المنهج القرآني في تناول التاريخ
محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري
تطورت الفكرة التاريخية حسب تطور الفهم البشري من مجرد عملية السرد والتأريخ لتتابع الأحداث إلى شكل أكثر تعقيدا من هذا وأعمق،وهو الارتقاء من الأسلوب السردي إلى الفهم والتحليل والتدقيق؛ والدروس والعبر؛ كما تنوعت المدارس التاريخية من مرحلة بساطة الحكاية إلى شكل النظرية ثم المنهج والأسلوب لكل نظرية؛ فالمدرسة السردية ثم التحليلية (استخلاص العبر والدروس) إلى المدرسة التأويلية (التأويل الرمزي): وهي التي تعني باعتبار أن كاتب التاريخ لا يخرج عن كونه أحد نماذج العنصر البشري الذي لا يستطيع التجرد الكامل أو الانسلاخ من واقعه أو نفسه، فيغلبطابعه البشري عليه، وقد تميل النفس به ذات اليمين وذات الشمال حين نظرته للأحداث وتسجيله للوقائع.. فلا يستطيع أن يكون الإنسان في النهاية إلا ذاته، فيرى ما يرى ويسجل قراءاته على حدث عاشه أو درسه من خلال هذه الرؤية وهذه الخصوصية، فهو لن يكون إلا بشرا يجري عليه قوانين الخطأ والصواب والميل والانحراف.
ومن خلال هذا الطابع البشري من الغضب والميل والتحيز والرضا والسخط، وبالتالي يتنزل كل هذا على طريقة المؤرخ في التناول أو التفسير أو التأويل للأحداث التي يعاصرها.. وربما يلجأ إلى لغة أقرب ما تكون إلى الرمزية للتعمية أو التورية على بعض ما يريد ذكره من أحوال الملوك والأمراء والسلاطين، ومثالب الأحوال والبلاد والأرزاق خوفا من بطش حاكم أو صاحب سلطة، وتحاشيا لحالة الصدام التي دائما ما يدفع فيها الكاتب أو المؤرخ من نفسه وحياته ثمنا باهظا، أو يجر عليهقلمه من الويلات ما قد يضيع به جهده أو عمره.
ولا تزال الدراسة البشرية والتناول لعنصر التاريخ يتراءى لها كل يوم جديد، ويتبدى لها من تراكم المعرفة وتكاثر الخبر ما تطلع به على علم ما لم تكن تعلم، والتزود من بصيرة الفهم والاستنباط والعلم ما يزيد ثراءها المعرفي، ويضيف إلى رصيد العقل البشري لينقله من مرحلة إلى مرحلة ومن درجة إلى أعلى منها، كما يقول (هيجل) “التاريخ البشري هو تاريخ تطور العقل ، وتطور وعي الإنسان بذاته وبقدراته ، وهو المسار الذي كافحت فيه الروح الإنسانية لكي تصل إلى حريتها.. فالتارخي ليس إلا تقدم الوعي باتجاه الحرية، إن كل مرحلة من مراحله تمثل درجة معينة من درجات الحرية . [فلسفة التاريخ].
أما التناول القرآني فيختلف كثيرا عن التناول البشري، فالمسافة بين الأسلوبين هي نفسها المسافة بين الخالق والمخلوق، بين ما هو مطلق وما هو نسبي، بين العلم المحيط والقائل الذي لا يعجزه أمر في الخلق شيئا، بل هو من أوجد الخلق ومن قدر أن يكونوا على هم عليه، ومن مكن لصاحب الملك والإمارة في ملكه وإمارته، ومن خلع على صاحب السلطان سلطانه.
ولذا فهو لا يتكلف ولا يتحرج مما قد يقع تحت تأثيره العنصر البشري فتأتي صياغته منتقصة أو مجتزأة أو مرموزة ثم تترك للقارئ دوره في التأمل والتفكر بعقل لاستنباط ما قد يرمي إليه المؤرخ من معنى لا يريد الإفصاح عنه.
وفي التناول القرآني لعنصر التاريخ لا نملك إلا أن نقطع بالمصداقية التي تعكس الحقيقة الكاملة، حيث التجرد كما بينا من كل ما يشوب العنصر البشري من نقص، وما يعتريه من زلل وسقط، ثم هو لا يقف على الأحداث بكامل تفصيلاتها إنما هو فقط يفصل حين يتحتم التفصيل، ويقصر حين يستحب القصر مع السلاسة والطلاقة والبلاغة والإتيان على العبرة والدرس بأحسن أسلوب ومن أيسر طريق .
وإذا كان التناول البشري يعتمد في تأريخه على التوثيق والتدقيق في المراجعة والدراسة للوثائق وتواريخها، ثم التعويل على درجة التصنيف لمصداقية الوثيقة ونزاهة الكاتب التي تقيس مدى الاعتماد على نصوصه والاخذ بها، أو نبذها حين يجرب عليه من أهل العلم التدليس أو الكذب أو الاختراع.
يكفينا السرد القرآني كل هذا الجهد من التوثيق والتدقيق ودراسة أحوال الكاتب وظروفه البيئية والاجتماعية إذ يبلغ كلام الله منتهى الغاية في التوثيق والتدقيق والتبيان، فهو الذي “لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد”، وهو الذي “وبالحق أنزلناه وبالحق نزل”، وهو الذي “ذلك الكتاب لا ريب فيه”، لا يرد علمه، ولا يستقصى خبره، ولا تأتي عليه الحوادث لتزيد من خبره أو تنقص، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تفنى من عبر التاريخ عجائبه ولا غرائبه، ولا يصل المفسرون لمنتهى علمه، ولا يقف البلاغيون على نهاية غرضه، ولا يفنى على كثرة الدرس والتأويل غريبه ولا عجيبه..
فالمنهج القرآني يجمع من مختلف النظريات التاريخية (السرد والتأويل واستخلاص العبر والدروس)، ويكفينا بطلاقة المصداقية والتوثيق البحث والتقليب في صحة المصادر؛ كما هو لا يقف على سنوات الحوادث إلا أن بذكر ترتيب الزمني (البعدي والقبلي) “ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين”، ” ثم أرسلنا رسلنا تترى”.. “وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة”.. “ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس”.. “ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات” ..
ثم يأتي القرآن بعد كل حدث ليذكر لنا بعد العبرة والموعظة وخطاب العقول والقلوب، واستدعاء روح الطبع البشري الذي من أصل فطرته الاعتبار بمثاله، والوقوف على ما جرى من خبر القرون الأولى .. يذكر القرآن عقيب كل حدث أو قصة تاريخية بعضا من سنن التاريخ وقوانينه التي لا تعرف التغيير ولا التبديل، ولا تتوقف أو تتأخر إذا ما تحققت حتمياتها، وتوفرت أسبابها فلابد من تحققها سواء كان ذلك مع أهل الكفر أو أهل الإيمان، وسواء كان من سنة الهلاك أو التمكين..
وأن هذه السنن لا يعجزها قوة ولا تحول دونها تحققها منعة من أموال أو كثرة في المال ولا في العدد “وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا”.
ينكر أصحاب النظريات التاريخية فكرة حتمية السنن وتكررها ك(هيجل) بحجة أن “الارتداد إلى الظروف المماثلة في الماضي للحكم على الحاضر على ضوء تلك الظروف ن لأن مصائر الشعوب والدول ومصالحها وعلاقاتها ونسيج شئونها المعقد في الحاضر يختلف أتم الاختلاف عن المصالح والعلاقات ونسيج الشئون في الماضي ” وبالتالي لا داعي إلى العودة إلى الماضي لأن التاريخ لا يكرر نفسه.. ” وهذا ما يخالف المنهج القرآني، وما سيتضح في مقال آخر.