المكان في مجموعة “أساطير الأولين”لـ عبد الغني سلامة
رائد محمد الحواري |ناقد فلسطيني
ما يميز هذه المجوعة تناولها للمكان الفلسطيني، ففي قصتي “حوار سريع على حاجز طيار، وفي الطريق إلى صفد” يتناول القاص المكان بطريقة هادئة، رغم وجود من يعكر هذا الهدوء، ولكنه في القصص الأخرى، يتناول المكان بطريقة قاسية، أو أن ابطال القصص يعيشون بمرارة وألم، فكل الأماكن/الأوطان الأخرى قُدمت بطريقة قاسية وصعبة، كالقصة التي تحدثت عن سورية: “وصية الحلبي الأخيرة”، والتي تحدثت عن السودان في قصة: “سمارة: قصة من دارفور”، وعن الصين في قصة: “حدث في الصين” وعن أمريكيا: في قصة “نيويورك… نيويورك”، و”برقيات عاجلة من الفضاء”، وعن إيران في قصة: “طيار إيراني”، وعن الأردن في قصة: “حوار خاص جدا في زنزانة انفرادية” وعن اليابان في قصة: ” في الطريق إلى هوكايدو”. ولكي نوضح هذا الأمر سنأخذ نماذج من المجموعة، ونبدأ بالمكان الفلسطيني، جاء في قصة “حوار سريع على حاجز طيار”: “على طريق “المعرجات” جُلتُ بنظري نحو الأفق، كان المنظر خرافيا: تلال تشبه القباب، تتحمر تحت شمس توشك أن تغيب، وكلما صعدنا أكثر تزداد طراوة الجو، وقد بدت أزهار الأقحوان والحنون تزين السهول المحيطة بألوانها الزاهية، ورائحة الميرمية تفوح في المكان، فتحتُ شباك السيارة لأملأ رئتي بهواء بلادي” ص11، الجمال في هذا المنظر لا يقتصر على الفكرة فحسب، بل نجدها من خلال الألفاظ أيضا، وهذا ما يجعل الفكرة تصل للقارئ وترسخ فيه أكثر، إذ بدأ المشهد وكأن هناك حالة تمجيد للمكان يقوم به القاص، وهذا يشير إلى أهمية المكان وأثره على القاص. ولكن، هناك من يعمل على تشويه هذا الجمال وتعكير صفوه، ورغم وجود القاص في المكان الذي جاء بهذا الوصف: “كنت أنتعش بنسمات العصارى، فيما كان العرق يتصبب من تحت خوذته، أحدق في المدى المفتوح مأخوذا بسحر المكان، أما هو، ورغم تعبه، كان يتجنب الجلوس على العشب، خشية تعرضه للدغ الحشرات” ص13، اللافت في هذا المشهد، أنه يقدم صورة الجندي المنهك والتعب، فرغم جمالية المكان، بدا وكأن هناك عدم انسجام بين الجندي والمكان، لهذا لم يتمتع به وبجماله، ولم يقوى على الجلوس على العشب، وأما صورة القاص، وهو الذي يتعرض لمضايقات الجندي، ومع هذا استمر أثر جمالية المكان عليه، بحيث أنساه وجود المشوه/الدخيل، وكان “ينتعش بنسمات”. فتمتع القاص بالمكان، بينما الجندي يتعب ويرهق منه، فهو لا ينتمي إليه، وهذا يأخذنا إلى علاقة الفلسطيني بالمكان، فهو يتعامل معه كمكون أساسي لوجوده، من هنا وجدناه يُقدم بصورة جميل وناعمة. والجميل في هذه القصة أنها قدمت فكرة زوال المحتل وجنوده بطريقة هادئة وناعمة، تتماثل مع هدوء والمكان وجماله: “..انطلقت مسرعا، وأنا أراقب الحاجز بالمرآة، وقد بدا يبتعد شيئا فشئيا، إلى أن أختفى كليا، وصراخ الضابط يذوب في الفضاء ويتلاشى” ص13، فجمالية المكان تمنع/تحجب كل ما هو سيء، الألفاظ، المشاعر، جنود الاحتلال، وتبقى مؤثرة إيجابيا على الفلسطيني، وهذا ما يجعل المكان بطل القصة، وعلى أنه كائن حي، يحب أحبته، ويعادي كارهيه، من هنا وجدنا أثره الناعم على القاص، والقاسي على الضابط. وفي قصة: “في الطريق إلى صفد” نجد هذا الوصف للمكان: “رأيت التلال التي تفصل القدس عن بحر يافا، وكانت السماء تملؤها ألوان الشروق، والنسمات القادمة من صوب الغرب تحمل معها بقايا من رائحة البحر البعيدة، ما يوحي ببشائر نهار لطيف” ص14، في هذه القصة يسمي القاص كل المدن والقرى التي مر بها أثناء رحلته، وكأنه بها يؤكد على فلسطينيتها: “على اليمين الشارع يمتد سهل حوارة، حقل فسيح من القمح والشعير” ص18، تحديد القاص لاتجاه سهل حوارة، يؤكد على أنه قادم من القدس ومتجه نحو الشمال، إلى جنين وبيسان وصفد، فبدت القصة وكأنها أقرب إلى أدب الرحلات، حيث تم ذكر العديد من البلدات والأماكن التي يمر بها المسافر من جنوب فلسطين إلى شمالها. أما المكان الأخر فقد قدم بطريقة سلبية، أو أن أبطاله يمرون بظروف قاسية وصعبة، يبدأ القاص الحديث عن سورية، في قصة: “وصية الحلبي الأخيرة”، والتي يتحدث فيها “الحلبي” عن التشويهات التي أصابت المكان: “وجوه غريبة تتكاثر في ضيعتنا، من كل جنس ولون، من شتى البلدان، وبكل اللغات واللهجات، كلهم متحدون وراء هدف واحد، تعليمنا الأدب، وفرض الحشمة على نسائنا، وتطهير ضيعتنا من الكفرة” ص24، نلاحظ أن التغييرات تطال البشر، فبدا الحلبي وكأنه غريب في ضيعته، فمشكلته مع القادمين (الجدد) الذين لم يكتفوا بما أحدثوا من تشويهات في المجتمع، فأحدثوا تغييرات على المكان نفسه: “مدرسة تشرين، التي درست فيها عشرين سنة، صار اسمها مدرسة أبو مصعب الزرقاوي” ص25، فهنا لا نجد جمال للمكان، ولا نجد له حيوية كما هو الحال في فلسطين، فبدا وكأنه كائن جامد، يتعرض للأذى دون أن يكون له قوة الرد على المشوهين: “وجوه غريبة”، ولم يستطع منح القوة/الطاقة لأهله “الحلبي”. وهذه المفارقة بين قوة المكان الفلسطيني وضعف الأماكن الأخرى والتي نجدها أيضا في الصين في قصة: “حدث في الصين” والتي تتحدث عن مآسي الصينيين: “…أرادت أن تحكي عن أيام الجوع والبرد، عن الخوف والقهر، والاغتيالات والإعدامات العشوائية” ص35، فالصين التي تعد من الدول الكبرى في العلم، يعيش مواطنوها حياة بؤس وقهر وجوع وقمع، لا تختلف عن أي دولة مستبدة من دول العالم الثالث، من حيث قهر المواطنين. أما أمريكيا ومدينة “نيويورك”؛ المدينة الأهم تجاريا في العالم، يحدثنا عنها القاص بهذا الشكل: “…لكنها المدينة التي تجد فيها كل شيء، المال والأعمال والصفقات الكبرى، والخيبات الأكبر، الفقراء والمشردين… “ويليام جون” صحفي مغمور، أتى من الأرياف، سكن قاع المدينة، حلم بالشهرة، لكن المدينة على اتساعها سحقت موهبته” ص46، فحتى الأماكن/المدن (العظيمة) لا يجد فيها الإنسان جمال أو راحة، بل ضغط وقهر وفقدان للأمل. يمكن أن يقال أن هذه القصة تتحدث عن مدينة لا يوجد فيها مكان إلا للأقوياء، ولا مكان للضعفاء فيها، هكذا هي أمريكيا، لكن ما بالنا إذا وجدنا “الطيار الإيراني” لا يجد الهناء والراحة حتى في دولة السويد أو النرويج التي تنعم بالرفاهية وتوفر لساكنيها ولمواطنيها كل متطلبات الحياة والرفاه: “مشكلة هذا المدينة لا تكمن في البرد الشديد، فيمكنك أن تتدثر خلف مدفأ، مشكلتها في صمتها الطويل، الناس هنا لا تحب الكلام” ص53، من خلال هذا المشهد وكذلك من أغلب قصص المجموعة يقدم القاص ـ بطريقة غير مباشرة ـ فكرة أن المكان في فلسطين، يختلف عن بقية الأماكن في العالم، فمهما سمعنا من حديث حسن عنها، تبقى أماكن جامدة لا حياة فيها ولا روح، فهي (تُعامل) من فيها بصورة قاسية، بحيث لا يجد فيها الألفة ولا التناغم، بينما في فلسطين يستطيع المكان أن يزيل قسوة جنود الاحتلال ويمنح الفلسطيني لمسة جمالية وهدوء متعة بحيث تتغلب وتتجاوز على ما يحدثه المحتل. هذا ما يحسب للقاص وللمجموعة القصص القصيرة. هناك رواية في الكتاب جاءت تحت عنوان “حسنين” وهي تتحدث عن “برعي” الذي سمى نفسه “الشيخ حسن” فالاسم يشير إلى المكان/مصر، وكيف استطاع “برعي” أن يصل من خلال الدين والتجارة إلى المراكز العليا في “سوهاج” وقد قدمت بطريقة سلسة وبلغة أدبية تخللتها اللهجة المصرية المحكية، حتى بدا للمتلقي أن كاتبها مصري، وهذا يحسب للرواية وللسارد الذي استطاع إقناع المتلقي بمصريتها. أما عنوان المجموعة “أساطير الأولين” فهي مجموعة من القصص تتناول أحداث قديمة، منها ما هو ديني ومنها ما تاريخي/تراثي، لكن تم تغريب الأحداث فيها، بحيث يتوقف القارئ عند ما جاء فيها متفكرا بالتغييرات التي أحدثها القاص. ففي قصة الطوفان مثلا قدمها بهذا الشكل: “لكن السفينة ظلت قابعة في مكانها، وركابها يزداد خوفهم، فأشاروا على “جوا” بأن يخفف من أحمالها، فبسبب وزنها الزائد تعجز عن الارتفاع والطفو، ومع الإلحاح وافق “جوا” على التخلص من المؤونة الخاصة بالحيوانيات… فتخلصوا من الثور… إلى أن تخلصوا من الخاروفين، وظلت السفينة محلها تأبى أن تتزحزح.. دخلت الأسماك من الفتحات الكثيرة، بدأت تلتهم الجثث الهزيلة حتى أتت عليها، ولم يبقى أمامها إلا تمثال الإله “دناندي”” ص240و241، فنحن نعلم أن عملية التغريب يُراد بها توقف المتلقي عند الحدث/القصة الحقيقة والقصة/الحدث المسرود، والمراد/القصد من ورائهما. المجموعة من منشورات مكتبة كل شيء، حيفا، الطبعة الأولى 2020.