إسرائيل ورُهاب حقوق الإنسان

نهاد أبو غوش | فلسطين

 

 في ظاهر الأمر، تبدي إسرائيل استخفافَها بالمؤسسات الدولية وبقراراتها، وذلك يسري على هيئات الأمم المتحدة، والمنظمات المتخصصة المرتبطة بها، كما على مختلف المنظمات الإقليمية والدولية، إذ يعلن المسؤولون الإسرائيليون جهارا نهارا، بأن قراراتِ الهيئات التي تمثل المجتمع الدولي لا تعنيهم ولا تلزمهم بشيء. وعقبَ كلّ قرار يدين إسرائيل، يسارع ممثلوها وقادتُها إلى إطلاق تصريحاتٍ مكررة ونمطية بأن هذه المؤسسات معاديةٌ للسامية، وبأنها محكومةٌ بنمط من التصويت الميكانيكي والأغلبية الجاهزة مسبقا، حيث تنحاز الدولِ العربية والإسلامية، و معظمُ دولِ العالم الثالث للفلسطينيين والعرب وتواصل إدانتَها لإسرائيل، وتصل الصفاقة ببعض المسؤولين الإسرائيليين إلى تمزيق هذه القرارات على الملأ، واتهام الهيئات الدولية بأبشع الأوصاف.

هذا في الظاهر، أما عمليا فإن إسرائيلَ تعمل في الخفاء ما هو معاكس للسلوك الاستعلائي المتغطرس الذي يبديه مسؤولوها، وقد ثبت أثناء عمليات التصويت التي جرت في السنوات الأخيرة بأن إسرائيل تبذل جهودا استثنائيةً، لكسر ما كانت تسميه الاصطفاف الميكانيكي ضدها، وتحاول إحداث اختراقات في جبهة الأصدقاء التاريخيين لفلسطين، لاستمالة بعض الدول، عبر استخدام وسائل الإغراء والتهديد، بالرشاوى والمساعدات ووعود التوسط لدى الأميركيين لدفع بعض الدول المؤيدة تاريخيا للحق الفلسطيني إلى تغيير مواقفها أو الامتناع عن التصويت في الحد الأدنى.

من أهم ما كشفته وسائل الإعلام العبرية مؤخرا، التعميم الذي أصدره مسؤول قسم المنظمات الدولية في وزارة الخارجية الإسرائيلية لإطلاق حملةٍ تهدف إلى نزعِ الشرعية عن لجنة التحقيق التي شكّلها مجلسُ حقوقِ الإنسان التابعُ للأمم المتحدة، للنظر في الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل خلال اعتداءات شهر ايار/ مايو الماضي والتي قد ترقى لجرائم حرب بحسب ما قالت ميشيل باشليه مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وتهدف الحملة إلى التعتيم على هذه اللجنة وابتزاز أعضائها ومنع قراراتها أو تأخيرها.

وصف بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء السابق قرارَ تشكيلِ لجنة التحقيق في حينه بأنه “مخزٍ ويعبّر عن هوسِ المجلس” المعادي لإسرائيل، وتعهدت حكومته بمقاطعة اللجنة المذكورة وعدم التعاون معها. وسبق لإسرائيل أن قاطعت لجانَ تحقيقٍ دوليةٍ سابقة في جرائمَ منسوبةٍ لها، أو وضعت عقباتٍ كأداءَ أمام لجان التحقيق من قبيل حظر دخول اعضائها أو بعضهم للبلاد أو للأراضي الفلسطينية المحتلة وبعض مناطقها بالتحديد، فضلا عن العبث بالأدلة، ومنع اللجان من مقابلة ضباط وجنود الجيش الإسرائيلي.

ويبدو أن إسرائيل قلقةٌ فعليا هذه المرة من اللجنة التي شكّلها مجلسُ حقوق الإنسان لعدة أسباب من بينها حساسيةُ إسرائيل المفرطة تجاه كل مفاهيم ومبادىء حقوق الإنسان خشية أن يمتد هذا التعبير ليشمل الفلسطينيين سواء كانوا من حملة الجنسية الإسرائيلية من مواطني المناطق المحتلة عام 1948، أو من مواطني الضفة بما فيها القدس وقطاع غزة. لأن أكثرَ ما يقلق دولة تبني نظاما للفصل والتمييز العنصري لصالح مجموعة بشرية وعلى حساب مجموعة أخرى هو الحديث عن حقوق الإنسان التي لا يمكن أن تقتصر على فئة من الناس دون أخرى، وهذا الموقف المعادي لحقوق الإنسان يشمل المنظمات الإسرائيلية مثل “بيتسيلم” وجمعية حقوق المواطن، و”ييش دين” وينسحب الأمر بالتأكيد على منظمة “عدالة” المعنية بحقوق الأقلية العربية في إسرائيل.

عادة ما يجري تصنيف منظمات حقوق الإنسان في إسرائيل على أنها هي وقوى اليسار تصطف دائما ضد إسرائيل لمجرد انتقادها لسياسات الاحتلال. ويكاد هذا الموقف المعادي لحقوق الإنسان أن يمثل موقفَ إجماعٍ لدى القوى الصهيونية بما في ذلك المؤسسات والهيئات القضائية والحقوقية التي يقوم كلّ عملِها أصلا على تعميم الحقوق على البشر، يقتبس الكاتب أنطوان شلحت مقولة للقاضي آشر غرونيس الذي شغل منصب رئيس المحكمة العليا في إسرائيل، بأن حقوق الإنسان يجب ألا تفضي إلى ما وصفه ب”الانتحار القومي” وكان يقصد المساواة في الحقوق بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

أما موقف دولة الاحتلال من منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية، فهو أقرب لإعلان الحرب المفتوحة كما جرى عند تصنيف المنظمات الست على أنها منظماتٌ إرهابيةٌ بزعم علاقتها بالجبهة الشعبية، وهكذا فإن موقف إسرائيل من اللجنة التي شكلها مجلس حقوق الإنسان هو امتداد للرُهاب (الفوبيا) من أية إشارة أو موقف أو بيان يقضي بأن للفلسطينيين حقوقا مدنيةً وسياسيةُ مثل بقية الأمم والشعوب.

من الأسباب التي تدفع إسرائيل للقلق شمولُ التفويض الممنوح للّجنة، مهمة التحقيق في شبهات التمييز العنصري ضد المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل ارتباطا بما جرى في أحداث شهر أيار، وهذه سابقة بالغة الأهمية ينبغي البناء عليها. كما يتزايد شعور إسرائيل بالقلق بسبب ربط التحقيق بما يتردد في تقارير كثير من المنظمات المحلية والدولية عن ممارسات الفصل والتمييز العنصري ( الأبارتهايد) وهو ما يمكن ان يوسع دائرة الإدانة والمقاطعة، ويؤسس في المستقبل لعقوبات جدية لا يمكن للحماية الأميركية أن تواصل حمايتها لإسرائيل من دون أن تترتب على ذلك مشكلات جدية في المجتمع الأميركي الحساس لقضايا الفصل والتمييز العنصري.

من المؤكد أن الطريق لإدانة إسرائيل وإنصاف الضحايا الفلسطينيين ليست سهلة ولا هي مفروشة بالورود والتعاون والتسهيلات، لكن التحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية وممارسات الفصل العنصري، يمثل منحى جديدا وليس مجرد بيانات وكلام في الهواء كالذي اعتدنا على سماعه على مرّ العقود، ويمكن لنا أن نستفيد من هذا الاتجاه شريطة تكامل أشكال نضالنا وعملنا السياسي والدبلوماسي وخطابنا مع هذا الاتجاه، كما أن ما يمنح خطابنا بشأن حقوق الإنسان مصداقية هو أن يكون أداؤنا الداخلي في مجال الحقوق والحريات العامة والديمقراطية الداخلية، منسجما مع قواعد ومعايير حقوق الإنسان العالمية، لا أن نطالب إسرائيل باحترام حقوق الإنسان الفلسطيني بينما ننتهكها نحن يوميا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى