نظرات في منهج الدكتور محمود توفيق في تدبر آيات الصيام في القرآن الكريم
تحليل منهجي: رضا راشد – باحث بالأزهر الشريف
كلام الكبار.. فوائدجمة و منابع ثرة
مما هو معلوم من البديهة بالضرورة: أن الكلام يحمل سمت صاحبه، وأنه يفصل عن لسانه محملا بشيات، وطبائع، وسجايا، وعقل صاحبه . فكلام الكبير كبير، وكلام العاقل عاقل، وكلام الأحمق…إلخ. فجدير بك أيها العاقل أن تحرص على مخادنة كلام الكبار؛ سبيلا لأن تكون كبيرا مثلهم. ومغبونٌ من يطالع كلام الكبار تحصيلا لعلومهم فحسب، بل ليتخذ منه منهجا للفهم وأصولا للتدبر والاستنباط. ولقد استمعت اليوم لمحاضرة وجيزة لشيخنا العلامة حسنة الأزهر فضيلة الدكتور محمود توفيق سعد – حفظه الله – فكان لي منها منافع جمة وفوائد كثيرة منها :
(^) أنه حفظه الله في تدبره آيات الصيام لم يخلص إلى النظر فيها مباشرة، بل نظر إليها في إطار سياقها، فكان أن لاحظ أنها سبقت بقوله تعالى:《 يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى》، فالتقط مناسبة تربط بينهما؛ وهي أن الصيام لا يمكن أن يحقق ثمرته المرجوة منه إلا في بيئة آمنة تلك التي يحققها القصاص؛ لأن في القصاص حياة.
وشيخنا بصنيعه هذا يعلمنا أن تشابه النظم تركيبا وتوالى المعاني ترتيبا يقطع بأن ثمة علاقةً ما، بين ما تشابه نظمه وما توالت معانيه..ويبقى على المتدبر السعيُ في اكتشاف هذه العلاقة …ولقد أحسن الشيخ أيما إحسان في التقاط المناسبة بين المعنيين: (القصاص، والصيام)، وكنت أتمنى أن يمتد بنظره أيضا ليلتقط المناسبة بين آيات الصيام وآيات الوصية 《كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين》بل كان ذلك الأولى بالنظر؛ لأنها أكثر جوارا مع آيات الصيام، ولتشابه النظم أيضا – ولو بشكل أقل- مع آيات الصيام (كنب عليكم…) .. ولكن لعله أعجل ارتباطا بضرورة الوقت .
(^) مما تعلمته من فضيلته أيضا في هذه المحاضرة الماتعة، الربط بين ثمرات الصيام وأثره في النفس، وبين الأحداث العظام التي حدثت في فجر الإسلام في رمضان أثرا من آثار الصيام الجليلة،فقد ذكر شيخنا أن الصيام ينمي في النفس ثلاث صفات عظمى هي: المراقبة، والصبر، والتسامح،وتكلم عن كل صفة من هذه الصفات من حيث منبعها من الصيام وأثرها في النفس، فكان مما ذكره عن التسامح منبعا: قول النبي صلى الله عليه وسلم عن الصائم: “وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم” .
ثم ذكر مثالا على ذلك التسامح في أعلى صوره؛ وهو موقف النبي صلى الله عليه في فتح مكة (الذي كان في رمضان) من أهل مكة عندما أطلق فيهم عفوه الشامل: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، فدلنا بهذا على أن منبع هذا العفو الشامل -بكون فتح مكة كان في رمضان- يرجع فيما يرجع إلى أثر الصيام في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ..وقد عشنا ما عشنا ونحن نتوهم أن منبع هذا العفو إنما هو-فقط- ما تحلى به النبي صلى الله عليه وسلم من رحمة بأمته وشفقة عليها ،ولم نكن نلتفت لأثر لظرف الزمني الذي كان فيه هذا العفو، وهو كونه في رمضان!!.
فهلا استصحبنا هذا الفهم في الربط بين الأحداث العظام في فجر الإسلام وبين الصيام في النفس ربطا نرجع به إلى أثر الصيام في النفس أثرا أثمر ما كان من المسلمين الأوائل في هذه الأحداث.
(^) كان مما أفاض به شيخنا على مستمعيه أيضا من دقيق الفهم، حضُّه على التدبر لآيات القرآن الكريم تدبرا يثمر في النفس معاني الهدى، وكان مما توسل به الشيخ حضا للناس على التدبر: أن بين أن قراءة الحرف من القرآن قراءة تدبر مما يتعاظم به الأجر، فلئن كان ثواب القراءة المجردة السريعة للقرآن أن الحرف بعشر حسنات، فإن قراءة التدبر ربما يتضاعف معها الأجر إلى سبعمائة حسنة. وكأن رافده في هذا الفهم هو ما نصت عليه الأحاديث النبوية من أن الحرف من القرآن بحسنة، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وليس ثمة من معيار ظاهر يفرق به بين الحرف يقرأ من القرآن فيثاب عليه صاحبه بعشر حسنات ، والحرف يقرآ فيثاب عليه صاحبه بسبعمائة حسنة-إلا أن يكون هذا المعيار هو ثمرة التلاوة، وأنه لما كانت ثمرة التلاوة السريعة ضئيلة كان الأجر أقل، ولما كانت ثمرة قراءة التدبر أكثر كان الأجر أكثر.. وفي هذا مواساة للمتدبر الذي يظن أنه بالتدبر يبطئ القراءة فلا يقرأ من الكم ما يقرؤه السريع التلاوة، مما قد يدفع الناس إلى الحرص على القراءة السريعة دون قراءة التدبر؛ سعيا إلى تحصيل الأجر الكثير ،فكان فيما بينه الشيخ حفظه الله أن القارئ السريه وإن كان يزداد أجره على المستوى الأفقي بكثرة القراءة؛ فإن المتدبر يزاد أجره على المستوى الرأسي بكثرة الثواب على الحرف الواحد.
ولقد كان هذا غيضا من فيض أمتعنا به الشيخ في الجليل في حديث لم يتجاوز العشرين دقيقة ليدلنا بذلك على أن كلام الكبار كبير .