التنظيم المختل للانفعال Emotional Dysregulation
ترجمة وتحليل: د. محمد السعيد أبو حلاوة أستاذ الصحة النفسية المشارك، كلية التربية، جامعة دمنهور
Psychological Care and Healing Center (2021)
أولاً- رؤية عامة:
تنظيم الانفعال عملية معقدة تتضمن: المبادأة، الكف، وتعديل الشخص لحالاته النفسية وسلوكه استجابة لمثيرات خارجية أو داخلية، وتتم هذه العملية على النحو التالي:
- وجود حدثًا داخليًا أو خارجيًا (التفكير في شيئًا ما محزنًا أو مواجهة شخص ما وهو في حالة غضب) يثير أو ينشط خبرة نفسية ذاتية (انفعال أو شعور).
- يعقب ذلك استجابة معرفية (فكرة أو تفكير) ترتبط باستجابة فسيولوجية لانفعال ما مثل (زيادة ضربات القلب أو زيادة الإفراز الهرموني).
- يعقب ذلك سلوكًا مرتبطًا بهذه الحالة (تجنب، فعل بدني أو جسماني، أو تعبير ما).
ويفهم تنظيم الانفعال في إطار ذلك بأنه تصويب الشخص لأفكاره وسلوكياته وتعبيراته عن انفعالاته ومشاعره في نطاق مقبول اجتماعيًا.
ثانيًا- ما المقصود بالتنظيم المختل للانفعال؟ What is Emotional Dysregulation؟
يشير مفهوم “التنظيم المختل للانفعال” عجز الشخص عن السيطرة على أو ضبط وترويض وتنظيم استجاباته الانفعالية ردًا على المنبهات أو المثيرات سواء كانت داخلية أو خارجية، وتعرف هذه المنبهات أو المثيرات بالأحداث المنشطة Activated events.
ويجدر الإشارة إلى أننا جميعًا قد نمر في وقت ما أو في موقف ما بخبرة التنظيم المختل لانفعالاتنا ومشاعرنا عندما نتعرض لأحداث منشطة لاستجابات انفعالية، إلا أن الأمر بالنسبة لبعض الناس وعلى وجه الخصوص من ذوي التاريخ السابق من التعرض للصدمات النفسية psychological trauma قد يكون هذا الوضع ذا طابع دائم ومعيق لهم فيما يتعلق بالقدرة على التوافق فضلاً عن ما يترتب على ذلك من تشويه أو إخلال جسيم بعلاقاتهم مع الآخرين وبأدائهم النفسي الوظيفي في الحياة اليومية، يضاف إلى ذلك أن “الاختلال في تنظيم الانفعالات والمشاعر” يمكن أن يؤدي إلى أو على الأقل الارتباط بالاكتئاب والقلق.
وعندما يعاني شخص ما من اختلال وعجز عن تنظيم انفعالاته ومشاعره ربما تكون ردود أفعاله الانفعالية تجاه التحديات البيئية وبين الشخصية مفعمة بشحنات انفعالية شديدة جدًا تعوق قدرته على التفكير ويندفع بموجبها نحو التعبير الانفعالي القائم على الغضب والهياج والصراخ والاتهام والسلوكيات ذات التي توصف بالعدائية ـ السلبية passive-aggressive behaviors، أو بخلق صراعات دائمة مع الآخرين.
ومن غير المستغرب أن يتشوه إدراك الشخص الذي يعاني من اختلال في تنظيم انفعالاته ومشاعره للواقع؛ ذلك لأن مثل هذا الإدراك في هذه الحالة يرتبط بما يعرف بالمسارات الحسية التي يحدث لها غلق أثناء فترة الانفعالية الشديدة أو رد الفعل الانفعالي المكثف والمرتفع.
وما يجدر التنويه إليه أن “الاختلال في تنظيم الانفعالي” عادة ما يكون ذات طابع علاقي بما يعني أن ينشط في سياق التواصل الشخصي القريب مثلما هو الحال في التواصل بعضو من أعضاء الأسرة، طفل، شخص محبوب أو أي شخص لديه قوة أو سيطرة على شخص آخر.
وتأسيسًا على ذلك فإن “التنظيم الانفعالي المختل” غالبًا يرتبط بما يعرف قضايا أو مسائل “التعلق issues of attachment” وإشكالياته، خاصة أساليب التعلق المبكرة early attachment styles مع مقدمي الرعاية للشخص والمقربين منه، فقد تكون أساليب التعلق عاملاً أساسيًا في إما قدرة أو عجز الشخص عن التعامل مع أو ضبط وتنظيم انفعالاته ومشاعره. فمقدم الرعاية الذي يرتكب سلوكيات سوء المعاملة أو الإهمال في حق الطفل له تأثير سلبي على قدرة ذلك الطفل على تنظيم الانفعالات والمشاعر.
ومن العوامل الأخرى ذات العلاقة المباشرة بالاختلال أو عدم الاختلال في تنظيم الانفعال ما يعرف بالأسلوب المزاجي للشخص “الطبع” style of temperament، والمزاج هذا عادة ما يعرف بأنه “نطاق من السمات الفطرية التي تحدد الأسلوب السلوكي الفريد unique behavioral style للشخص، وكيف يخبر العالم ويتفاعل معه. وقد ترتبط الأساليب المزاجية للفرد بسوء أو اختلال تنظيم الانفعال.
ثالثًا- ما أسباب التنظيم المختل للانفعال؟ What Causes Emotional Dysregulation؟
التنظيم الانفعالي المختل وغير التكيفي عرضًا مركزيًا في عديد من الحالات الانفعالية والمعرفية. وغالبًا يعد عرضًا في عديد من الاضطرابات النفسية والطب نفسية المتضمنة في الدليل التشخيصي الإحصائي الخامس للاضطرابات النفسية DSM-5 رغم ما يعتري مثل هذه الفئات التشخيصية من قصور في التصوير المفاهيمي والتصنيفي لها.
ورغم ذلك تتضمن عديد من الاضطرابات النفسية والمشكلات النفسية “اختلالاً جوهريًا في تنظيم الانفعالات والمشاعر” ويعد هذا الاختلال خاصية مركزية فيها خاصة في بعض أنماط اضطرابات الشخصية، على سبيل المثال ما يشار إليه تحت اسم “اضطراب الشخصية الحِدية borderline personality disorder“، ربما يطلق أيضًا اصطلاح “اضطراب التنظيم الانفعال المختل emotional dysregulation disorder (EDD)“، اضطراب التنظيم الانفعالي emotional regulation disorder، اضطراب عدم الاستقرار الانفعالي emotional instability disorder، اضطراب اختلال تنظيم الاندفاع ـ الانفعالي emotion-impulse regulation disorder، أو اضطراب الشخصية غير المستقرة انفعاليًا emotionally unstable personality disorder.
من جانب آخر يعد اختلال تنظيم الانفعال ملمحًا مركزيًا في بنية نمط الشخصية النرجسية narcissistic personality type ونمط الشخصية الاستعراضية histrionic personality type.
كما عادة ما يلاحظ المعالجون النفسيين ملامح “التنظيم الانفعالي المختل” لدى عديد من مرتادي العيادات النفسية، فضلاً عن “الصدمة النفسية Psychological trauma” بما تتضمنه من اضطراب كرب ما بعد الصدمة post-traumatic stress disorder (PTSD) ربما تسبب اختلالاً جوهريًا في قدرة الشخص على تنظيم وضبط انفعالاته ومشاعره، فعادة يظهر ذوو ما يعرف بالصدمات المركبة أو اضطراب كرب ما بعد الصدمة عديد من مؤشرات الاختلال والقصور في ضبط وتنظيم الانفعالات والمشاعر مثل: الخوف الزائد والشديد، القلق، الغضب، أو التعاسة. وهذه المشاعر عبارة عن ردود أفعال لحدث صادم شديد وغالبًا مهدد للحياة يعاد التعرض له.
وتلاحظ مؤشرات الاختلال أو القصور في ضبط وتنظيم الانفعالات والمشاعر أيضًا بعد التعرض لما يعرف بالإصابات الدماغية الصادمة traumatic brain injury التي يترتب عليها تأذي دماغ الشخص خاصة ما يعرف باضطرابات الفص الجبهي frontal lobe disorders. إذ يحدث في الدماغ المتأذي أو المتضرر قصورًا في ضبط وتنظيم الانفعالات، فضلاً عن القصور في الانتباه، وتوجه الشخص إلى الاندفاعية، ونقص الاستبصار، ونقص القدرة على كف الذات، والأحكام المختلفة، والأعراض الاكتئابية.
رابعًا- ما مآل الاختلال في تنظيم الانفعال؟ What is the Prognosis for Emotional Dysregulation?:
القصور في ضبط وتنظيم الانفعالات والمشاعر جزءً من الخبرة البشرية، وكما أشير سابقًاـ يمكن أن نمر جميعًا في وقت ما من حياتنا أو في موقف ما من مواقف التفاعل بخبرة الاختلال أو العجز عن تنظيم انفعالاتنا ومشاعرنا، وقد يترتب على ذلك أن تصدر عنا سلوكيات مختلة تنظيميًا وتعكس نوعًا من العجز عن ضبط وتنظيم هذه السلوكيات، بل قد نعاني أيضًا من عدم القدرة على السيطرة على انفعالاتنا ومشاعرنا عند التعرض لأنساق إثارة شديدة ومفاجئة.
ورغم ذلك فإن المآل بالنسبة للأشخاص الذي يعانون من قصور أو اختلال في تنظيم انفعالاتهم ومشاعرهم يتوقف على مستوى شدة وعمق مشكلاتهم النفسية، الأمر الذي يلزم التأكيد على قوة وفاعلية العلاقة في العلاج النفسي وعلى وجه الخصوص العلاج بالتحليل النفسي psychoanalytic therapy فيما يتعلق بالتنقيب عن ما هو كامن في البنية النفسية العميقة لمن يعانون من هذا الاختلال.
ويوجد في المجال ما يعرف بالعلاجات القائمة على الصدمة trauma-based treatments مثل جماعات معالجة الانفعالات process emotions groups، جماعات الصدمة trauma groups، والتربية النفسية psychoeducation وهي صيغ تدخلات علاجية مفيدة في هذا المجال.
ويركز في العلاج النفسي بصفة عامة على تعليم مهارات تنظيم الذات إجمالاً، ومهارات التمثل العقلي أو العقلنة mentalization skills، واستثمار عديد من الأنشطة الخبرية الأخرى من اليوجا وتدريبات الآيروبكس aerobic exercise.
من جانب آخر يفتح “العلاج السلوكي ـ الجدلي Dialectical behavioral therapy (DBT)” على وجه الخصوص آفاقًا واعدة لعلاج ذوي التنظيم الانفعالي المختل من خلال مساعدتهم في تعلم تنظيم وإدارة أنفسهم.
خامسًا- مركز الرعاية والاستشفاء النفسي وعلاج الاختلال أو القصور في تنظيم الانفعال PCH Treatment Center and Emotional Dysregulation:
عندما يعاني شخص ما من اختلال في قدرته على ضبط وتنظيم الانفعالات والمشاعر تنشأ لديه وتتطور بالتدريج مشكلات نفسية يرتد تأثيرها السلبي على حياته اليومية وعلى علاقاته بين الشخصية والأسرية وعلى موقفه من نفسه وتصوره لها، ويجتهد الاختصاصيون النفسيين العاملين في مركز الرعاية والاستشفاء Psychological Care & Healing Center (PCH) في تقديم علاجات نفسية مثبتة بالدليل في هذا السياق.
وفيما يتعلق بالغضب والغيظ والحنق والتوتر والحزن أو التقلبات الانفعالية الشديد لا سبيل إلا بالتدخلات العلاجية المكثفة، وإذا اقترن الأمر بالاكتئاب والقلق تصبح الحاجة ماسة إلى الجمع بين العلاج النفسي والعلاج الطبي الدوائي عادة لمدة زمنية طويلة ليكون الهدف الأساسي في هذا السياق تحقيق مات يعرف بالاستقرار الانفعالي emotional stability وبتعلم مهارات إدارة الذات الانفعالية في سياق مواقف الشدائد والمشاق والمحن.
وعادة يؤكد في المركز عند التعامل مع الاختلال والقصور في تنظيم الانفعالات والمشاعر على الكشف عن الصدمات النفسية التي تكمن وراؤه، ومن ثم تقديم العلاجات المرتكزة على الصدمة trauma-based therapies.
من جانب آخر يعد العلاج النفسي تحليلي العلاقي Relational psychoanalytic psychotherapy “التحليل النفسي العلاقي” حجز الزاوية في علاج الاختلال في تنظيم الانفعالات والمشاعر في اتساق مع العلاجات الجسمانية somatic therapies (الخبرة الجسمانية، العلاج الحس ـ حركي، والعلاج بإزالة التحسس واعادة المعالجة بحركة العين Eye Movement Desensitization and Reprocessing EMDR)، والعلاجات القائمة على التعقل أو العقلنة والتصوير العقلي mentalization-based therapies، ,العلاج السلوكي ـ الجدلي dialectical behavioral therapy.
المصدر: