ونحن نحبك يا تونس
الأسير كنعان كنعان | اسم مستعار لأسير فلسطيني يقضي حكماً بالسجن المؤبد مدى الحياة
كم من آهاتٍ شقّت سكون الليل، وكم من الآلام عبرت حجرات القلب، ثم طاب لها المَقام هناك، فلم تُبارحه، كم من صرخات مكتومة انفجرت في الأحشاء، ولم تجد آذاناً تسمع أو قلباً يُشاركها ثِقل المصيبة، وكم من قريب بالهوية والاسم والدم تخطاك، ذكرى داسها بالهجران، وحاضراً بال عليه وفَجَر، وكم من بعيد بالمكان لا زلت عليه أقرب من رمشة قلب، من حبل الوريد، أعادوا دفق الحياة في شرايينٍ ذبلت، في صحراء البُعد وقيد الجفاء، إلى من كللوا بالعطاء صباحاتنا المتعبة وجسّدوا معاني التماثل والالتصاق والتآخي والفداء، إلى تونس شعباً وثواراً وتُراباً وسماء.
“أناديكم وأشد على أياديكم وأبوس الأرض تحت نِعالِكم”. وكأني لأول مرة أسمعها، وكأنها صدمة إنعاش للقلب التعب، رعشة بالروح وقشعريرة بالجسد، نفضاً للنسيان والرّماد المتراكم على غُربتنا التي ثقُلت بأهلها في سجون الوطن وجور ذو القربى، حينما قالها فريق بعث الرقاب الرياضي التونسي، فلم يُفاجئني أنهم اتخذوا من الكوفية الفلسطينية وألوان العلم الفلسطيني، وحتى حدود الوطن الجريح ليزيّنوا بها مراييلهم ولباسهم الرياضي الرسمي، فهذا ليس بغريب على تونس وشعبها الحبيب، بل وكانت عَبَراتهم تسبق عِباراتهم اتجاه القضية الفلسطينية وشهدائها وأسراها، الملبدة بالانتماء حد التُخمة والندى، كدالية البيت العتيق دافئة عليلة يتدلّى منها عناقيد الحنين، كتوتة الدار ظليلة وآمنة تدعو لتوتها كل الظامئين، عريشة ياسمين دمشقية نابلسية مُشبعة بعبق الحارات والتاريخ والرياحين، بل وأكثر عُمقاً من جذور شجرة زيتون في جبال رام الله التي بيعت، ضاربون في عمق الأصالة حتى نجمة كنعان، كالطلقات وهي تتلمظ في بيت النار ببارودة مقاتل في ساحة كمين، تنتظر لحظة الانقضاض على الحقيقة القاتلة، تعرف وجهتها في صميم القلب والشرايين…
أيها التونسيون صلّى لكم المكان، كنائسه ومساجده، فسحات عيوننا الدامعة، تراب الأرض، عرق الأجداد، والسنابل على بيادرنا المسلوبة، حتى حيواتنا الضيقة وأحلامنا التي لا تعرف الحدود، في زنازين وسجون العدو الصهيوني، أطفال مذبحة حي الدرج، في منافي الوطن المنسية، فقد اتسع ضيقها على صدورنا بحبكم، وكبرت وعلت هاماتنا في غياهب القهر بِكم، وقد أُحكمت الأغلال والقيود على حناجرنا بأصابعٍ من حديدٍ وشوك، فما من ليلِ حرمانٍ يدوم باليأس إلا وباغتته صباحاتكم تهزمه بالأمل والمحبة…
فهذه تونس، عن قضية شعبٍ كتب شهادات ميلادهم بالدم، ورُفعت شواهد قبورهم من عظامهم، تونس التي رفضت الوصاية الاستعمارية الفرنسية وكانت لهم بالمرصاد، بالمقاومة والتّصدي منذ الدخول الأول للقوات الغازِية بالعام 1881، وفرض معاهدة المَرسى على باي تونس عام 1883، وقد تزعّم حركة الرفض والمقاومة الشيخ محمد عثمان السنوسي الذي نفاه المحتل الفرنسي مع القادة الوطنيين علي بن خليفة وعلي بن عمّار والحاج الحوت وأحمد بن يوسف ومحمد كمّون، في المدن التونسية قابس والقيروان والقصرين وقفصة وصفاقس وقسطينة وغيرها، ليتسلّم الراية تلاميذهم في المقاومة والفداء أمثال الشيخ عبد العزيز الثعالبي، الذي قاد حركة الشباب التونسي والتي عملت على بث الوعي الوطني والقومي العربي والتنديد بالإجراءات القمعية والسياسية الفرنسية، حيث انتشرت الجمعيات الحاضنة للجماهير وللبرنامج الوطني التحرري التي تزعمها قادة الحركة الوطنية أمثال البشير صِفر وسالم بو حاجب وغيرهم، وكان من أبرز تلك المحافل الوطنية الجمعية الخلدونية عام 1886، ومؤتمر الجمعية الجغرافية في تونس عام 1904، جمعية قدماء الصادقية عام 1905، جمعية تونس الفتاة عام 1909.
وحين يقف الوطن بكامل جلاله أمام ناظر الأحرار، لا تمتلك إلا أن تنحني لتقبل أقدامه، تضحية مستمرة وعطاء منقطع النظير، حيث كانت لتلك التنظيمات التونسية الدور البارز في النضال الشعبي والمقاومة الفاعلة وانتفاضات عام 1911 شاهدة، وكان أشهرها انتفاضة الجلّاز، وانتفاضة إلتزام، وظلّت تونس وثوارها صامدين في وجه البطش والهيمنة الفرنسية ولم يغفل التونسيون الأحرار الجانب الثقافي والتعبوي والتي نشهد آثاره إلى اليوم في دحر المُحتل والإحساس بالمسؤولية اتجاه القضايا العربية القومية، فأصدروا عدّة صحف في حينه، منها الرشيديّة والزهرة والتونسي، واشتدت المقاومة ودعمت الليبيين بالسلاح والذخيرة في مقاومة الغزو الإيطالي.
وكان الشعار إلى التحرير حتى لو بُذل الغالي والنفيس في سبيل الوطن، فعقد الحزب الحر الدستوري التونسي في العام 1933، في الوقت الذي أمعن المستعمر الفرنسي في الإبادة للسكان والتمثيل بجثث قادة المقاومة الطاهرة الذين أذاقوه الويلات ولقّنوهم درساً بأن هذه الأرض عربية عصية على الغزاة والمحتلين، حيث عَمَد المُحتل الفرنسي على قطع رؤوس هؤلاء القادة العظام وأخذها إلى متاحفه كتذكارات، ولكن هذا الفعل الفاشي لم يُطفئ جذوة المقاومة، فظهرت رداً على ذلك المزيد من الحركات الوطنية والقومية المقاتلة، وكان من أبرزها الحركة الوطنية بزعامة الحبيب بورقيبة، حتى الحرب العالمية الثانية وما تلاها، واستمرت المقاومة بالحديد والدم إلى أن نال الشعب التونسي استقلاله في العام 1956، إلى اعلان الجمهورية التونسية المعاصرة في العام 1957 والتأكيد على دعم القضية الفلسطينية واعتبارها قضية التونسيون والعرب والمسلمين، كما جاء في الدستور التونسي.
إلى ثورة الحرية والكرامة ثورة 17 ديسمبر، ثورة الأسطورة محمد بوعزيزي الذي أضرم النار بجسده احتجاجاً على الظلم والفساد، إثر مصادرة عربة رزقه من قِبل الشرطية القاتلة فادية حمدي، وهبّت الجموع الغفيرة بالانتفاض والثورة حتى أسقطوا حكم زين العابدين بن علي، فهذا الشعب لا يعرف إلا طريق الحرية والإباء، من أصغر زهرة تونسية إلى الزلزال الانتخابي قيس سعيد، عنوان الدعم والمؤازرة لكل المظلومين والمقهورين وعلى رأسهم الشعب الفلسطيني وأسراه، وتأكيده المستمر أن القضية الفلسطينية من الثوابت الدستورية التونسية، لم يتم ولن يتم التنازل عنها مهما كلّف الثمن وتعاظمت الضغوط الصهيوأمريكية، ومهما بلغت المغريات، وعدم لحاقه بركب المطبعين والمتخاذلين والأغنام…
نقسم أيها التونسيون أننا في الأسر لبسنا أسماءنا، أحراراً وشهداءً وأبطالاً بكم، وأننا بصقنا بملئ فينا على من سقطوا بامتحان الرجولة والشرف سقوطاً مدوّياً، وتركونا لأنياب السّجان الصهيوني تنهش أعمارنا وتقرض أجسادنا وأحلامنا، وعلى كلّ من يحاصرنا بدُريهمات قوتنا، يتاجر بدمنا ويتشدّق بحفظ أسمائنا هذا إن حفظها على وسائل التواصل والتزبيط، يُنكر محرقتنا ويقول إنه منّا ومعنا، لا نطالب صدقة من أحد وحبكم أيها التونسيون والأحرار وحب فلسطين يكفينا…
نقسم أيها التونسيون أننا نحن من نناديكم ونشد على أياديكم ونبوس الأرض تحت نِعالكم، فمهما استطاع الليل أن يُمعن في الاستطالة لكنه لا يمكن أن يمنع قدوم الفجر، إلى أن ألتقيكم أُعانقكم وأُقبل جباهكم، لا تفقدوا الأمل، أحبكم…