الأجنحة المتكسرة

د. طارق حامد | مصر

في مجتمع ريفي نشأت صابره في بيت عائلة يتكافل أفرادها ويتكاملون في كسب عيشهم ؛ فأحدهم يباشر زراعة الأرض و آخر يعمل علي معدية أنفار من القرية إلي العزبة عبر النيل فرع رشيد أو البحر كما يطلق عليه أهل القرية و آخر مسافر خارج البلاد و كل فرد من هذه العائلة يسكن هو و زوجته و أولاده في حجرة من حجرات البيت وبالطبع الذي يسافر خارج البلاد يتميز علي سائر إخوانه بالسكن في المقعد وهو غرفة فوق السطح يتنسم فيه الهواء العليل في قيظ الصيف اللاهب، أما الزوجات فيقومون علي خدمة أزواجهن و أبنائهن من إعداد الطعام وجلب الماء العذب من مصدره بالأواني الفخارية الثقيلة (الزلعة) وفي أحيان كثيرة يتناوبن هن و البنات في ذلك و كذلك في إرسال الغذاء إلي الرجال في الغيط أو الحقل .

و حياة كهذه فيها من الغلظة و الشدة علي الأطفال الصغار ما لا يخفي علي أحد فضلا عن اضطهاد البنات من قبل الأب الذي تزوج أرملة أخيه المتوفي و أنجب صابرة منها فكانت صابرة إبنة صابرة.

شبت وترعرت صابرة و صادفها حظ عاثر في التعليم تماما مثل حياتها ، فلم توفق في الثانوية العامة مرتين رغم ذكائها المتقد و كان ذلك بسبب مرض أقرب للنفسي ألم بها وبشق النفس اجتازت هذه المرحلة و تخرجت من الجامعة.

تقدم لخطبتها و الزواج منها صديق أخيها، كان حاصلا علي ماجستير في العلوم الزراعية وأحبها حبا شديد و من جانبها أحبته هي الأخري حبا شديدا و تزوجا برغم عزوفها عن الزواج بسبب المشاكل الأسرية التي عاشتها و تجرعت مرارتها و لكنها أملت أن يعوضها زوجها خيرا عن كل ما لاقته من عنت و ظلم في حياتها و لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن ، فقابلت ظلما من نوع آخر و هو ظلم الحموات و سحرهن ليصرفن زوجها عنها و عن حبها و قد كان ، فبدلا من أن يأخذ لها زوجها شقة في مدينة مرموقة قريبة من عملها في الجامعة التي تقوم بتحضير رسالة الماجستير بها أخذها في مدينة نائية وغير آهلة بالسكان فكانت تتكبد عناء شديدا في المواصلات بين الجامعة حيث مقر عملها و بين شقة زوجها ثم ما لبث زوجها أن استأجر شقة قريبة من عملها و لكن كان هو بعيدا حيث يباشر أرضه التي استبدلها بالبكالوريوس فكانت في وادي النطرون و كان يتغيب عن بيته بالأيام ذوات العدد ويترك زوجته و أولاده فلاقوا من ذلك مشقة وعنتا شديدا و لاقوا من شظف العيش ما لا يتحمله إنسان.

مرت هذه الفترة كأنها دهرا من الزمن ليله طويل و نهاره قاس و مرعب انتهت بفصلها من عملها بتآمر من بعض زملائها الحاقدين و وشايتهم بعد حصولها علي الماجستير بوقت قصير و لما ضحكت لهم الأقدار و فتح الله علي زوجها من أبواب الرزق الوفير اشتري لهم شقة في الأسكندرية و أثثها أيما أثاث لكي يعوض علي زوجته التي ظلمت طيلة حياتها و تحملت ما لا يتحمله بشر فضلا عن أنها أنثي ضعيفة و متكسرة الأجنحة خاصة بعد وفاة أمها الداعم الأساسي لها و صاحبة الفضل في تربيتها و صقل شخصيتها و صبرها و مصابرتها و كذلك لكي يعوض أولاده الصغار عن الفترة السالفة الذكر ، و يا لفاجعة القدر ، في يوم من الأيام انتظرها زوجها علي الطريق الصحراوي القادم من الإسكندرية ليذهبا هما و أولادهما إلي القرية الزراعية التي بها أرض زوجها و هم في السيارة متوجهين إلي القرية و كانت السيارة مسرعة فقد زوجها السيطرة علي المكابح فانقلبت السيارة عدة مرات توفي زوجها في الحال و أصيبت هي و نقلت هي و ولديها إلي مستشفي الطوارئ و كان المصاب الآخر بتر ساقها فكان المصاب مصابين؛ فقدان زوجها عمود خيمة عمرها  و فقدان ساقها عماد حركة حياتها.

لما أفاقت و علمت بمصابيها همست في أذن من حولها …

وتنهدت ثم قالـت

إنهُ إبتـلاء من الله ليرى ما في قلبـي من صبر

فإذا رضيت رضىَ عني .. وقد رَضيت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى