جدي.. ودولته الجستورية
توفيق شومان | مفكّر لبناني
كان جدي مع الثورة العربية الكبرى التي أطلقها الشريف الحسين بن علي في عام 1916 ، وقادها إبنه الملك فيصل بعده .
هرب جدي من الجيش التركي خلال الحرب العالمية الأولى، ولم يعد إلى قريته في جنوبي لبنان، لجأ إلى بلدة ” بصرى الشام ” في محافظة درعا السورية، ومكث هناك عامين وبضعة أشهر، وحين أخذته بندقيته وأحلامه إلى منطقة “معان” في الأردن، وعاد بعد حين ، قالت لي جدتي إن نصف أحلامه تكسرت هناك .
لم أر جدي، فقد توفي قبل ولادتي، سألت جدتي عنه مرارا حين كنت أقرأ لها مجلة ” العرفان ” من عددها الأول الصادر في عام 1909 وحتى تاريخ توقفها الأول في سنة 1957 .
سألتها عنه مرارا وتكرارا ولم أكن ملولا من أسئلتي ولا ضجورا ، ولم تكن هي ملولة ولا ضجورة من النظر إلى صورته المعلقة على جدار بيتنا، فأسئلتي الملحاحة كانت فرصة لي كي أرسم لجدي صورة ذهنية في مخيلتي، وهي فرصة لها أيضا كي تبتسم لثوان أمام صورته ثم تتدحرج من عينيها دمعات مذهبات حارقات، سرعان ما تمسحها بحنين غال ونبضات شوق وتقول: هربنا من الدولة العثمانية إلى أحلام دولتنا .
لم أكن أعرف شيئا عن ” دولتنا ” أو عن ” دولة جدي “، ولكن كلما كنت أقرأ لجدتي خبرا أو تعليقا أو مقالة في ” العرفان ” أو في مجلات أخرى في مكتبة جدي المهيبة، كانت تضيف لي أخبارا على الخبر وشروحات على التعليق ومعلومات عن المقالة ، بعضها سمعته هي من جدي أو عايشته معه ، وبعضها الآخر كان جدي يقرؤه لها ، فحفظته في ذاكرتها المديدة لمائة وخمسة أعوام .
سألتها مرة لماذا هربتم إلى ” بصرى الشام ” ، فاستقامت مثل ملكة ، واستوت على عرش جمالها الأشقر وتوسعت عيونها الزرقاء وابتسمت ثم قالت : كان جدك مع الشريف حسين ثم إبنه الملك فيصل ، وهو “ملك جستوري” .
بعد سنوات عدة عرفت أنها كانت تقصد بأن ” الملك الجستوري ” أي الملك فيصل كان ” ملكا دستوريا ” و ” المملكة السورية ” التي سعى إلى إنشائها الوطنيون العرب الآوائل ، لم تكن ” سلطتها قابضة ” ولا مطلقة ولا آحادية ، ولا فردية ، ولا إدماجية ولا اندماجية ، ولا قهرية ولا استبدادية ، هي دولة ديموقراطية ، وكانت تعتمد نظام المقاطعات الشبيه بالفيدرالية ، او ما يسميها دستور المملكة الصادر في العام 1920 ، اللامركزية حينا والمقاطعة أحيانا ، و يدير شؤون المقاطعة مجلس نيابي محلي وحكومة محلية ، وفوق المجالس النيابية المحلية والحكومات المحلية ، مجلس نيابي عام ومجلس شيوخ عام وسلطة إجرائية هي الحكومة العامة أو ما بات معروفا في عالم اليوم بالحكومة الإتحادية .
في ” دولة جدي ” وفي دولة أحلامه المتكسرة ، وردت المواد الدستورية التالية :
ـ المادة الأولى : إن حكومة المملكة العربية السورية هي حكومة مدنية نيابية .
ـ المادة 7: الملك محترم وغير مسؤول .
ـ المادة 8 : الملك هو القائد العام وهو يعلن الحرب ويعقد الصلح على أن يعرض ذلك على المؤتمر ( مجلسا الشيوخ والنواب ) ولا تكون المعاهدات نافذة إلا بعدالتصديق عليها .
المادة 33 : لا يجوز دخول أحد من الأسرة المالكة في هيئة الوزارة.
ـ المادة 58 : لا يجوز لأحد من أعضاء مجلسي الشيوخ أو النواب عقد المقاولات مع الحكومة العامة ولا الحكومة المحلية ولا البلديات ولا الدخول في الإلتزامات ولا أخذ أي نوع من الإمتيازات لنفسه ولا بالإشتراك مع غيره .
ـ المادة 2: المملكة السورية تتألف من مقاطعات تشكل وحدة سياسية لا تقبل التجزئة.
ـ المادة 122 : المقاطعات تدار على طريقة اللامركزية في إدارتها الداخلية ما عدا الأمور العامة التي تدخل في خصائص الحكومة العامة .
ـ المادة 123 : لكل مقاطعة مجلس نيابي يدقق ميزانية المقاطعة ويسن قوانينها ونظمها المحلية .
ـ المادة 124: يشترط في أساس تقسيم المقاطعات أن لا تقل مساحة كل مقاطعة عن خمسة وعشرين ألف من الكيلومترات المربعة وأن لا يقل عدد سكانها عن خمسمئة ألف .
ـ المادة 125: انتخابات المجلس النيابي للمقاطعة تكون على درجة واحدة.
ـ المادة 126 : مدة أعضاء مجلس المقاطعة النيابي سنتان.
ـ المادة 74 : الإنتخابات النيابية العامة للمجلس النيابي تجري في كل أربع سنوات .
ـ المادة 129 : المقاطعات تسن القوانين الإنتخابية لمجالسها النيابية .
ـ المادة 131: القوانين التي تسنها مجالس المقاطعات ترفع بواسطة الحاكم العام إلى الملك للتصديق عليها والأمر بتنفيذها على أن يصدق عليها وتعاد إلى المقاطعات في مدة شهر .
ـ المادة 132 : إذا أعيدت القوانين المرفوعة من قبل المقاطعات بدون تصديق من الملك بدعوى مخالفتها للقانون الأساسي أو القوانين العامة نظر مجلس نواب المقاطعة فيها مرة أخرى فإذا أصر على الشكل الأول ولم يصدق عليه في المرة الثانية حكم مجلس الشيوخ وكان حكمه هو النافذ.
ـ المادة 134 : يدير المقاطعة حاكم عام يعينه الملك ويشترط في الحاكم العام أن يكون سوريا عربيا متصفا بالصفات المشروطة في عضو مجلس الشيوخ .
ـ المادة 137: الحاكم العام يقدم في كل سنة لمجلس نواب المقاطعة تقريرا عاما للأعمال التي قامت بها حكومة المقاطعة .
ـ المادة 12: لا يجوز التعذيب وايقاع الأذى على أحد بسبب ما.
ـ المادة 13: لا يجوز التعرض لحرية المعتقدات والديانات ولا منع الإحتفالات الدينية من الطوائف على ألا تخل بالأمن العام أو تمس بشعائر الأديان والمذاهب الأخرى .
ـ المادة 118 : لكل أحد حق الدفاع عن نفسه في المحاكم بالوسائل المشروعة .
ـ المادة 18: لا يجوز للحكومة نزع ملكية مالك إلا للمنافع العامة بعد دفع التعويض وفقا لقوانينه الخاصة .
ـ المادة 19 : المطبوعات حرة في ضمن دائرة القانون ولا يجوز تفتيشها ومعاينتها قبل الطبع.
ـ المادة 21 : التعليم الإبتدائي إجباري وفي المدارس الرسمية مجاني.
ـ المادة 24: السخرة والمصادرة ممنوعتان .
ـ المادة 26: النفي الإداري ممنوع بتاتا .
ـ المادة 27: الحكومة العامة للمقاطعات السورية تتألف من هيئة الوزارة وهي مسؤولة عن أعمالها أمام المجلس النيابي.
ـ المادة 29: على كل وزارة تبيين خطتها للمجلس النيابي العام لدى تأليفها.
ـ المادة 30 : كل وزير مسؤول عن وزارته تجاه المجلس النيابي العام.
ـ المادة 45 : متى تقرر في المجلس النيابي وجوب محاكمة هيئة الوزراء أو أحدهم يسقط من الوزارة.
ـ المادة 46 : لا فرق بين الوزير وغيره في الجرائم العادية والحقوق الشخصية والتضمينات المالية فتجري محاكمته في هذه الأمور في المحاكم العامة.
ـ المادة 47: يتألف المؤتمر من مجلسي الشيوخ والنواب.
ـ المادة 77: الإنتخابات حرة ولا يجوز للحكومة أن تتدخل فيها أوتتصدى لها .
ـ المادة 100 : يجب على الحكومة أن تقدم في كل عام ميزانيتها للسنة المقبلة إلى مجلس النواب في آوائل اجتماعه السنوي .
ـ المادة 104 : على الحكومة ان تقدم للمجلس النيابي الحساب القطعي لكل سنة .
ـ المادة 107 : يدقق ديوان المحاسبة في حسابات الحكومة العامة السنوية.
تلك هي الدولة التي حلم بها الوطنيون العرب الآوائل .
خسرنا ثورتنا وأحلامنا آنذاك كما كانت جدتي تقول وتدمع ، خسرناها بشرف وعنفوان وبإيمان حقيقي بقيام وطن وأمة ، مذاك ما زلنا نخسر الثورات والأحلام ، او ما نسميها ثورات وأحلاما ، ونستعيض عنها بالإنقلابات التي نسميها ثورات .
مذاك خسرنا دستورنا الأول والأخير، ذاك الدستور الذي كان دستور أمة ، بعده غدت الدساتير دساتير أشخاص ، تضيق وتتسع بحسب أوزان القابضين على السلطة وأثقال قبضاتهم ، دساتير أشخاص لا تعرف دولة ولا أمة ولا تريد الإعتراف بها ، فالسلطان هو الدستور وما ملكت أيمانه من هول وقوة .
خسرنا آنذاك المحاولة الوحيدة لبناء وطن ، خسرنا بشرف ، خسرنا دولتنا الأولى والوحيدة وحكومتنا الأولى والوحيدة ودستورنا الأول والوحيد ، ومذاك لم نكرر المحاولة ، كررنا خسائرنا وهزائمنا ، صرنا نبحث عن سلاطين وعن سلطة ، لم نعد نبحث عن رجال يقودون دولة ، صرنا نبحث عن أبطال ، لم تعد تغرينا الدولة ، صارت تغرينا البطولة ، وحين اقتصر بحثنا عن أبطال ، صرنا دويلات وأقل ، وأشياعا وأقل ، وقبائل وأقل ، وطوائف وأقل ، ومذاهب وأقل ، صرنا أقل من الأقل ، صرنا هتافا ، صرنا صياحا ، صرنا حنجرة .