رحالة في ذاكرة الأمكنة
د. أحمد المديني | أكاديمي وناقد
لو لم يكن سيف الرحبي شاعراً وكاتباً متعدِّدَ المواهب، ومثقفاً ملتزماً بالأدب وقضايا أمته وبالإنساني في ضفافهما، ولو كان الزمان آخر، لوجدناه فارساً يجوب الأرض معجوناً بترابها، متداغِلاً بغاباتها، وقافلةً في بيدائها يرافقه الوحيش، تظلله أجنحة اليمام وتحميه الطير الأبابيل، غادٍ كلما مرّ ببلاد سمّاها، ومن نظرته أنبت فيها زرعاً، وبالهمس غنّاها، فتصير تتبعه خلائق، شيخ العرب خيمته عمادُ الرَّبع الخالي، لا يبالي إلا بماها ومرعاها، التيه حلمه والحدس الدليل.
هو الإثنان، معاً، هذا من حسن حظ من يقرأه، ويرافق خطاه وهو يمشي وئيداً مثل جِمال الزّبّاء، ما حاجته إلى (نعال من ريح)، خُلِق بالفطرة شاعراً، وأول ما أبصر رأى الأفق شاسعاً فسعى إليه، غدا رحالة، لا عجب إذا كيمياء الطبيعة وفيزياء الوجود انصهرا، الحُداء والرمل أبجديةُ كينونة من لباب الأسرار وسحر عُمان الشفيف، من مراسيها وأجوائها ما انفكّ سيف الرحبي يغادر وإليها يعود، وفي كل رحلة يصبح آخرَ وينمو معه الخيال نصوصاً بلا حدود، لذلك أن نسمى أدب رحلة فذلك من باب التجنيس العرفي فقط، ينعت ما يهدي القارئ لا غير.
رحلات وتجارب
هذا أفضل مدخل نرتئيه لمقاربة الكتاب الأخير لسيف الرحبي المعنون: “بومة منيرفا ـ رحلات ومقالات”(الآن، عمّان، 2020) الذي نجده يسمح بفهم وإعادة تجنيس هذا النوع النثري العريق عند الشعوب وللعرب منه حظ وافر، أشهره أثران عظيمان: رحلتا ابن بطوطة وابن فضلان.
والرحلة لغةً تفيد الحركة في المكان والزمن، وعمدتها العين بأداة التدوين والوصف لما يراه صاحبها متنقلاً ومتجولاً بين الأمصار، يكشف متنها المجهول أكثر من المعلوم، ويعرّفنا مؤلفها بحياة الشعوب وتجارب الإنسان. لها أغراضٌ وغاياتٌ حسب مراد الرّحالة، تتنوع بين استكشافية مغامرة، وسِفارية سياسية، وتعليمية خُلقية، وفي العصر الحديث لا حصر للأهداف.
علاقة الرّحبي بهذا التعبير قديمةٌ وهي من مكونات تجربته الأدبية المتنامية منذ ثمانينات القرن الماضي، بيد أنه خلافاً للرحالة التقليديين، في كل الأزمنة، لا يحمل آلة تصوير تلتقط النملة إذا دبّت وآخرَ حمّالة صدر في واجهة متجر باريسي، مثل السّياح اليابانيين يقفون تحت برج إيفل ولا بد أن يتحققوا من وجوده في خريطةٍ بين أيديهم!
كلاّ، رحّالتُنا العربي العُماني، لو صح إلحاق الصفة به، لا كاميرا يحمل ولا بيده بوصلة، وقد يعبر الشارع على رأسه وقدماه جناحان، معنيٌّ بالمكان، ما في ذلك شك، لكن ليكتشف أو يعيد فيه بناء أمكنة، الكائن والشيء إمّا المفتقدان، أو يُبعثان من مغارات تليد الزمان، مثل لُقى تُعيدُ اللغةُ صقلَها فتراهما في غاية النضارة، حتى وأنت في فرضية الرحلة تسأل أين أنا أم هل صاحبها ضيّع العنوان، وما ذلك إلا لأنه نصٌّ غيرُ جاهز وليس للاستهلاك مثل أي “منقوشة” تقضمها وأنت تعبر الشارع. أي كتابة بالمعنى الإبداعي، الخلاق، هي أمام الكاتب لا وراءه رغم ما يراكم وبما يتغذى من أعشاب يانعة وزقّوم، هي مجهول النص والبيان، ذاك سبيلُ الرحلة المبتغى، لنحاول رسم وتلمّس بعض خطوطه وتفاصيله، يدعونا إلى قراءة منتجة كي يتحقق في غيابه.
طنجة… مغيب المغرب
نختار من هذا الكتاب المترف بأبهة شعرية، رحلتين: أولاهما: “طنجة مغيب المغرب العربي الكبير”.
زيارة تنقّل فيها الكاتب بين طنجة عاصمة البوغاز ملتقى المتوسط والأطلسي وقبالة طريفة في الأندلس، ومن شرفة فندق فوق الضفة المغربية يمزج التاريخ بالجغرافيا بالإنسان، ويخيطها ثلاثتُها بإبرة الأسطورة، وإذ تكاد تستوي على الجودي، ليكن قصر مارشان الشهير في طنجة، يذرّيها استعاراتٍ وحفورَ مونولوغات تستدعي الأولين، من رشح عرق ينِزّ من جسد الآخرين.
هكذا إذ يطوف قليلاً في الأسواق ويرشُف شاياً هنا، ويقنِص آخرَ نجمة من ثُمالة الليل، يجالس أصدقاءه ليشمّ عطر إنسانيتهم ولا يذيع أسرارهم قط، للتباهي أو التعالم، محمد شكري أحدهم، فتخفق الحياة في المصافحة والخطوة، نعم ستعثر على معلومات متناثرة عن المدينة والسكان والمجتمع وأخبار السياسية إطلالات تعلن هوية النص وصاحبه ومذهبه، وإذا بها تطير شَعاعا مثل نفْس “قطري بن الفجاءة”، كأنما يفزَع صاحبُها من المرئي فيلوذ بالمخفي ويشرَع في توليد الخبر والسيرة والفكرة وأسئلة مسافر يتلظّى بأسئلة الزمان والمكان.
أمكنة وأزمنة
الرحلة الثانية: “أعشاش صيفية في ضوء الفجر” يمكن نعته بنص الرحلة الثقافي، يتنقل مجترحُه بين أمكنة وأزمنة، غير معنيٍّ بتسميتها إلا في النادر، منها المقابر أرض الموات تغدو هي الحياة، حيثما حطت العين مثار صور ومشاعر وتوالد ذكريات.
هنا تمتزج الطبيعة بالإحساس على طراز الرؤية البودليرية، فبودلير هو المكتئب لا باريس، وتستغرق كاتبه تداعيات تصوغ نصا عنقوديًا من المرئي والمدرك والتأملي وصبيب الطفولة كندى الصباح، تترنح ذهابا وإيابا بين الثقافات والحضارات، حاملاً عصا ترحال التأملات. من هنا كثافة العبارة الشعرية وجنس الشذرات، تستقل الشذرة تُرى نجمة في الفضاء (النص) وتحيط بالكوكب.
سيف الرحبي شاعر من فصيلة دم قافية أخرى، هو يقول الشعر ذهب مع أبي مسلم البهلاني وأحمد شوقي، أنه “أننا لا نفعل، إلا أن نمرّغ ونسحب، عبر الكلمات والصور، جنازة العالم إلى هاويتها الأخيرة” (ص 91).
لذلك نجده كلما أسلس له النثر قياده، وانصرف إلى السرد مكوّناً لنصه الرِّحلي، فهو يعرف كيف يحكي ويسخر ويغضب من أمتنا العجفاء، يلتقط العابر بمكر كأيّ كاتب قصة قصيرة جيّد، واللوحة الكبرى مثل روائي، إنما جُعلت قُرّةُ عينه في القصيدة، مثل النشيدة، مثل حكيم من سلالة تاو كلما مشى خطوة، تنقل من “عصفور القائلة” في عُمان، إلى “عصفور الدوري” في طنجة تكلم Lao-tseu يتلو منه Tao-to king أعي، الرحبي لا يقلده وإنما يحاور ذاته، وتاريخه، والخُرس الصّم في البلاد العربية، والوجود والعدم، ملاحقاً “بومة منيرفا” التي لا تحلّق إلا في الظلام، بحسب عبارة هيغل، البومة الفلسفة.
من هذا خطبُه، ومن يعرّف هويته قائلاً: “لست من العابرين ولا المقيمين/ لست إلا ذلك الشبح اللامرئي/ وهو يحوم فوق جثة تاريخ/ أحالته الأعاصير الهوج/ إلى أشلاء وركام”(69ـ70)، ستظلمه القراءة المحكومة بقواعد النوع، وتلجم من يطوّح بمفهوم الأدب من أي زمن جاء: “الشعر أن لا تقول شعراً(…) تبّاً في العصر القديم والحديث”، عليها أن تنصت إليه كيف ينشئ الصمت ولا يعاضل بالكلام، قد أسرج اللغة راحلة ورسم الأزل رحلة لديمومة مطلقة.