قراءة في رواية “لم تكن إيموزار.. ولكنها كانت” للكاتب اللبناني عمر سعيد

شكيب أريج | كاتب من المغرب

 

سيرة المكان في اللامكان بشخصيات مغروزة في خاصرة الألم والزمن

للمدن الصغرى سحرها، خاصة تلك المدن التي لا زالت تمتلك رئتين تتنفسان عبير الطبيعة من حولها، وإيموزار واحدة من هذه المدن المغربية التي يمكن أن يهرب إليها المرء مبتعدا قدر الامكان عن تغول المدن الكبرى. وللوهلة الأولى يجرنا عنوان هذه الرواية إلى فضاء إيموزار. لكنها ” لم تكن إيموزار” فالنفي في العنوان يكتسي دلالة حقيقية، مع أن المنفي قد يكون أقوى حضورا من الحاضر نفسه.

ما نطالعه في الرواية هي مدينة جبلية في بلد يعيش أبناؤه تحت قهر التسلط ووطأة الفقر وذلك من خلال شخوص كثيرة خَلقَت حياةً تبدو هادئة ووادعة في ظاهرها، لكنها مثل الرماد تحته الجمر الحارق.

نبدأ بشخصية عثمان، وهي الشخصية التي يُضيئها السرد، كما يفعل الفنار، فهي تبدو ثانوية ثاوية في غمار أمواج السرد غير أن هذا المتشرد الصامت تضج دواخله لوحدها بروايات، ففيه من الوحشة ومن المحبة ومن الدروشة ما ستفضحه مناورات السارد بتدرج من بداية الرواية إلى نهايتها حيث ينتهي إلى نهاية مأساوية شبيهة بنهاية روميو.

وينبغي الإقرار بأن الشخصيات كلها في هذا العمل منحوتة سرديا، فهي ليست مجرد أسماء بل تحمل قضايا كبرى حتى وإن بدت شخصيات عادية وما يجعلها كذلك هي الشبكة العلائقية المثيرة والمنشطة لتأويلات القارئ والمتفاعلة مع الواقع والفكر والنفس الإنسانية.

ولنا في مثال العلاقة بين سمية وراجي أسطع مثال، وتُسعف هذه العلاقة التي وُسِمت بالبرود بين زوجين في حبك القصة بإضافة أقنوم ثالث لهذه العلاقة وهو عثمان، فيُنذر منذ البداية هذا المثلث البرمودي بالمأساة.

وتتشابك علاقات أخرى: (أمين-نوال-عماد) وهي علاقة تختلط فيها الأخوة بالحب بالصداقة.

وكأن هذا المثلث العلائقي يصر على تأطير هذه الشبكات حين نجد أنه يرخي بظلاله على علاقات أخرى (الأب أبو سهيل- الابن راجي- الابن حنين) فأبو سهيل، مركز هذا المثلث، يشعر بفقد أحد ظلعيه “حنين” الابن الغائب، لذلك لا يسلم من مقارنة بين ابنه الغائب والابن الحاضر (راجي)

وتبقى العلاقة بين حنين والجد والعم حنين هي الأكثر حضورا في هذه الرواية لكونها ترخي بظلالها على السرد بشكل كلي:

حنين العم:

يستأثر مقطع من الرواية بسرد قصة حنين المناضل الذي تشبَّع بقيم الحرية والكرامة وسيدفع ثمن هذا الحس النضالي المبكر حين سيعتقل وينكل به في ظروف لاإنسانية وستتم تصفيته في نهاية الأمر، لكن ذكراه ستظل ماثلة أمام أهله خاصة والده أبو سهيل. شخصية حنين العم شخصية عميقة لأنها طرحت سؤال الجدوى من النضال لأجل كل القيم النبيلة في العالم.

أبو سهيل:

هو الأب وهو الجد.. فأبوته تبدو طافحة وآلام فراق ابنه لا تفارقه، ولذلك فلم ينشغل السارد بوصف ندوب الشيخوخة بقدر ما ركز على ندوبه النفسية، وكأن الألم ينضج النفس الإنسانية فأبو سهيل شخصية حكيمة، هادئة، هو تاريخ للألم وحضن آسر لأسرته ولحفيده.

حنين الحفيد:

صورة حنين الحفيد ارتبطت أكثر بالطفولة فبدت أكثر تفاؤلا رغم أنها تحمل اسما ذكراه مؤلمة، ولهذه الشخصية قرينين يؤسسان فكرها وتطلعاتها ومستقبلها فهناك الجد وهو المربي والنبراس وهناك أيضا أبو زلفة المجنون الغريب الأطوار (وهذا مثلت علائقي آخر). في حين لم يكن للأم أو الأب أي أثر باد على شخصية حنين.

وأعتقد أن هذه الشخصية المحورية تلخص رؤية النشوء في هذا العالم من خلال زمنين:

-زمن يظهر فيه حنين الطفل بين أحضان الجد ورفقة شلة الأطفال (آصف، سامر، رجوة) في أحضان الطبيعة الخلابة التي تزيدها مغامرات وجنون أبو زلفة جمالا وبهاء. ( وهو الزمن الذي أخذ حيزا كبيرا من الرواية)

-وزمن بدأ فيه حنين يخرج من طفولته ليكتشف جسده ويرتاد الماخور ويشهد الوجه الآخر للحياة، الوجه اللاإنساني الذي يقتل فيه الإنسان أخاه الإنسان. ثم الواقع الصادم الذي لا يصدق والحرائق التي تحول الحياة إلى رماد.

العودُ أحمدُ، فأعود للتذكير بما أشرت له في البداية، إن شخصيات هذا العمل تبدو هادئة ومنسابة مع تيار الحياة بدعة وسلاسة، لكن لا يمكن للمسكوت عنه والحياة الخفية التي وجدت في السرائر ألا تنفجر، لذلك فإن الأحداث تتوالى بشكل دراماتيكي غريب لا يصدق.

وعودا على بدء، فإنها لم تكن إيموزار مسرح أحداث هذه الرواية ولم تتم الإشارة إلى إيموزار طيلة 277 صفحة لكننا نطالع في الفصل الأخير هذه العبارة: “كان عائدا من ساحة تتوسط مدينة إيموزار المغربية..”(ص 278) وإذا راجعنا وأمعنا النظر في الجزء الأخير من العنوان “لكنها كانت” نصل إلى نتيجة واضحة فليس بالضرورة أن تدور نفس الأحداث والشخوص في مدينة إيموزار المغربية لكن الحياة نفسها تحبل بنفس الوقائع وتتشابه الأماكن والأزمنة والمصائر وتتقاطع بشكل غريب. فلنقل بيقين سردي إنها إيموزار لكنها بمنطق المعاينة، ليست كذلك.

(لم تكن إيموزار، ولكنها كانتعمر سعيد/ الطبعة الأولى 2013 دار العودة- بيروتعدد الصفحات: 279)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى