فلسفة مبسطة: مفهوم الله في تاريخ البشرية
نبيل عودة | إعلامي وكاتب فلسطيني
قرأت قبل سنوات كتاب يحمل عنوانا مثيرا “تاريخ الله” كتبته صحفية انكليزية وهي بالمناسبة راهبة كاثوليكية سابقة، الكتاب مثير بما يطرحه، باستعراضه تاريخ الايمان برب واحد في اليهودية والمسيحية والاسلام، خلال ال 4000 آلاف سنة الماضية من التاريخ البشري.
المؤلفة كارن ارميسترونغ، تقود القارئ إلى أهم رحلة تاريخية في حياة البشرية، رحلة البحث عن الله. تتناول في كتابها تطور الفكرة الإلوهية في تاريخ الشرية. وتستعرض نقاط الاتفاق والخلاف في الديانات التوحيدية الثلاثة، والتأثير المتبادل لكل دين على الدين الآخر.
الفكرة الجميلة في طرحها هو كيف تطورت الفكرة اللاهوتية عن رب الجيوش القبلي، لقبيلة قليلة العدد الجالس بأعالي السماء، بعيون سكان الأرض إلى رب عادل رحيم بكل الديانات التوحيدية الكبيرة. وكيف أصبح من رب مخيف إلى كيان مألوف، أصبحت له اعتبارات جديدة، وعلاقة جديدة نمت بينه وبين البشرية. حتى إنه يمكن القول: إن الله الجديد، المتحول من الله الرهيب، أصبح في خدمة البشرية.
وتشير المؤلفة إلى أن الله الجديد، لم تعد له صفات العدل والرحمة فقط، بل تحول أيضا إلى خادم لأهداف سياسية واجتماعية واقتصادية في أخلاقيات وتفسيرات جماعات المؤمنين. طبعا تشير ارمسترونغ إلى أن الفكرة اللاهوتية تصبح عتيقة مقابل الواقع الجديد المتضارب، بحيث تبرز أفكار جديدة، تغير حتى فكرة الله القديمة نفسها.
يمكن القول بشكل عام، دون الإقلال من حق المتدينين بأي إيمان يطابق ما نشأوا عليه، إن فكرة الألوهية هي إحدى الأفكار الأكثر ضخامة في التاريخ البشري، وبالوقت نفسه هي إحدى أكثر الأفكار إشكالية أيضا.
في مختلف الثقافات التي ظهرت في التاريخ البشري، فكَّر الإنسان كيف يحدد مكانته غير الثابتة في عالمه، لذا خاضت البشرية طريقا طويلة ومثيرة للاهتمام من الروحانية إلى الألوهية. ومن يقرأ مثلا سفر التكوين التوراتي، أو أي قصة خلق أخرى، دينية كانت أم وثنية، يلمس المكانة العظيمة والقوة الهائلة لفكرة الله في التاريخ البشري اللاهوتي. فهو خالق الإنسان والأرض والبحار والسماء والشمس والكواكب والنبت والزرع إلى آخره.
ذلك الرب العظيم لم يكن له صور، ولم يخدمه رهبان أو رجال دين، وشيئا فشيئا بدأ يبتعد أكثر وأكثر عن الإنسان، وإن الفكرة الإلهية بدأت تتلاشى من العقل البشري، لدرجة أن نسبة كبيرة من البشرية لم تعد تؤمن به، أو إنه اختفي كليا من حياتها. هذا قاد الكثيرين من الفلاسفة والمفكرين إلى إسقاطه من تفكيره، وإنكار كل القصص الدينية التي تطورت خلال الـ 400 سنة الماضية. ووصل الأمر بفيلسوف بارز هو الألماني نيتشه للقول إن “الجنائني قد مات” ويقصد الله.
طبعا الولوج للموضوع فيه الكثير من الألغام، لأن طرح فكرة ما بمجتمع يفتقد لحرية التفكير والتعددية الثقافية والفكرية، ليس سهلا، ولن يفهم أنه طرح بإطار ثقافي ومعرفي وليس حثا على التخلي بما يؤمن به الشخص، إنما عقلنة وتعميق للمعرفة.
استعرضت فكرة الكتاب (470 صفحة) باختصار شديد ودون توسع، والكتاب تحول إلى أحد الكتب الأكثر مبيعا في العالم.
هذا يقودني إلى رؤية أنه من غرائب الدين والإيمان الديني، هو أن الله يُطرَح بشكل مبسط، والصفات التي تلصق بفكرة الله هي صفات العدالة والرحمة والعذاب للكفرة، وجنان الله للمؤمنين.
مثلا تطرح جهنم بتفاصيل رهيبة، الحرق والعذاب للكفار وهناك تفاصيل كاملة عن أهل النار والنهاية البائسة لغير المؤمنين.
وتُطرح الجنة، أو ملكوت الله، بصورة تحمل الكثير من المغريات الجنسية، وكأن ما يهم الإنسان من الجنة هو الجنس، والجنس ولا شيء غير الجنس. المسيحية لا تطرح الجنس؛ بل تتحدث عن ملكوت الله للمؤمنين. تعبير لا يقول شيئا. الجنة هي العالم الآخر الذي سيعود إليه الصديقين، وهو مغاير من جهنم حيث يصل الخاطئين.
وفكرة الجنة بدأت مع خلق آدم وحواء، لكن الله أخرجه من الجنة – في اعتقاد بعض الديانات – بسب خطيئة الأكل من شجرة المعرفة. أي إن الله أرادهم بلا معرفة وبلا تفكير.
يمكن القول إن فكرة الله هي فكرة سريالية تطورت مع تطور الذهن البشري ورغبته في فهم عالمه، والظواهر المختلفة التي تواجهه في حياته، فخلق الآلهة لكل ظاهرة، وغير وبدل وصاغ قصصا وحكايات عن الآلهة وصراعها وأوجد رب الآلهة.. الخ.
ومن هنا نجد أن الديانات الوثنية لم تكتف بالخضوع لآلهتها الوثنية، بل جعلتها هي خالقة السماء والأرض والإنسان والنجوم والشمس، بل صيغت الكثير من القصص التي ترجمت ونقلت للتوراة وكتب دينية أخرى.. مثل الطوفان وقصة موسى وبشارة المسيح وغيرها من القصص المركزية في الكتب الدينية التي مصدرها الديانات الوثنية.
ويبقى السؤال: هل ستبقى شخصية الله الدينية سائدة في عالم بدأ يكتشف كواكب تبعد عن كرتنا الأرضية آلاف السنين الضوئية؟