فيلم “سولاريس” للمخرج العالمي أندرية تاركوفسكي سينما الشعرية ومعرفة الذات الإنسانية

حميد عقبي | سينمائي يمني مقيم بفرنسا

فيلم “سولاريس” يضعنا المخرج السينمائي الشاعر أندريه تاركوفسكي في مواجهة مشكلة الفرد مع العلوم الحديثة والتكنولوجيا المتسارعة حيث أصبح الإنسان له المقدرة على ترك كوكب الأرض والهجرة بعيداً، في هذا الفيلم نرى هذا الرجل ونرى الحب لامرأة هي كل شيء (الحب والجمال) وهو يتعارك مع رفاقه الذين يسخرون منه ويؤكدون أن هذه المرأة ليست موجودة وأنها مجرد خيال ناتج من مناخ الفضاء فهم لا يؤمنون إلا بالمادي المحسوس الظاهر الفيزيائي ويعجزون عن فهم المشاعر والأحاسيس والقيم الجمالية.

هذه التجربة بعيداً عن الأرض وهذا المناخ المختلف حيث لا مطر ولا ريح ولا تربة ولا نار، عناصر الطبيعة الأربعة التي عشقها تاركوفسكي ووظفها لخلق شعرية مدهشة في جميع أفلامه، هنا البطل يدرك عزلته وبؤسه وأن هذا العشق مجرد وهم وهلوسة مرضية، لذلك هو لا يستسلم لهذا القدر ويريد أن تكون هذه المرأة حقيقية كونها بقية من الإنسانية التي تندثر.
أحداث الفيلم تدور حول كريس كلفن وهو عالم النفس يتم تكليفه بمهمة إرساله إلى محطة فضائية تدور حول كوكب تم اكتشافه يسمى (سولاريس) وبهذا الكوكب تنشط التخيلات الوهمية ولعلها ادت إلى إنتحار طبيب كان بمهمة فضائية ويرصد كريس التغييرات التي تحدث للطاقم وكذلك له حيث يصبح فريسة الخيالات الوهمية ويظل يهذي ويتحدث إلى امرأة خلقها خياله ليناقش قضايا وجودية وأخلاقية وجمالية، هنا اللأوعي يصبح متحرراً وتعود ذكريات الأرض ويشعر كريس بالحنين إليها فهي تتجاوز القيمة الفيزيائية.

في فيلم “أندرية روبليف” ترجم تاركوفسكي مدى حبه للماضي والعمق الروحي لروسيا وعبر عن غضبه ونقده للواقع والنظام الذي يسلب حق الفرد ويحوله إلى مكينة ضمن منظومة لا مكان فيها للحرية الفردية وقيم القداسة، هنا في هذا الفيلم يترجم المخرج قلقه ومخاوفه من المستقبل، حاول تاركوفسكي ببساطة تقوية ثقة الإنسان بقوته الداخلية والبحث عن عناصر تساعده للحفاظ على إنسانيته عبر الخلط بين الأزمنة، الإنسان يحتاج لمعرفة عمقه وروحه وقدراته وبذلك لن يخيفه المستقبل ولا يحتاج إلى إله يحميه ولا إلى خرافات قديمة تخدره.

الحب أقوى من الموت
نجد ملامح الحزن العميق وتفاعل ذكريات الطفولة كوننا مع أماكن خاوية هنا فلا شجر ولا مطر ولا طين ورغم ذلك تحضر هذه العناصر من خلال ذكريات البطل، يستعرض تلك اللحظات سقوط المطر على الطاولة حيث فنجان القهوة وهو كذلك يستسلم للمطر ليبلل جسده يغسل روحه، هنا أيضا رغم مادية المكان وضيقه ومحدودية المركبة الفضائية لا يتخلى تاركوفسكي عن شعريته السينمائية رغم نوع الفيلم وتصنيفه كفيلم خيال علمي، يحضر العالم الميتافيزيقي من خلال الحبيبة التي تدركه روح البطل وتحاورها، بذلك يغوص كريس مع العالم اللأمرئي ويندمج فيه، البحث عن السعادة والإطمئنان لا يمكن أن يكون دون عشق، نهزم الموت بالحب وحده، يضعف الإنسان وقد ينتحر عندما يفقد الحب أو يكفر به.

فصل العنصر الروحي للإنسان أو تهميشه لا يمكن أن تعوض المادة أو العلوم المادية البحتة لصناعة سعادة ولا يمكنها أن تلغي الحاجة للعاطفة والتفكير في الخلود، هنا نجد أشياء من الأرض كتلك اللوحة لصيادين بمنطقة ثلجية، يستعرض تاركوفسكي اللوحة ليعطيها الحياة كونه يؤمن أن الفن جزء من تركيبتنا الإنسانية ويحمل ملامح روحية وهو ليس صناعة للإستهلاك الوقتي بل لذة روحية مقدسة.

هنا العشيقة المتخيلة تختلف عن زوجة البطل التي انتحرت وكذلك العلماء الثلاثة على هذه المركبة يختلفون ولكل شخص طباع مختلفة وأفكار وقد تظهر لحظات يسودها العنف ولا يمكن أن نرى فيلم لتاركوفسكي يخلو من العدوانية وحالات الإضطراب وارتجاف الجسد أو تعرضة لصدمة قد تفقده وعيه.

نحن مع سينما شعرية تغوص في الذات الإنسانية وما بدواخلها من قلق وجودي ولسنا مع فيلم يناقش جغرافيا ومادة هذا الكوكب حيث كان مناسبة خلوة لتدرك الأرواح ما يعتريها من هواجس وأحلام وذكريات ونتقلب من مكان لا جاذبية فيه حيث الجسد كالريشة إلى الأرض بما فيها من حياة وألم.
فيلم “سولاريس” يعكس نزعة تاركوفسكي ورهاناته على الطبيعة والفن والتصوف ويدحض النظرة المادية للعلوم وأن تكون موضوعية مادية بحتة وخالية من المشاعر الإنسانية كون هذا الطريق يزج بنا إلى تعاسة أبدية ويحولنا إلى أدوات هشه قابلة للإنكسار والدمار، أخلاقية العلوم أمر مهم لتسخيرها في سعادتنا وليس العكس.
فيلم “سولاريس” بشحناته الميتافيزيقية يتجاوز الحكاية أو تقديم معلومات، نحن مع مواجهة الإنسان مع الله ورغم أن تاركوفسكي ملحد إلا أنه يعلم أن هناك من يؤمن به فالدين ثقافة وتراث حتى بالمجتمعات الملحدة أو الكافرة، هنا يؤكد المخرج على قيمة الحب وضرورتها في العلاقات الإنسانية وضمان ديموتها ويمتاز الفيلم بشعرية مدهشة أهلته للحصول على جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان كان السينمائي في عام 1972 وما زال مرجعا مهماً ومؤثراً إلى يومنا هذا.
تم ترميم هذا الفيلم في عام 2016 ، وتم إعداده بشكل جميل وأعطاه ألوانًا وسطوعًا تشوهت في النسخ القديمة، حيث نجد أنفسنا منغمسين في طبيعة سامية في بداية الفيلم ، ثم المرور عبر الممرات الباردة إلى محطة الفضاء. في كل مرة ، يحافظ تاركوفسكي على حساسية تفيض بالروح وتنتصر له مع عدم التنازل عن جماليات تاركوفسكية خاصة تتسم بالبساطة والروعة.
تاركوفسكي يعشق اللقطات الطويلة وهنا جهد فني وتقني يتطلب قدرات ومهارات غير عادية، فالكاميرا تعي ما تراه وتصوره؛ تنتقل من الوجوه إلى الأشياء، لتخلق ما يدور بذهن المخرج ولم يكن تاركوفسكي بالشخص السهل فالسيناريو يحوي تفاصيل دقيقة ومن يعمل معه يعرف طبعه وعدم تهاونه في أي صغيرة وهو يجلس مع كل ممثل وممثلة ليناقش فهم الشخصية وتعابير الوجه وكل حركة.
مع نجاح هذا الفيلم زادت متاعب تاركوفسكي مع النظام حيث صنفه البعض بصاحب توجهات وفكر غربي منتقدين نهجه لنصرة الذات وليس الجماعة وتم محاصرته وزرع العراقيل مما دفعه بعد سنوات للهجرة والغربة وترك الأرض التي يعشقها ويقدسها بجنون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى