أخطاء الكبار.. بين الإقرار والإنكار

رضا راشد | باحث في اللغة والأدب – الأزهر الشريف

مما لا ريب فيه تأثر المرء بما يقرأ، حتى لكأن الحروف التي يقرؤها أنامل تشكل عقله وتصوغ خلقه .وفيما عايشناه من قبل ونعايشه الآن من أحداث دليل على صدق ذلك .

ففي مطلع القرن الماضي وبعدما افتتحت جامعة الملك فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليا) تولى التدريس بها طائفة من أساتذة كانوا قد ولّوْا وجوههم في التعلم شطر الغرب، فذهبوا إلى جامعات أوروبا وارتضعوا من لبانتها ، فعادوا متأثرين بمن علموهم من المستشرقين علما وخلقا: ينشرون ثقافتهم ، ويتخلقون بأخلاقهم .

وكان من سيئ أخلاق هؤلاء – الذين كان شيخنا محمود محمد شاكر رحمه الله يسميهم تهكما: #الأساتذة_الكبار – أنهم كانوا يخطئون في العلن ويتبرأون من أخطائهم في السر ، وأنهم كانوا يستنكفون كبرا أن يئوبوا إلى الصواب ،وأنهم كانوا يتنمرون لمن دلهم على أخطائهم تنمر من لا يبيت على دمنة ؛أي أنهم كانوا يوقعون بمن يدلهم على أخطائهم . يخطئ أحدهم الخطيئة الفاحشة -لا الخطأ الفاحش- فيستبين له خطؤه، فيمنعه كبره أن يعود للصواب غير مبال بما يحدثه إصراره على الخطأ بعدما اتضح له من تدمير للعقول !!

كتب كثيرة عملت عمل المعاول في تهديم العقول وما زالت ..كان يسع أصحابها أن يخرجوها من بنيان الثقافة بكلمة واحدة يسطرها أحدهم في كتاب أو صحيفة فتنقل عنه بالسند الصحيح، فتكون حجة لمن اطرحها وحجة علىمن لا يزال يأخذ بها ،حتى إذا أخذ لها من اخذا متجاهلا اعتذار أصحابها عنها فإن التبعة كامت ستحون يوخئذ هليه وحده لا يحَمَّل صاحبها أي شيء من أوزراها.

ما زال كتابا “في الشعر الجاهلي” و”مستقبل الثقافة في مصر” لطه حسين وما زال كتابا “تحرير المرأة” و”المرأة الجديدة” لقاسم أمين تطبع وتقرأ، فتعمل في العقول أسوأ مما تعمل السموم في الأجساد، رغم ما تنوقل عن أصحابهما من تراجع سري أو كنائي عن أفكارهما في هذه الكتب

ولا عجب فيما يفعلون؛ فهذه نتيجة طبيعية لمنهج المستشرقين الذين تربوا عليه وارتضعوا من أفاويقه؛ ثمرة خبيثة لبذرة خبيثة.

وعلى عكس هؤلاء سطعت في سماء مصر مجموعة شمسية دارت في فلك الحق واقتبست من نوره، فاجتهدت في نشر أصول ثقافتنا العربية الإسلامية، وفي تعليم الناس منهج الحق، فأصابت كثيرا وأخطأت قليلا ؛فلما دُلّت على خطئها ما استنكفت أن تعود للصواب وأن تعترف بخطئها معتذرة عنه غير عابئة بما يقال عنها ولا مبالية بما قد يترتب على ذلك مما يتوهمه الناس اهتزازا لمنزلتهم وزعزعة لمكانتهم؛ وهل يحفل من قبلته الحق وبغيته الصدق بكلام زيد أو عمرو ؟!!

فالشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله يستكتب من كانوا في عمر أولاده من المحققين (كالأستاذ السيد أحمد صقر) نقدا لتحقيق كتابه “الشعر والشعراء” ثم يثبته في مقدمة الكتاب مع الرد عليه؛ ليكون النقد والجواب عنه كلاهما متاح للقارئ فيستخلص الحقيقة من بين ثنايا الكلام ،وما ذلك إلا من شدة الإخلاص للحقيقة أيا ما كان الناطق بها .

وأخوه الشيخ محمود محمد شاكر رحمه الله يحقق كتاب “طبقات فحول الشعراء” فيستدرك عليه أحبته كالعلامة حمد الجاسر والدكتور محمود الطناحي في التحقيق فيثبتها جميعا منسوبا كل تصحيح إلى صاحبه غير مبال بل يقول صراحة: (وأنا بحمد الله قادر على أصف عملي إن أسأت وأن أقول عن نفسي وأنا في السابعة عشرة من عمري أني كنت يومئذ غرا لا علم له …أستطيع أن أقول ذلك بلا حرج أجده في نفسي ).

ومن قبل هؤلاء الكرام: سلطان العلماء العز بن عبد السلام في فتاويه ، وأبو الحسن والأشعري وغيرهم كثير ممن استنارت صفحات أسفار العلم بنور اعتذارهم عن أخطائهم ورجوعهم عن مذاهب سلكوها، وآراء بل عقائد اعتقدوها .

ولا غرو..فهؤلاء من سلالة تراث طيب طاهر عني بتهذيب الأخلاق قبل إنارة العقول.
(°) في هذا التراث أن كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون .
(°) وفيه شرعت التوبة سبيلا لتصحيح الأخطاء وتصويب طريق السير إلى الله تعالى، ومن معالمها الندم على ما اقترفه العبد مما يتوب إلى الله منه، ولا شك أن الندم لازم الاعتراف بالخطأ ؛إذ لا يندم المرء على شيء يعتقد صوابه .
(°) وفيه أيضا رسالة عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما في القضاء والتي تصلح أن تعد وثيقة للإنسانية كلها في أمر القضاء يقول فيها:”ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل “، ولا يغيبن عن بالك أن الخطأ في القضاء شنيع وآثاره خطيرة ،وربما أدى الاعتراف بالخطأ- إن تكرر- إلى ما يزعمونه سحب ثقة الناس بهذا القاضي الذي يكثر خطؤه!! ولكن المقياس يختلف مع من كان الحق قبلته، فلا يضيره أن يخلص إلى الحق من أول الأمر أم تلتوي به السبل إليه أولا ثم تستبين له السبيل أخيرا فيعدل من سيره، المهم أن يصل للحق أينما كان وتقر عينه به .

في مثل هذه الأيام من العام الماضي خرج شيخنا أبو إسحاق الحويني -أطال الله في النعمة بقاءه وألبسه الله رداء العافية- فاعتذر عن أشياء ارتكبها في بداياته في كتبه وتحقيقاته، فطار بها العلمانيون كل مطار وتوهموا أنهم وقعوا من الرجل على نقيصة وهذا من سقم فهمهم،

فمن يك ذا فم مر مريض
يجد مرا به الماء الزلالا.

وكان ذلك من الرجل مسوغا -عندهم- للنيل منه والحط من شأنه، ودافعا للهجوم على مذهب الرجل (السلفي) الذي لم يعتذر عنه .

إن صنيع الرجل بل أي عالم مثله في الاعتراف بخطئه ما هو إلا حلقة في سلسلة طويلة سبق فيها بسلفه وسيلحق فيها بخلفه، ممن يرون الخطأ في العلم ذنبا يستوجب التوبة؛ لأن هذا العلم دين، بل هو أحق الذنوب بالتوبة منه؛ لأن ضرره متعد إلى غيره، ولا ملامة على الرجل يذنب الذنب الكبير أو الصغير فيتوب إلى الله منه {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم} .

إننا اليوم أمام منهجين متباينين أشد التباين، وكلاهما لا يبالي: منهج من تربوا على مائدة الغرب من المستشرقين يقترف أحدهم الخطأ الشنيع، ثم يبين له خطؤه، فيتبينه، فلا يعترف به غير مبال بالآثار الناجمة عن عدم الاعتراف في عقول الناس، وإنما يفعل ذلك حفاظا على مكانته في الناس، زعم؛ إذ هو الحريص عليهم قبل كل شيء، ومنهج آخر تحدر إلينا من سلالة مداد طاهر يقترف أحدهم فيه الخطأ غير متعمد، فيبين له خطؤه فيعترف به معتذرا عنه غير مبال بقول الناس فيه ..ويا بعد ما بينهما !!
فاختر لنفسك منهما ما تشاء .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى