وداعاً ما ركيز
سمير حماد | سوريا
منذ سبع سنوات في,17 /4 / 2014 غادرنا ماركيز (الأديب النوبلي) ساحر الرواية العالمية, ومؤسس رواية الواقعية السحرية؛ هذا الذي تخطّى الحدود العالمية جسداً وأدباً، والذي كان يقول باستمرار مباهيا بتنقّلاته (لن تجدوني صباحاً في أي مكان)… لغته وطنه الحقيقي .. أدبه وكلماته مكان إقامته الدائم والحقيقي… غابو الذي يصرّ على أن ثمّة أملا سيتحقق, ولن تبقى الحياة أسيرة الوهم.
استسلم غابو للملاك الأسود وهو في 87 من عمره، بعد أن خطّ أجمل المذكّرات (عشت لأرى) والتي بدأها بقوله: الحياة ليست ما يعيشه أحدنا, وإنما هي ما يتذكره, وكيف يتذكّره ليرويه….. ويحكيه..
لم تكن الواقعية السحرية (وهو كاتبها المميّز) بالنسبة له (وعاء أسطورياً أو خرافياً لمجازفات الروائي التخييلية, بقدر ماهي حقيقة ملموسة تفرزها تناقضات الحياة, في أمريكا اللاتينية, إذ تتناوب المعجزات والعجائب في فضاء واحد)؛ إذ (ليس الواقع مقتصراً على سعر الطماطم والبيض)؛ بل لا بدّ من دخول الفانتازيا لتثبيت وتمثّل الواقع بشكل أفضل، والعمل على تمازجهما كما فعل في الحب في زمن .
(لقد كنت مؤمنا على الدوام بأن الحب قادر على إنقاذ الجنس البشري من الدمار)؛ فهل ستجد هذه العبارة الخالدة لصاحب نوبل الشهير آذاناً صاغية؟
عاش ماركيز حياة بوهيمية متنقلاً بين اوروبا غرباً وشرقاً، وبين بلدان القارة الأميركية اللاتينية وبلغ نيويورك، هو المناضل الثوري الذي آزر حركات التحرر وواجه الثقافة الإمبريالية والكولونيالية، داعياً الى منح الشعوب المستعمرة حرياتها وحقوقها، وهاجياً القوى العظمى التي تهدد العالم بصواريخها النووية. كما أنه نجح أيما نجاح في التوفيق بين كونه كاتباً ملتزماً ومنخرطاً في النضال السياسي والإنسانوي، وروائياً متسامياً صاحب مخيلة ساحرة ونفَس ملحمي ونزعة تراجيدية تسائل ذاكرة التاريخ وعنف البشر ومأساة الحياة وعزلة الإنسان بصفتها قدراً مجهولاً وغامضاً. وكم كان موقفه جريئاً في إدانة المجازر التي ترتكبها اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني وفي توقيع بيانات الاستنكار العالمية في هذا الشأن …كما انه لم يترك لنا أن نسأله كيف لنا أن نعالج المبهم في ثروته الابداعية، ولا كيف سنكتب إلى شخوصه المولعة بالضوء، وليس لنا أن نشكو حسرة الظلام والتجربة، فهو الذي حصد الزمن زمنين والمكان عالمين، أميركا اللاتينية أوله، ثم العالم بأسره هو انتشاره حين تنقل بين كل لغات العيش وأنار شيئاً من تراجيديا البشرية وحمولاتها المتعددة منذ الأزل، وحتى وصل تمام القمة الإبداعية أوروبياً وأميركياً وآسيوياً، لتنضج على يديه، ابداعا يولد من رحم الخرافة، ويؤسس ما عرفه النقاد منذ خمسينات القرن الماضي بـ«الواقعية السحرية» في الأدب العالمي وأميركا اللاتينية خصوصاً، ليكون رائداً بما قدمه من مقومات أساسية وملامح تامة في مضمار صار علامة فارقة في تاريخ الأدب العالمي.
صار ماركيز بأعماله التي فاق عددها 20 رواية ومجموعة قصصية، عنوانَ الطبيعة البديلة في اللون والرائحة والتكوين، تلك الطبيعة التي نعرفها في الحكايات، والمقدر لها أن تجتاز أزمنة بالغة الأحوال، فهي بيده أشد حدوثاً وأكثر حضوراً بالفصول مهما تعاقبت الأجيال وابتكرت ذائقتها، وستقول لنا دوماً إن رحيله لم يكن إلاّ كتابة ختامية احتاجت إلى بلوغها إليه أعواماً طويلة بعد روايته الأخيرة «ذاكرة غانياتي الحزينات»، وهذا الرحيل سيكون (حكاية الـ.. ما وراء، والتي سنبدأ الآن قصتها).كما قال سميح القاسم , في مقالته الوداعية لماركيز في الحياة اللندنية.