فقهاءُ السلاطين: طاعة الحاكم بَرّا كان أو فاجراً

حسام عبد الكريم | كاتب و باحث من الأردن

 

عادة ما يوحي مصطلح “من فقهاء السلطان” بمضمون سلبي جداً تجاه رجل الدين الذي يُنعتُ بهذا الوصف. فهو يوحي بأن ذلك “الفقيه” قد جعل ولاءه للحاكم وسخّرَ نفسَهُ وعِلمَهُ لخدمة السلطان القائم ولو على حساب الدين نفسه. والمصطلحُ ذاته يوحي ايضاً بأن “الفقيه” ذاك قد خالف الشرع وخان الامانة حين جعل من نفسه وسيلة يستعملها السلطانُ الظالمُ للحصول على غطاء شرعيّ مزيّف لحُكمِهِ الاستبداديّ وسلوكِهِ الفاسد.

وذلك كله صحيح, وهو سبب الكراهية الشعبية الواسعة النطاق لذلك النوع من “الفقهاء” . فالناسُ تزدريهم وتمقتهم , بقلوبها على الأقل إن لم يكن بألسنتها وأفعالها.

ولكن يوجد إشكالٌ هنا. والإشكالُ يكمن في ما أسمّيه ” أحاديث الطاعة العمياء ” ! فهناك عددٌ كبير من الأحاديث النبوية التي هي ببساطة تطالب المؤمنين بطاعة السلطان – بدون قيود, ومهما كانت الظروف .

ومن تلك الأحاديث:

عن عبادة بن الصامت قال : ” دعانا النبي (ص) فبايعناه. فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا و وعسرنا ويُسرنا, وأثرة علينا, وأن لا ننازعَ الأمرَ أهلَه, إلاّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان” – صحيح البخاري كتاب الفتن.

وأيضاً ” مَن كره من أميره شيئا فليصبر فانه مَن خرج من السلطان شِبراً مات ميتة جاهلية” – صحيح البخاري كتاب الفتن.

وروى أبو هريرة أن النبي (ص) قال ” مَن أطاعني فقد أطاع الله. ومَن يعصِني فقد عصى الله. ومن يطع الأميرَ فقد أطاعني, ومَن يعصِ الأميرَ فقد عصاني” – صحيح مسلم كتاب الإمارة

وروى البخاري ايضا في كتاب الفتن , عن عبد الله ” قال لنا رسول الله(ص) : إنكم سترونَ بعدي أثرة وأموراً تنكرونها. قالوا : فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال : أدّوا إليهم حقهم وسَلوا الله حقكم”

وروى مسلم في كتاب الامارة عن رسول الله (ص) انه قال “يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي, ولا يستنّون بسنّتي. وسيقوم فيهم رجالٌ قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال : قلتُ : كيف أصنعُ يا رسول الله إن أدركتُ ذلك؟

قال : تسمع وتطيع للأمير وإن ضرَبَ ظهركَ وأخذ مالكَ, فاسمع وأطِع”

فما معنى هذه الأحاديث؟

الظاهرُ من هذه الاحاديث ان المسلم مطلوبٌ منه أن لا ينازع السلاطين, مهما صدر منهم من بغي وظلمٍ وفساد, إلاّ إذا رأى الكفرَ البُواح!

وبما أنه لا يمكن تصوّر أن يأتي حاكمٌ لبلادٍ إسلامية ليقول علناً عن نفسه بأنه كافر, فالنتيجة تكون أن على الفرد المسلم طاعة الحاكم على الإطلاق.

والمطلوبُ من المسلم أن لا يثورَ ويتمردَ, مهما حصل, وأن يكتفي بالدعاء إلى الله أن يهدي الحكام إلى الحق.

والمسلم المثالي هو المطيع للحاكم, الخاضعُ لأمره, المخلصُ له.

وعلى المسلم الصبر , لا أكثر, في مواجهة ما يراه من غَصبٍ للحقوق وظلمٍ للعباد.

استغلالُ هذه الأحاديث:

وطبعاً كانت هذه الأحاديث ذخيرة مهمة لكل مَن شاءَ أن يُنظّر لمهادنة الحكام والتبعية لهم.

فقد روى الشيباني في السير الكبير ” وعن جماعةٍ من الصحابة رضوان الله عليهم قالوا : إذا عَدلَ السلطان فعلى الرعية الشكر. وإذا جارَ فعلى الرعية الصبر, وعلى السلطان الوزر”.

وبالتالي كان موقف فقهاء السلطة وفتواهم للرعية هو بالسمع والطاعة لأولي الأمر كان مَن كانوا, برّهم وفاجرهم. ومَن خرج على إمام من أئمة المسلمين وقد كان الناس اجتمعوا عليه وأقرّوا له بالخلافة بأي وجهٍ كان, بالرضى أو بالغلبة, فقد شقّ هذا الخارج عصا المسلمين وخالف الآثار عن رسول الله (ص). فان مات الخارج عليه, مات ميتة جاهليّة. ولا يحلّ قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحدٍ من الناس. فمَن فعل ذلك فهو مبتدعٌ , وعلى غير السنة والطريق.

فمن اغتصب الحكم, بالقهر والغلبة, أو بأي وسيلة أخرى, أصبحَ حاكماً شرعياً على المسلمين طاعته, وبإخلاصٍ, مهما فعلَ وعمِل ما دام يُظهر الإسلام.

وقال ابن تيمية في منهاج السنة:

” أهل السنة يخبرون بالواقع، ويأمرون بالواجب، فيشهدون بما وقع، ويأمرون بما أمر الله ورسوله، فيقولون هؤلاء هم الذين تولوا، وكان لهم سلطان وقدرة، يقدرون بها على مقاصد الولاية ، من إقامة الحدود ، وقسم الأموال ، وتولية الولاية ، وجهاد العدوّ، وإقامة الحج والأعياد ، والجُمَع وغير ذلك من مقاصد الولاية ….

ومن المعلوم أن الناس لا يصلحون إلا بولاة ، وأنه لو تولى مَن هو دون هؤلاء من الملوك الظلمَة لكان ذلك خيراً من عدمهم ….

كما يقال ستون سنة مع إمام جائر خيرٌ من ليلة واحدة بلا إمام… والناس لا يمكنهم بقاء أيام قليلة بلا ولاة أمور ، بل كانت أمورهم تفسد… فأهل السنّة يقولون: الأميرُ والإمامُ والخليفة ذو السلطان الموجود ، الذي له القدرة على عمل مقصود الولاية.

ويقولون أنه يُعاون على البر والتقوى ، دون الإثم والعدوان، ويُطاع في طاعة الله دون معصيته ، ولا يُخرَجُ عليه بالسيف ، وأحاديث النبي (ص) إنما تدل على هذا… فجعلَ المحذورَ هو الخروجُ عن السلطان ومفارقة الجماعة, وأمرَ بالصبر على ما يُكره من الأمير, لم يخص بذلك سلطاناً معيناً ولا أميرا معينا ولا جماعة معينة”.

إذن كيف نحاجج فقهاء السلاطين؟

لا بد اولاً من الاعتراف بان “فقهاء السلاطين” لديهم حُجة. بل وحجّة قوية ايضاً. فهم يرجعون الى أحاديث نبوية موجودة في صحيحي البخاري ومسلم لتبرير موقفهم المؤيد للحاكم . ورأينا كلام ابن تيمية.

وللرد على دعوى هؤلاء الذين يتخذون تلك الاحاديث ذريعة للارتماء في احضان الملوك والحكام نقول :

أولاً: لا بد من اخذ مناسبة صدور الحديث بعين الاعتبار , وتدبرها قبل التعميم في الحكم. إذ ربما تكون بعض تلك الاحاديث التي تحض على طاعة الامير وتشدد عليها قد صدرت أثناء توجيه الرسول لبعض بعثاته الحربية وسراياه التي كانت تنطلق لمواجهة قريش أو غيرها من قبائل العرب. فيكون الكلام عندها لعامة الجنود المسلمين بضرورة طاعة القائد المعيّن عليهم “الامير” حتى لا يحدث شقاقٌ وخلافٌ داخل صفوف الجيش أثناء المعركة. فالتشديد على الطاعة عندئذ امر ممكن فهمه خاصة وأن العرب قبل الاسلام كانوا قبائل متفرقة ولم يعرفوا الانضباط والتنظيم المركزي.

ثانياً: مجرد وجود تلك الاحاديث في صحيح البخاري أو مسلم لا يعني بالضرورة حتمية صدورها عن النبي. فالاحاديث ليست قرآناً بل ان جمعها وتصنيفها كان جهدا بشرياً يجوز عليه الخطأ والزلل والنقص. وليس في ذلك انتقاصٌ من البخاري أو مسلم , بل انهما بذلا جهداً فائقاً لانجاز صحيحيهما يُقدّر لهما ويُحمدان لأجله. ولكن لا يجوز ادعاء الكمال لهما.

ثالثاً: اننا نلمحُ أصابع الحكام وبصماتهم في إخراج تلك النوعية من احاديث الطاعة العمياء. فليس هناك ما يمكن لهم أن ينسبوه الى الرسول لتثبيت حكمهم الظالم أفضل من هذه الأحاديث ! وأنا أشير بالتحديد الى ملوك بني امية الذين استولوا على الخلافة بالقوة والقهر, وذلك بعد فترة الخلفاء الراشدين مباشرة, فحوّلوا الاسلام الى مُلكٍ عضوض , واستمر حكمهم بحدود 90 عاماً.

وفي كل زمان وُجد اتباع السلاطين الذين لا هم لهم الا الدفاع عن اولياء نعمتهم فلم يتورعوا حتى عن تفصيل الاحاديث على مقاس الحاكمين من اجل إسكات كل منتقديهم على أساس أن تلك هي إرادة الله ورسوله. وانا اسوق مثلاً صارخاً على ذلك من سنن الترمذي : فعندما انتقد الناسُ والي البصرة الاموي عبد الله بن عامر بن كريز, على لبسِه ما رقّ ولان من الثياب, خلافاً لرعيته, انبرى أتباع الوالي للردّ عليهم, على النحو التالي (النص) :

” … كنتُ مع أبي بكرة تحت منبر ابن عامر وهو يخطب وعليه ثيابٌ رقاق.

فقال أبو بلال : أنظروا إلى أميرنا يلبس ثياب الفسّاق!

فقال أبو بكرة : أسكت ! سمعتُ رسول الله يقول : مَن أهانَ سلطانَ الله في الأرض أهانه الله”

فالوالي , عبدالله بن عامر بن كريز, صار اذن سلطان الله على الأرض, ولا تجوز إهانته أو انتقاده!

ولكن كيف يمكن لملوك بني أمية ان “يتسللوا” الى صحيحي البخاري ومسلم؟ والجواب : ان الحكام, بذكائهم ودهائهم, كانوا حريصين على التواصل مع الذين يتصدون لرواية أحاديث النبي, لما لذلك من اهمية بالغة في الحصول على الشرعية وتثبيت أركان حكمهم. والحالة الابرز التي يمكن الاشارة اليها في هذا السياق هي الرواي المشهور محمد بن شهاب الزهري. فالزهري من أهم حلقات سلاسل رواة الحديث المعتمدين لدى البخاري ومسلم. وقد عاش في زمان بني امية وذاع صيته حتى قرّبه بنو امية ووثقوا صلاتهم به. وقد ذكر اهل التراجم وأصحاب التاريخ أن عدة خلفاء تعاقبوا على الاحسان اليه وتكريمه : فقد منحه عبد الملك بن مروان الأموال وأمرَه بالتفرغ للدراسة, ومن بعده عينه سليمان بن عبد الملك مستشاراً له, وبعد ذلك أصبح سميراً للخليفة عمر بن عبد العزيز, ومن ثم قاضياً ليزيد بن عبد الملك, إلى أن قربه هشام بن عبد الملك أخيراً وجعله مؤدباً لأولاده. وانا أرغب هنا في اثبات نص رسالة رائعة كتبها رجلٌ ناصحٌ الى الزهري لمّا ثارت حوله الشبهات بسبب ارتباطاته العميقة مع ملوك بني أمية , كما أوردها ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة:

” … فقد أصبحتَ بحالٍ ينبغي لمن عرفك أن يدعو الله لك ويرحمك.

… فقد أصبحتَ شيخاً كبيراً وقد أثقلتكَ نِعمُ الله عليك….

وليس كذلك أخذ الله الميثاقَ على العلماء. فإنه تعالى قال (لتبيّننّهُ للناس ولا تكتمونه) . واعلم أن أيسرَ ما ارتكبتَ , وأخفّ ما احتملتَ, أنك آنستَ وحشة الظالم, وسهّلتَ سبيل الغيّ, بدنوّكَ إلى مَن لم يؤدّ حقاً ولم يترك باطلاً حين أدناك.

اتخذوك – أبا بكر – قطباً تدور عليه رحا ظلمهم وجسراً يعبرون عليه إلى بلائهم ومعاصيهم , وسلّما يصعدون فيه إلى ضلالتهم. يُدخِلون بك الشك على العلماء , ويقتادون بك قلوبَ الجهلاء …. “

رابعاً : من حيث المبدأ لا يمكن التصديق أن النبي الذي أرسله الله ليهدي البشرَ وينير لهم دروبَ الحق, يمكن أن يوصي المؤمنين بقبول حكم القهر والظلم والفساد, لأن ذلك ضدّ النبوّة ذاتها .

وهناك احاديث نبوية اخرى أقرب الى القلب والوجدان, خلافاً لأحاديث الطاعة العمياء التي ذكرناها. ومن أبرزها ما رواه الترمذي في سننه من كلام للرسول يحثّ به على مواجهة الظالمين وعدم مداهنتهم :

” إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر “.

خامساً: وحتى القرآن الكريم ذاته يؤكد على ضرورة التبرّي من أعداء الله والتولي لأوليائه. وقد لعن الله سبحانه في القرآن الظالمين والكافرين والكاذبين والطغاة والجبارين. وقال عز وجل وهو يتحدث عن الذين يكتمون ما انزل الله من البينات والهدى “اولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون” .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى