إشكالية الإعلام السياسي: التَّرَجْرُجُ القراريُّ أو التَّدَرُّجُ اللاقراريُّ؟ 

د. آصال أبسال | إعلامية تونسية –  كوبنهاغن (الدنمارك)

من حيث الاعتبارُ من جديد لقضية سياسية غاية في الحساسية قد مضى عليها ما يزيد عن حول من الزمان، ومنذ أن أثار تعليقُ أعمال البرلمان البريطاني من طرف المَزْهُوِّ بنفسهِ بوريس جونسون (وهو الذي شاءت الأقدار «الانتخابية» الأخيرةُ، في الأخيرِ، أن يكون رئيس وزراء بريطانيا «العظمى» بكليَّتها، وبصرف النظر عن كيفية تلك الأقدار «الانتخابية» وعن حتى كميتها).. فمن حيث هذا الاعتبارُ الآخرُ للزمان المرهون بإثارةِ ذلك التعليقِ مدى الشعورِ اللافتِ بالإيجاس والاغتياظ في كافة الأوساط المعارضة، بل وحتى شبه المعارضة من اليسار واليمين وما بينهما – وقد نشرت، بادئ ذي بدء، مختلف الصحائف ووسائل الإعلام الأخرى في هذه الدولة بالإجماع خبرَ المقصود من ذلك التعليق الذي يشير، على وجه التحديد، إلى منع مجلس النواب من التأثير على قرار «إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي» Brexit دونما أي اتفاق في اليوم الأخير من شهر تشرين الأول (أكتوبر) من العام ما قبل الفائت 2019.. من هذا الحيثِ الاعتباريِّ كله، أخذت تبرز بازدياد ملحوظ ردود الأفعال التي تدين وتندِّد بكل من هكذا تعليق فردي وهكذا قرار أكثر فردية، أخذت تبرز في تلك الأوساط المعارضة، بل وحتى شبه المعارضة وما تلاها وما سيتلوها، على الصعيد الشعبي كذلك، من مظاهرات احتجاجية في طول البلاد وعرضها – ناهيك عن ذلك التوعُّك الاقتصادي الذي حلَّ حلولا نتيجةً للانخفاض السريع في قيمة الجنيه الإسترليني من جرَّاء ذلك، حتى قبل أن يفعلَ الاجتياحُ «الكوروني» فعلَه في هكذا توعُّكٍ اقتصادي، بدوره هو الآخر..

أقول إن التعليقَ المعنيَّ فرديٌّ وإن القرارَ المعنيَّ أكثرُ فردية، بمعنى أنهما صادران عن مزهوٍّ بنفسهِ، كمثل بوريس جونسون، مختالٍ محتال يظن أنه يحكم البلاد حكما أوتوقراطيا (أي حكما فرديا مطلقا)، الأمر الذي أدَّى به حتى إلى التصريح الحماسي بعبارته الإنكليزية القتالية الشهيرة بأنه «سوف يقاتل حتى الموت» He would die in a ditch، من أجل تنفيذ القرار المعني تماما في موعده المحدَّد، لا أنه «(سوف) يفضل الموت داخل حفرة»، كما تترجم حرفيا عن جهل مطبق أغلبيةُ المشهورات من الصحف العربية، وفي مقدمتها صحيفة «القدس العربي» كعادتها في هذين الترقيع والتشنيع اللغويَّيْن، في المقام الأول.. /يُنظر: على سبيل المثال، التقرير الصحفي المترجَم ترجمةً بدائيةً يندى لها الجبين، «جونسون يفضل «الموت داخل حفرة» على طلب إرجاء بريكست ويصر على انتخابات مبكرة»، من إصدار «القدس العربي»، يوم 5 أيلول (سبتمبر) 2019/.. وهكذا، لم يفتأ ذلك المزهوُّ بنفسه المختالُ المحتالُ يعيد ويكرر هكذا تصريحا حماسيا، بالإضافة إلى مشتقاته، على الملأ الأدنى والملأ الأعلى لكي يعكس عن نفسيته صورة وانطباعا لا مراءَ فيهما، ولم يفتأ من ثمَّ يتردَّد بين إرجاء القرار وعدم إرجاء هذا القرار حينا، ويترجرجُ حتى بين تفعيل «شَرِّ» القرار ذاته وبين تثبيت نقيضه، «جَرِّ» اللاقرار، أحيانا كثيرة.. حتى أن العبارة الأدبية الروائية المعبِّرة «انقلابٌ بريطانيٌّ قُحٌّ»، وهي العبارة التي تشير إلى عنوان «رواية» الكاتب السياسي (اليساري) البريطاني كريستوفر جون مَلِن A Very British Coup، تلك الرواية التي تدور أحداثها حول سعيٍ انقلابي دَوْلي يرتِّب له بضعة من أعضاء حزب العمال (اليساري) من أجل إقصاء رئيس الحكومة العمالية هاري بيركينز على الرغم من فوزه في الانتخابات الشعبية بأغلبية ساحقة ماحقة، حتى أن هذه العبارة الأدبية الروائية باتت مثلا مأثورا يُضرب بالمرار والتكرار للإيحاء إلى أي مسعىً غايتُه الأولى والأخيرةُ هي الالتفافُ الواعي حول قانون الإرادة الشعبية بالخديعة والمكر السافرَيْن.. /وبالمناسبة، هنا أيضا، يتجشَّم الكاتب الصحافي التونسي «القدساوي» مالك التريكي، بدوره هو الآخر، عناءَ الترجمة الحرفية لهذه العبارة الروائية عن جهل مطبق، كذلك، هكذا: «محاولة انقلاب بريطانية جدا»، من إصدار «القدس العربي»، يوم 30 آب (أغسطس) 2019/.. وسواء أفلح أم لم يفلحْ في أي من مساعيه تجاه القرار المُختار أو حتى نقيضه اللاقرار، فإن ذلك المزهوَّ بنفسه المختالَ المحتالَ بوريس جونسون لن يستطيع، أمامَ عُرامِ إرادةٍ شعبية واقفة له بالمرصاد على الدوام، من كل حَدَبٍ وصَوْبٍ، لن يستطيع أن يقوِّض ما يوحي بشيء من «الديمقراطية الحقيقية» في دولةٍ كمثل بريطانيا، رغمَ كلِّ ذلك (على الأقلِّ، مقارنةً بانعدام هذه «الديمقراطية» المطلق في بلداننا المنكوبة شرقا وغربا، حيثُ أشكالُ الاستبدادِ التعسُّفي والطغيان الهمجي والظلم الاجتماعي إنما هي في أحقر ما توصلت إليه من أشكالٍ في التاريخ البشري قاطبةً).. وحده العنصريُّ المزهوُّ بنفسه المختالُ المحتالُ الآخرُ دونالد ترامب (قبل «خسارته» الانتخابية لولاية أخرى أمام جو بايدن في مطلع هذا العام)، وحده دونالد ترامب كان يعلن متحمِّسا، من وراء البحار بـ«شعبويته الفاشية المقيتة» Abhorrent Fascist Populism، يعلن دعمَه الشخصيَّ دون قيدٍ أو شرط لهذا «المسعى العظيم» الذي يُقدم عليه هذا «الرجل العظيم» الذي كانت «بريطانيا العظمى» برمَّتها تنتظره طويلا طويلا على أحرَّ من جَمْرِ الغَضَى..

وفي الأخير ها هنا، وليس في الآخر، ومع الأخذ بالحُسْبان حساسيةَ الوضع الخاصِّ جدا لإيرلندا الشمالية (بوصفها جزءا مستعمَرا من هذه الـ«بريطانيا العظمى» وعضوا فاعلا في الاتحاد الأوروبي في الآن ذاته، وخاصَّةً كذاك بحكم تلك «الحدود» المرسومة رسما استعماريًّا بينها وبين شقيقتها، إيرلندا الجنوبية، أو، بالأحرى، «جمهورية إيرلندا» بالحاف).. فإن الترجرجَ بين تفعيلِ «شَرِّ» معنيِّ القرار وبين تثبيتِ نقيضه، «جَرِّ» معنيِّ اللاقرار، قد استمرَّ قائما بين مؤيِّد من اليمين ومعارض من اليسار وممتعض من كل منهما على الصعيد الداخلي (في بريطانيا، خصوصا)، من جهة أولى، وبين مندهشٍ ومتهكِّم ومتذمِّر وإلى حد القرف والاشمئزاز على الصعيد الخارجي (في الاتحاد الأوروبي، عموما)، من جهة أخرى.. ولم يزل، في غمرة هذا الترجرجِ بالذات، جمهورٌ من المتشكِّكين والمتوجِّسين (وعلى الأخصِّ أولئك المحسوبين على اليسار منهم)، لم يزل هكذا جمهورٌ يظنُّ ظنا إلى حدِّ اليقين، أو يكادُ، بأن خروجا فجائيا من هذا النوع في زمن ليس بالاعتيادي، ولا ريب فيه، سوف يؤثِّر تأثيرا سلبيا، لا بل كارثيا، على كلٍّ من الاقتصاد البريطاني والاقتصاد الأوروبي، إن لم يكن مؤثِّرا كذاك على اقتصادات كثيرة أخرى لا تقلُّ أهميةً في أجزاءٍ متفرِّقة من هذا العالم – وقد حصل، بالفعل، التوقيعُ «البريطانيُّ» على هكذا خروج فجائي في يوم 24 كانون الثاني (يناير) عام 2020، وقد حصلت بالإتباع المصادقةُ «الاتحاديةُ الأوروبيةُ» على هكذا توقيع «شفيع» بعد ستة أيام في اليوم الثلاثين من نفس الشهر ومن نفس العام، وقد بدأ من ثم هكذا تأثير سلبي، لا بل كارثي، على الأقل على بنى  الاقتصاد البريطاني (قبل نظيراتها في الاقتصاد الأوروبي)..

بيد أن الشيءَ الوحيد الذي لا يرقى إليه أيُّ تشكُّك أو أيُّ توجُّس، في هذا السياق (سواء كان ذلك قبل أم بعد الاجتياح «الكوروني» في حدِّ ذاته)، إنما هو كونُ النظامِ البريطاني، حكومةً ومملكةً (وبوعيٍ وشعورٍ كاملين من كلٍّ منهما)، إنما هو كونُه النظامَ الأكثرَ عنصريةً والأكثرَ عنفا والأكثر غرورا وعنجهيةً في التاريخ البشري بكلِّيَّته، وبلا منازع.. حتى عندما كانت الأمور الاقتصادية بين دولة بريطانيا وبين بقية دول الاتحاد الأوروبي تسير على ما يرام (وحتى قبل الاجتياح «الكوروني» بالذات)، كان يعزُّ على الأولى (أي دولة بريطانيا) كثيرا وكان يحزُّ في نفسها أكثر فأكثر أن تغيِّر عملتها الرسمية «الجنيه الإسترليني الإمبريالي» إلى عملته الرسمية «اليورو اللاإمبريالي»، في هذه الحال، لمجرَّد أن تصويراتِ أيٍّ من رموزِ «الإمبراطورية البريطانية» لن تظهر على العملة الرسمية الأخيرة مثلما تظهر بكل «اعتزاز» و«فخار»، حاليا، على العملة الرسمية الأولى.. وحتى هذه الشكلياتُ الصورية المحضة بالذات إنما هي من الأهمية والخطورة بمكان بالنسبة لدولة إمبريالية واستعمارية، كمثل بريطانيا، دولةٍ ما زالت تعتقد كلَّ الاعتقاد بإيمانٍ مطلقٍ خفيٍّ بأنها «قائدة العالم» بأسره، شاءت أخرياتُ الدول «العظمى» الكبيرة والصغيرة وما بينهما أم أبت!!..

<<<<>>>>

تعريف بالكاتبة 

ولدتُ في مدينة باجة بتونس من أب تونسي وأم دنماركية.. وحصلتُ على الليسانس والماجستير في علوم وآداب اللغة الفرنسية من جامعة قرطاج بتونس.. وحصلتُ بعدها على الدكتوراه في الدراسات الإعلامية من جامعة كوبنهاغن بالدنمارك.. وتت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى