الدهشة في مجموعة “من الأعماق” لـ’’ هارون الصبيحي ’’
رائد محمد الحواري | ناقد فلسطيني
من يتابع اسلوب “هارون الصبيحي” في كتابة قصة الومضة يتأكد أنه أمام قاص محترف، يتألق في هذا النوع من الأدب رغم صعوبته، لن أخوض في تفاصيل جمالية هذا النوع من القصص، لكن اعتقد أن المتعة والدهشة التي يحملها كافية لتجذب القارئ، واللافت في قصة الومضة أنها تتناسب وعصر النت/السرعة، وتوصل الفكرة بأقل عدد من الكلمات، لكن ليس كل من كتبها أبدع، والقلة ممن كتبها نجحوا في إيصال جماليتها للمتلقي، فهناك مجموعة من الكتاب في الأردن استطاعت أن تكون متميزة في قصة الومضة، منهم، “سمير الشريف، محمد عارفة مشيه، هاني أبو نعيم” وغيرهم، فقد استطاعوا هؤلاء أن يضعوا بصمتهم في قصة الومضة، ويؤكدوا على أنه نوع أدبي له حضوره في الساحة الأدبية.
ولتأكيد جمالية هذا النوع من القصص سنأخذ نماذج من مجموعة “من الأعماق” للقاص “هارون الصبيحي” لتبيان أهمية دوره امتاع القارئ.
“سؤال
في حصة الثقافة العامة، قالت المعلمة الجديدة: قطة من الشوكلا هذه لمن يعرف من هو أسرع رجل في العالم؟
صرخ طفل من الخلف: بولت
ممتاز يا بطل تعال وخذ الجائزة
… دفع كرسيه المتحرك” ص6، بدت القصة (عادية) إلى حين ظهور حركة الطفل، فسؤال المعلمة وجواب الطفل لم يحدث أي أثر في القارئ، لكن الحركة هي التي أحدثت الدهشة، والتي نشأت من خلال وجود (التناقض) بين معرفة الطفل وواقعه.
وللافت في القصة أن (العادية) فيها متعلقة بالكلام، السؤال والجواب، لكن التألق جاء من خلال الحركة، وكأن القاص يقول أن الكلام/القول/الحديث لم يعد مؤثرا، بينما الفعل/الحركة/العمل هم الأهم، وهذا يأخذنا إلى فكرة (معالجة) وضع الطفل.
“حرية
الباب مفتوح
النافذة مفتوحة
…كلما رفع رفعت رأسي اصطدم بالسقف” ص10، الجميل في القصة أنها قدمت بشكل سلس، يتماثل مع ما هو رسمي حينما يتحدث الواقع/الحياة، فهو يتناول الإيجابيات فقط، متجاهلا السلبيات/النواقص التي يحتاجها المواطن، وما يحسب للقصة أن العنوان “الحرية” جاء من خلال “الباب والنافذة” لكن القمع/العبودية جاءت من خلال “السقف” وهذا ما يجعل القصة تتكامل فيها الألفاظ مع المعنى/الفكرة المطروحة.
“سياسة
دخلت الأفعى إلى البستان المثمر
أحرقه رب البيت بمساعدة الجيران والغرباء ولم تخرج
…أقبل الزمار وزمر لها فخرجت ترقص
لكن الغرباء لم يخرجوا” ص14، من قرأ كتاب ميكافيلي “الأمير” يجد عين فكرة النص، المتعلق بفكرة الاستعانة بالآخرين، فرغم أن الكتاب سياسي بامتياز، ويتحدث عن التوجيه سياسي للحاكم، أنه كان (اخلاقي) في مسألة الاستعانة بقوات خارجية، إن كانت رسمية/نظامية أم ثورية، من هنا تأتي أهمية فكرة القصة، التي تناولت موضوع سياسي بطابع/بشكل أدبي..
لكن الأدب لا يقتصر جماله على الفكرة بقدر على شكل تقديمها، فاستخدام القاص الرمز، “الأفعى، الزمار”، كان يعد اختراق لما هو سياسي، وكأنه أراد القول أنه يتحدث أدبيا وليس سياسيا، لهذا سيكون وقع الفكرة أكثر على المتلقي، الذي يحجم عن الطرح سياسي.
“قرار
…عندما سمع صراخ زوجته وهي تتشاجر مع الجارة لم يحكم إغلاق باب القفص.
فكر العصفور والعصفورة في الهرب ومعانقة الحرية.
لكن العصفورة نظرت إلى البيضة وقررت أن لا تهرب.
وبعد ذلك حدث حوار عاصف بينهما حول إذا ما كان قرارهما السابق بإنجاب فرخ داخل القفص صائبا أم لا” ث13و17، غالبا ما نميل نحو الأدب الذي يتحدث عن الحيوان أو الذي جاء على لسان الحيوان، وهذا له علاقة بالثقافة العربية التي تسترشد بحكمة كتاب “كليلة ودمنة” فعندما نقرأ نص متعلق بالحيوان، مباشرا تأخذا الأفكار إلى الحكمة، المعنى المراد من وراء هذه القصة، واعتقد أن نهاية القصة “الحوار العاصف” خدم فكرة التفكير والتوقف عند فكرة البقاء.
واللافت في هذه القصة عدم وجود الدهشة، كما هو الحال في القصص السابقة، وهذا يعود إلى أنها جاءت لتخدم فكرة التوقف والتفكير، من خلال (العودة للتراث الثقافي) الذي يُستند عليه، فالقاص من خلال هذه القصة يدعونا ـ بطريقة غير مباشرة ـ إلى التقدم من التراث الثقافي والتوقف والتفكير فيه.
من هنا نجد شكل تقديم القصة يتماثل تماما مع الثقافة التراثية التي تعد جزء أساسي من العقلية العربية.
“مسرح
خرج الممثل في المسرحية عن النص
أرغى وأزبد
وهدد وتوعد العدو
…منذ تلك اللحظة أصبح زعيما
لكنه لم يترك التمثيل” ص20، غالبية القصص قدمت بصورة (عادية)، لكن الخاتمة تدهشنا، وهذا يأخذنا إلى الخواتم/النهايات البائسة التي انتهي إليها كل أنجاز (سياسي) في المنطقة العربية، منذ بداية تشكيل الأحزاب القومية واليسارية، مرورا بالنهج الوحدوي والتحرري الناصري وبالثورة الفلسطينية، ووصلا إلى ثورات (الخراب العربي)، فكل ما تحقق من انجازات بدت ففي وقتها مهمة وعظيمة انتهت إلى “هباء منثورا”.
فالقصة تقدم فكرة عقم التعلق بالأشخاص، الذين يتغيرون ويتقلبون، فهي تدق ناقوس الخطر الذي أصابنا بعد أن سرنا خلف أشخاص وليس خلف نهج/فكر.