتل البطل – رقية – قبل أن يعرف من هي رقية. ثم تحاور القارئ الذي صار يلعب دور الرقيب في عصر الرقمية.. «يتحول الأمر إلى صراع يضعني أمام معضلة الكتابة بين مطرقة وسندان، مطرقة الرقمية وحينيتها، وسندان ثقافة الرقيب والممنوعات المتعددة التي تتحكم في القول وطرائقه والتي لم يفلح بعض القراء في تجاوزها. كثيرًا ما عبث بالنص، أناوره بدوري، أحمي حدوده وأستميت في الدفاع بخيلاء يذكرني بموت المؤلف، وأحاول إقناعه أن الرقمية بعثت المؤلف»/ الرواية، ص٢٣.
وهذا المصطلح النقدي (موت المؤلف) احتل موقعًا هامًا في النقد الحديث منذ أن أطلقه رولان بارت، معتبرًا أن القارئ هو المنتِج للنص وقلّص بذلك هيمنة المؤلف وسلطته التي كانت في السابق مطلقة. بمعنى أن موت المؤلف هو نتيجة لميلاد القارئ. ولكن المؤلفة تعاكس هذا الرأي برؤية نقدية تظهر فيها سلطتها ولا تخلو من مشاكسة.. «كما كنت أفكر في قتل بطل رقية فكرت في قتل القارئ أيضًا»/ الرواية، ص٢٣.
ومما مثّل لفتة بارعة في السرد هو التلاعب بعناصر المبنى الروائي (حدث، شخصيات، زمان ومكان)، ومكوناته المتعلقة بالسارد (الراوي) والذي يفترض أنه أنيسة عزوز التي تروي عن رقية من موقع الراوي العليم. لنقف عند التلاعب في العناصر البنائية.. في أثناء كتابة أنيسة عزوز عن رقية في حيزين زمنيين ومكانيين مختلفين لكل منهما. فجأة تتماهى هذه الفواصل فيما يشبه الالتحام، اللقاء بين الراوية والمروي عنها.. «زرت واحدًا من أجنحة متحف اللوفر، أتوه بين ماضٍ وحاضر. للمكان جبروت وسطوة وللذاكرة ثقل وثغرات. وحدها الصور التي يلتقطها السياح توقف مدّ الزمن. أغادره مع المغادرين، أنزل إلى نفق المحطة، أنتحي مقعدًا بانتظار رقية. مكثت ساعة أو بعض ساعة أبحلق في عربات الميترو، وأتسلى بقراءة ملامح المرتادين… تنسحب رقية من بين المسافرين، تركب الخط رقم واحد… وأنشغل بما يمكن التقاطه من حركات رقية وسكناتها، وأعيد تقشير شخصيتها الروائية ونحتها من جديد… تستعد رقية للنزول في المحطة المقبلة، أستعد مثلها»/ الرواية، ص 36- ٣٨.
يمتد هذا الالتحام والدمج غير المألوف في عناصر السرد حتى الحدث الذي صرحت به أنيسة منذ البدء، قتل رقية، لتكون شاهدة على الحدث.. «بييب.. بييب.. بييب.. بوم.. فرامل تحك الأسفلت تشعله نارًا. يدوي منبه سيارة فيشطر الصمت نصفين، صوت ارتطام، وجسم لا شكل له يُرفع عاليًا ثم يسقط مرة واحدة… أهرع… أجري قليلًا ثم أتوقف! ماذا حدث؟ من أين ظهرت هذه السيارة الملعونة، كيف لم يتحكم بعجلاته والمقود عند الإشارة الضوئية؟ كيف تسلل إلى المشهد هكذا دون أهيأ له ولا أن أحسب له حسابًا، هل طفت هواجسي على الورق، وارتسم لا وعيي المذعور أبدًا من حوادث الطرقات منذ أن فتفت جرّار الحظيرة أبي ونثره أشلاًء. فتمثّل لي حادث السيارة بينما أقتفي أثر رقية وهي تشق الطريق إلى العمارة حيث شقتها؟»/ الرواية، ص٥٣. وتعلّل أنيسة عزوز هذا المشهد بتمويه الفواصل بين الواقع والخيال.. «هل يلتبس الأمر هكذا على الكاتب فيخلط بين شخوصه وبينه وبين التخييل والواقع فترتبك حبكته بارتباك أفكاره؟»/ الرواية، ص٥٣.
استعادت المؤلفة شخصية رقية لأنيسة عزوز بعد موتها لتواصل في سرد ما انقطع من أحداث باسترجاع حياتها الماضية من مذكراتها. تذكر المؤلفة حيلتها لذلك.. «عدت أستنهض رقيتي من بين الأوراق وألعن القدر الذي استلها من بين أناملي وسحب مني خيوط الحكاية… أتوغل في الحكاية، أحاول البحث عن خط سردي جديد تعود به الرواية إلى الوجود، ولكن الصفحة الأخيرة على المسودة لا تمنحني شيئًا جديدًا عدا موت رقية مدهوسة بسيارة… رأيتني في غفلة من رجال البوليس والإسعاف والفضوليين أستولي على حقيبة رقية اليدوية، وأنسلّ من المشهد بصمت»/ الرواية، ص74. وهكذا استعادت أنيسة عزوز مذكرات رقية من حقيبتها، رقية التي قتلت نكاية في القارئ الرقيب الذي عارض هذه النهاية. ولكن حاجة أنيسة لأبطال روايتها أضفى على موت رقية طابعًا مؤقتًا لأن أحداث روايتها تبدأ فعليًا بعد موتها.
سعت المؤلفة لنتح رؤيتها النقدية في مناقشة مصطلح رولان بارت، بتسطيرها بعد ختام الراوية.. «وحدها حكايا الطفولة وكوابيسنا رواية صادقة، يضع الكاتب في كل بطل من أبطاله شيئًا منه، هاجسًا من هواجسه أو رغبة من رغباته. أسرار تحملها جيناتنا وتطفو على الورق»/ الرواية، ص164. وهي رؤية معاكسة لرؤية رولان بارت ذات المنحيين، الأول الذي يؤكد أن نص المؤلف تناصي بالكامل مع كتابات الآخرين ويقطع بعدم مركزية المنجز الأدبي. والثاني أن نسبة النص إلى مؤلفه تعني إيقاف النص وحصره وإعطائه مدلولًا نهائيًا. كما أورد في كتابه (درس السيميولوجيا) المثير للجدل، والذي أورد فيه مقالته عن موت المؤلف. ولكن المؤلفة تضرب بكل ذلك عرض الحائط.. «الرواية جنس لم يكتمل بعد، لعلها المقولة الأصدق، ندركها دون أن ننزع عنا تلك الرغبة في البحث عن ملامح اكتمال دون وعي منّا – ربما – بان اكتمالها يعني موتها»/ الرواية، ص٤٨. وهنا فالمؤلفة تكون قد أكملت حلقات المناقشة عن موت المؤلف، القارئ الرقيب، البطل والرواية نفسها !
بالعودة لأحداث ميلانين، عن رقية بعد استعادتها إلى سيرورة السرد.. تبدأ أنيسة عزوز في قراءة ملفات رقية، مجموعة رسائل لزوجها سهيل وخواطر كمونولوج – حديث ذاتي داخلي – تعبر فيه رقية عن غربتها في فرنسا، وحياتها السابقة في تونس، وطبيعة علاقتها بسهيل في رسائل إليه. وتبدو مشاكسة المؤلفة في إدراجها ضمن الملفات ملفات كتبتها رقية لأنيسة عزوز في انعكاس لحالة الراوي- المروي عنه.. «الملف رقم٢، خاص بأنيسة عزوز… أنتِ الآن مسلوبة الإرادة، أختار لكِ عوض أن تختاري أنتِ لي! فالروائي ليس إلا نرجسيًا معوجًا، ليس له من هاجس إلا التلاعب بشخوصه وتطويعها خدمة للذة غامضة في جعلها مجرد مكعبات رياضية أو دمى يتحكم بأقدارها كما لو كان الرب. وهو من فرط نرجسيته لا يتصور أبدًا أنهم قد يتمردون عليه، ويختارون طريقًا غير التي قررها هو»/ الرواية، ص٧٧- ٧٨.
ثم هناك ملفات رسائل مطولة من سهيل. ربما خيم عليّ الإملال من طول الحوارات الداخلية لعدة فصول وهذا راجع لعدم احتشاد الأحداث بقدر البوح الوجداني مما أبطأ السرد أو طرح الاسترجاع الماضوي برتابة. هذا لا يعني أن جمال تلك اللغة الانفعالية الذاتية قد تأثر جماليًا بل هي لغة مرهفة، متوترة وجدانيًا تمكنت من وصف وجدانية الأطراف والتقاط انفعالاتها من سطحها النفسي بوضوح. ولكن على حساب تتابع السرد المشوق الذي أعتقد أنه جازف بمغامرة قتل البطل (رقية) في البداية، ومن ثم إيكال السرد لقصاصاتها بضمير المتكلم الذي من طبيعته ألا يتعدى بعيداً عن رقية. هكذا قرأت، ولكن في الفصل الأخير، بعد فصول قصاصات رقية وسهيل تعود أنيسة لتمسك دفة الرواية.
في الفقرة الأخيرة من الرواية، المخرج، تستقبل أنيسة عزوز رسالة من زوجها.. «حبيبتي، نحن لا نفي لاشتراطات خارطة الطريق لكننا على ضوئها نستدل على أقدار نحن نصنعها. وصلت أخيرًا نتائج التحليل الجيني دي. ان. ايه. ستجدين تفاصيل كوابيسك وستدركين إنّا معًا سنتكتب تفاصيل ذاكرة الميلانين التي سيحملها أحفادنا من بعدنا»/ الرواية، ص162.
والميلانين هو الموضوع الأساس للرواية، تلك المادة الصبغية الخاصة بالجلد البشري التي تحدد لون بشرته. عرضت الرواية بجانب رؤيتها لقضية التمييز العنصري القائم على تباين اللون قضايا إنسانية معاصرة ومتجذرة في أزمنة سحيقة معًا، مثل الهجرة وأفكار الأيدولوجيات اليمينية وآراء الدين الإسلامي في القوامة وغير ذلك. وحياة المهاجرين المسلمين في بيئات مؤسسة على رفض ثقافتهم الوافدة، ووفودهم ذاته. وغير ذلك مما ناقشته المؤلفة بروح مشاكسة لخصّت بها رؤيتها المختلفة والخاصة.
– – – – –
- هامش
- رواية (ميلانين)، فتحية دبش، دار ديوان العرب للنشر والتوزيع.
- (مصطلح موت المؤلف عند رولان بارت في كتابه درس السيميولوجيا)، صفاء يحياوي وشهيرة قرين.