قراءة من كتاب الفلسفية البابلية لحسين الهنداوي

علي جبار عطية | رئيس تحرير جريدة أوروك – العراق

هل توجد لدينا فلسفةٌ رافدينيةٌ سابقةٌ للفلسفة الإغريقية؟

يحاول الدكتور حسين الهنداوي في كتابه (الفلسفة البابلية) الصادر عن دار المدى ببغداد/٢٠١٩ م أن يجيب على عددٍ من الأسئلة التي تشغل الذهن مثل : هل توجد فلسفةٌ رافدينيةٌ متقدمةٌ، ورائدةٌ، وسابقةٌ للفلسفة الإغريقية المهيمنة على أغلب الدراسات الفلسفية في الفكر الإنساني ، ومَنْ هم أبرز فلاسفتها، ولماذا شاعت ثقافة تسقيط الفكر البابلي، والاعتقاد بوثنية الإنسان البابلي، وهل أنَّ البابليين كانوا حقاً أساتذة الإغريق في الفلسفة ؟
لكن دعونا نُعرِّف كلمة فلسفة ليكون هذا مدخلاً مناسباً للإجابة على هذه الأسئلة وغيرها.
إنَّ الفلسفة في أبسط تعريفٍ لها :كلمةٌ يونانيةٌ تعني: حب الحكمة، وهي دراسة الأسئلة العامة والأساسية عن الوجود، والمعرفة، والقيم، والعقل، والاستدلال، واللغة. وتعود صياغة مصطلح فيلسوف (محب الحكمة) إلى عالم الرياضيات فيثاغورس (٥٧٩ ق. م. – ٤٩٥ ق.م.).
ومن خلال دراسته التي جاءت في ٢٣٠ صفحة من القطع المتوسط يتوصل الدكتور حسين الهنداوي (دكتوراه بدرجة شرف في الفلسفة الهيغلية من جامعة بواتيه الفرنسية) إلى أنَّ هناك فلسفةٌ بابليةٌ بالمعنى الفعلي لا المجازي لكنَّها فلسفةٌ تأسيسيةٌ لا منهجيةٌ.
يرصد المؤلف مسألةً غايةً في الأهمية، وهي أنَّ النصوص العراقية غالباً تدور حول قضايا ميتافيزيقية كأصل الوجود، وخلق العالم، والخلود، وما شابه ذلك كما في ملحمتي (گلگامش)، و(الاينوماإليش) اللتين تسردان قصةً لحياة الوجود ببعدها الكوني المطلق، وليس ببعدها العراقي أو الشرقي.. بينما تتمحور معظم الملاحم الأُسطورية لاسيما الإغريقية والرومانية حول مُثل الشرف،والشجاعة، والمشاعر القومية، والنزعات الحربية كما في ملحمتي (الإلياذة)، و(الأوديسة).. ص٢٠٤.
يتناول في دراسته جوهر الفلسفة البابلية،
والنظرية الأولى في المعرفة، وأُسس الميتافيزيقيا البابلية، و المنجز البابلي في الفلسفة السياسية الذي يختزله المثل السومري (الرجل ظل الإله، ولكنَّ الملك صورة الإله) مع تأكيده أنَّ الحاكم البابلي محكومٌ بقوانين ومقيَّدٌ بشرائع لا يمكنه الخروج عنها،وأنَّ أول برلمان سياسي معروف في تاريخ الإنسان المدون التأم للبت في اتخاذ قرار الحرب، أو السلم بحدود (٣٠٠٠ ق. م.) وكان يتكون من مجلس الأعيان أي الشيوخ، ومجلس العموم أي: النواب، كذلك يتناول الفلسفة الأخلاقية البابلية، والديالكتيك، و(حوار السيد والعبد) :تلك القصيدة البابلية التي تأثر بها الفيلسوف الموسوعي والكاتب والمسرحي الفرنسي دينيس ديدرو(١٧١٣ م ـ ١٧٨٤ م)  في روايته ( جاك القدري وسيده)، كذلك تأثر بها الفيلسوف، وعالم الأحياء الألماني إرنست هاينرش هيغل( ١٨٣٤ م ـ ١٩١٩م) ‪‪
وكتب على غرارها فصل (جدل السيد والعبد) وهي حوارٌ من أحد عشر مقطعاً يبين حالة
اللا اكثراث بالسلطة، واللذة، والثورة، والحب، والعبادة، وحب الوطن، وفعل الخير، والحياة !
ينقل الباحث عن كتاب(تحصيل السعادة) لأبي نصر محمّد الفارابي (٨٧٤م ـ ٩٥٠م) قوله : (إنَّ علم الفلسفة كان في القديم عند الكلدانيين، وهم أهل العراق، ثمَّ صار إلى أهل مصر، ثمَّ انتقل إلى اليونانيين، ولم يزل إلى أن انتقل إلى السريانيين، ثمَّ انتقل إلى العرب. وكانت العبارة  عن جميع ما يحتوي عليه ذلك العلم باللسان اليوناني، ثمَّ صارت باللسان السرياني، ثمَّ باللسان العربي.. وكان الذين عندهم هذا العلم يسمونها الحكمة على الإطلاق، أو الحكمة العظمى. ويسمون اقتناءها العلم، وملكته الفلسفة، ويعنون به إيثار الحكمة العليا، ومحبتها ويسمون المقتني لها فيلسوفاً.. ويعنون المحب والمؤثر للحكمة العظمى) ص٣٥
ويورد قول عالم البابليات المستشرق الفرنسي جان بوتيرو ( ١٩١٤م ـ ٢٠٠٧م) وله ثلاثون كتاباً عن بلاد ما بين الرافدين، والكتاب المقدس  يقول بشأن الثقافة البابلية في عصرها الذهبي خلال ألف عام بين( سنة ١٨٠٠ ق. م ـ ٧٠٠ق.م) : (نعرف عن حياة العراقيين في تلك الفترة أكثر مما نعرف عن حياة الأوربيين خلال القرون الوسطى) ص( ١٢ـ١٣).
يتوصل الباحث إلى (إنَّ كل المؤشرات الاستباقية تسمح لنا بالجزم بأنَّ العراقيين القدماء سبقوا الإغريق في الاشتغال في الفلسفة، وإنَّ لديهم منظومات تأسيسية في العديد من حقولها الأساسية، إذا أخذنا الفلسفة باعتبارها محاولة كشف عبر قوى العقل المحض وحده عن الحقائق الكونية العليا كماهية الذات الإلهية، وأصل الوجود، وخلق الإنسان، وغاية التاريخ، وعن مبادئها الجوهرية، وعلتها الأولى، وأسباب، وغائية عالم الظواهر). ص١٣
يرى أن موضوع القضايا الفلسفية الجوهرية هو ذاته في كل الأزمنة التاريخية التي نعرفها، ولا جديد تحت الشمس، وأنَّ الأسئلة الفلسفية الكبرى التي طرحها سقراط، أو أفلاطون، وأرسطو
لا تكاد تختلف عن تلك التي واجهها الفارابي، وابن سينا، وابن رشد، وسواهم بعد أكثر من ألف سنة، وحتى عن تلك التي واجهها ديكارت، أو هيغل بعد ألفي سنة.
يقول : لا نجد سبباً عقلياً يمنعنا من الاعتقاد بأن القضايا الفلسفية التي اهتم بها المفكرون السوريون، أو البابليون، أو المصريون القدامى هي تماماً نفس تلك التي اهتمت بها ـ بعد فترة مماثلةـ الفلسفة في العصور الكلاسيكية، أو الوسيطة، أو الحديثة، أو المعاصرة، وهي قضايا الله، والإنسان، والوجود، والمعرفة، والأخلاق، والحق، والجمال، والتاريخ، ويعتقد أنَّ ما نعرفه عن الفلسفة البابلية هو في الغالب قسمها الديني الرسمي وحده بل جزء منه، أي أنَّ ما وصلنا من ملاحم ومدونات السومريين ، والبابليين والأكديين، والآشوريين لا يمثل الا نزراً يسيراً من نصوصهم الفكرية، والعقلية ، وهو الجزء الرسمي الذي تسمح به الدولة التي عُثر عليها في مكتبات الملوك، ودواوين الدولة، ومقابر السلالات الحاكمة، مع ضياع معظم نصوص الفكر الفلسفي البابلي المدون وغير المدون.
ويعد المفكر الهولندي أوتون فان هيرن ( ١٥٧٧ـ ١٦٤٨م) هو أول مؤلف في العصر الحديث أثبت أنَّ هناك فلسفةٌ بابليةٌ في كتابه (الفلسفات الأولى البابلية والهندية والمصرية).
يسمي الهنداوي التوحيد البابلي بـ(التوحيد العام) لتمييزه عن (التوحيد الخاص) في الديانة اليهودية، و(التوحيد المؤقنم) في المسيحية، و(التوحيد المطلق) في الإسلام، ويرى أنَّ التوحيد البابلي ليس عفوياً، بل هو ثمرة تطور لاهوتي وتاريخي طويل، وشاق تعكسه وحشية عقوبة إحراق النبي إبراهيم.
يرى أنَّ المنظومة الغيبية السومرية البابلية في مضامينها الفلسفية الجوهرية لا تختلف عن مضامين مثيلاتها من منظوماتٍ لاهوتيةٍ كونيةٍ أُخرى لاحقة عليها، أو مواصلة لها، كما لا تختلف عنها في المشكلات المنهجية المنطقية، أو الفكرية.
يقول : (.. نحنُ لا نعتقد بأنَّ العقل البابلي كان غريباً على مبدأ التوحيد الإلهي. بل نرى أكثر من ذلك أنَّ هناك ما يسمح بالاستنتاج، وهذه فرضيتنا الخاصة، إنَّ مفهوم (الله وحدانية جوهرية بأحوال مختلفة) كان المحور الأساس والأبرز التي قام عليها الفكر السومري فالبابلي فالآشوري..) ص ١٠٢
ويرد على الاستنتاج الشائع بأنَّ الوعي البابلي تعددي الآلهة بأنَّه ناجم من عددٍ من الأخطاء المنهجية ساعد عليها تأخر وصول النصوص البابلية إلينا من جهةٍ، ووصولها دفعةً واحدةً من جهةٍ أخرى مما جعلها تبدو كما لو أنَّها تخص شعباً واحداً، وفترةً تاريخيةً واحدةً بينما هي تمثل مراحل تاريخية وحضارية متعددة، ومختلفة . ص ١٠٤
إنَّ موضوعات هذه الدراسة القيّمة متعددةٌ، وأظن أنَّ الاطروحة الفكرية الجريئة للدكتور  حسين الهنداوي في هذا الكتاب مقنعةٌ إلى حدٍ كبيرٍ، لكنَّ البحث في هذا المجال ما يزال بحاجةٍ إلى المزيد من الدراسات النوعية، كهذه الدراسة الرصينة.
*الفلسفة البابلية، الدكتور حسين الهنداوي، الطبعة الأولى، دار المدى، بغداد ٢٠١٩ م، عدد صفحات الكتاب ٢٣٠ صفحة من القطع المتوسط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى