ثلاث قصص قصيرة

د. حسام إلهامي | أكاديمي وقاص مصري

القصة الأولى.. مقتنياتٌ بشرية 

للمرة الأولى اصطحبها إلى الحجرة الغامضة المُطلة على حَديقة القصر العتيق. اليوم فقط وَثق بها، وسمح لها بأن تدخلها وتكتشف ما بها.  

تغص الحجرة بمقتنيات فنية باهرة الجمال وشديدة الغرابة في الوقت ذاته. شعرت وهى تتأملها أنَّ شيئًا ما يتلبس ذلك الجمال، فلا يجعله مكتملًا، أو يضفي عليه مسحةً من قبحٍ لم تستطع أن تدرك مبعثه. 

استوقفها أنَّ أغلب المقتنيات مصنوعة من جلدٍ متهدلٍ بني اللون، تتموج فوقه تعرجاتٌ كأنَّها تجاعيد. 

فاجأها قائلًا: مصنوعاتٌ جلديةٌ أصلية، تُحفٌ نادرةٌ صُنِعت من جلدٍ بشري، جلود أولئك الحُقَراء المختلفين عنَّا.  

كظمت القئ، بصعوبة استردته إلى معدتها. 

أكمل هو: 

بعد أن يتم التخلص منهم كانت تُسلخ جُلودهم، ويأتون بها إليَّ، فأصنع أنا منها تلك المقتنيات الرقيقة. كانت مهمتي إعادة تدوير القمامة البشرية البالية لأصنع منها الجمال.  

بعينين زائغتين هزت رأسها، تظاهرت بأنها ليست منهم، مبدية إعجابها الشديد.

ΠΠΠ

القصة الثانية.. كوبٌ من دمٍ 

لزمنٍ طويل يتمدد هاهنا بلا حراك، جَرَب أن يُحرك يديه بحريةٍ فتحركتا، حرك قدميه بحريةٍ، فتحركتا. دبت فيه قشعريرةٌ ونبضٌ من حياة، حرك إرادته بحرية، فَبُتِرت إرادته على الفور. حرك عقله بحريةٍ، فَقُطِعت الرأس، اندفع من موضع انفصال الرأس عن الجسد شلال دم ملأ الكوب عن آخره. بتلذذ ارتشف القابع بأعلاه، ثم طلب كوبًا من جسدٍ آخر. 

ΠΠΠ

القصة الثالثة.. نقطة وصول 

نظر من وراء قضبان حجرة المصحة. لم يعد يحزنه نعتهم له بالجنون. لم يعد يأبه بشحنات الكهرباء التي يسكبونها فوق رأسه حتى تشرف على التمزق. ما يعنيه الآن حيرته في عالم لم يختر القدوم إليه، ولا يفهمه، ولا يرحمه. لم ولن يفهم أحدٌ أنه نذر نفسه للبحث عن ذلك الشئ الذي لا يعلم هو نفسه ما هو. 

بينه وبين نفسه، وعلى قدر فهمه للأشياء أطلق على هذا الشئ “نقطة الوصول”. وصفها لنفسه بأنها تلك النقطة التي لا حيرة بعدها، لا فقد بعدها، لا ألم، ولا حُزن، ولا شقاء بعدها.  

صامتٌ شاردٌ حدث نفسه: لابد أن تلك النقطة من الكون موجودة، تتحرك نحوها كل الأشياء، وأنه هو نفسه يتحرك نحوها. مُحالٌ أن تتحرك الأشياء أو تجري الأحداث عشوائيًا دون هدف أو نقطة ما تصل إليها. مُحال أن تظل كل الأشياء تدور حول بعضها بعضًا في المكان ذاته. لا يعقل أن تقذف الأرحام بأجسادٍ تعيش لوقت قصير ثم تموت وتتحلل وتصير غذاءً للديدان كما حدث لأمه التي كانت دنياه وملاذه، قبل أن تُجبر على تركه، وترك الحياة، وترك جسدها يتعفن برغم احتفاظه به لأيام قبل أن يسلبه الناس إياه، ويودعونه قسرًا تلك المصحة.

بالمصحة اختار الصمت التام. لم ينطق بكلمة، تفرغ للتأمل. تشكك في كل ما قيل ويُقال. أرجأ إصدار الأحكام ريثما يتثبت عقله بدليل قاطع. ورغم ذلك لم يصل لشئٍ. جُن عقله أكثر، هرب من المصحة منطلقًا في الشوارع والطرقات رث الثياب ينام فوق الأرصفة، تطارده الصبيان في الأزقة ولا يتركونه قبل أن يتخضب وجهه بالدماء.  

استطاع الوصول إلى مكانٍ مهجور يُطل على الأفق، جلس فيه يستريح. عاود التفكير في الأمر أكثر. سأل نفسه: أتكون تلك النقطة زمان أم مكان؟ لم يظفر بإجابة لكنه استنتج أنها لاشك نقطة يعلمها عقلٌ سابقٌ على هذا الكون، بل هو من اصطنعها، وحرك عمدًا كل الأشياء نحوها دون أن يتحرك معها.   

ووسط دبيب اليأس والألام، وبينما كان يُقلب فكرةً ما في عقله وجد لأول مرة أن تلك الفكرة لم يتبعها أي سؤال. صمتت الأسئلة فجأة في رأسه. عرف حينئذٍ أنه قد وصل إلى التفسير الصحيح، ولكنه في اللحظة ذاتها شعر بأشياءٍ غريبةٍ؛ فقد توقف الزمن، وصار المكان فراغًا تامًا كأن الأرض قد عادت سيرتها قبل ظهور البشر. حتى ذاته وجدها قد تلاشت، ولم يتبق منها سوى موجات من ضوءٍ سابح بسرعة قصوى متجهًا نحو اللانهايات. يشعر بانتشاء جراء العلم بشئ ما، جراء الذهاب إلى نقطة ما، لكنه أيقن أيضًا باستحالة العودة كي يخبر أحدًا بما علم. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى