الجمعيات الخيرية وتهافت المسألة
محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري
قد نرى الحديث عن ثقافة الأخذ لزاما ، كما كان كذلك سابقا عن ثقافة العطاء، والذين بعدت الشقة بين مفهومهما الشرعي وبين المتحقق على أرض الواقع، فلئن حدث التجاوز في أسلوب العطاء وما يجب أن يراعيه من حفظ الكرامة ولحمة الوجه، وتكافل المجتمع، والتأكيد على ثقافة العطاء حتى للمتلقي والمستحق؛ فإنه قد حدث هذا التحول في ثقافة السؤال حتى وصل إلى حد (الإسراف)؛ فأخذ من لا يستحق، وسأل من لا تحل له المسألة، واستمرأ صاحب المسألة العارضة حتى صارت عادة، ثم وسما على هيئته وصفته.. واستغل الكثرة بعض الضيق الذي تمر به البلاد أن يسوغ لنفسه المأخذ، ولو كان من غير وجهه المشروع، ولولم يكن هو من أهله أو مستحقيه .. وبذا حدث هذا النأي بين حقيقة ما قصده الشارع من شرعية السؤال، وما آل إليه حال المجتمع المسلم المتعفف.
ولم يكن هذا إلا بتغييب مضمون الثقافة الشرعية، وتغلب الحالة النفسية المستمرأة للسؤال، وعدم وقوف أصحاب العطايا خاصة من الجمعيات الخيرية على حال المستحقين، ومناشدة المتقدمين للأعطيات وتعريفهم بمن تحل له المسألة ، والمدى الذي تحل به سواء الزمني أو المالي .. وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في حديث : قبيصة بن مخارق الهلالي، قَالَ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً فَقَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُهُ فِيهَا فَقَالَ: «أَقِمْ يَا قَبِيصَةُ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا» ثُمَّ قَالَ: ” يَا قَبِيصَةُ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِإِحْدَى ثَلَاثٍ رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَسَأَلَ فِيهَا حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكَ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَسَأَلَ حَتَّى يُصِيبَ سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ – أَوْ قَالَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ – ثُمَّ يُمْسِكَ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ فَقَامَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ فَقَالُوا: قَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ أَوْ حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ فَسَأَلَ حَتَّى يُصِيبَ سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ – أَوْ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ – ثُمَّ يُمْسِكَ وَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسَائِلِ سُحْتًا يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا ” قَالَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا”.
ونلاحظ هنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لقبيصة في إثر كل واحدة (ثم يمسك)، وهذا إمساك للنفس عن التمادي في السؤال نظرا لما يعتريها ــ ربما ــ من سهولة العطية من غير الكسب، فينهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التمادي في ذلك بغير حق، وهو ما نرى تحققه في كثير من المتكالبين على عطايات الجمعيات الخيرية، خاصة في شهر التعفف والإمساك.
إن الفاقة عند الكثير من السائلين ربما تكون عارضة، وما من إنسان إلا وتذهب الدنيا من عنده وتجيء، وما من امرئ إلا وألم به الفقر وأعوزته الحاجة، واضطرته إلى الدين والسؤال ولكن ليس على سبيل العادة ، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم من يتعود أكل هذا (سحتا)، [السحت: ممحوق البركة ، والسحت هو الحرام].
ومن بلايا هذا الانكباب وتوابعه ما لا يدركه الآباء المستمرأون للسؤال نشوء هذا الجيل الجاف ماء وجهه من عادة السؤال، مهزول البدن ضعيف العفة حطيط النفس، غير متسام لمعالي الأمور أو مكارم الكسب الحلال وإثراء المجتع الذي يحيا بين جنباته بعلم أو حرفة أو إضافة من تجارة أو عمل حلال، وقد ألفت نفسه المسالة وقد عوده على إلفها أبواه..
لقد ذكرنا سابقا من سمو التشريع الإسلامي في فرض زكاة الفطر على الفقراء والمساكين، حتى ولو كانوا ممن آل إليهم المال من الزكاة حتى لا تنقطع عن النفس البشرية صفة العطية ، حتى إذا ما حال عليها الزمان ورزقها الله من كسب حلال، وتوقفت عن السؤال حيث توقفت بها الحاجة فإنها تكون معتادة على العطاء والمنح مثل ما كانت تعطي سابقا ومثل ما كانت تأخذ.. إنها تربية سلوكية اجتماعية مبهرة تقف على خفايا النفوس وما يعتريها حال الشدة والفقر، وما يطرأ على ساحتها حال الغنى والبسط، ثم توطن هذه النفس على الإيجابية والمروءة والعفة والصدقة في العسر واليسر.
ومن جميل ما صوره القرآن لهذه الفئة المستعفة المستخفية استحياء من أن يحلقها ذل السؤال، هؤلاء الذي لا يعرفهم إلا المتوسمون، وينكرهم الجهلاء، وقد أمر القرآن بتحري أحوال مثل هؤلاء المتسعفين وإمدادهم بالصدقة “لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ”، وقد أراد القرآن أن يجعل من استعفافهم نموذجا يحتذى ومثالا يقتدى.
كذلك أن يعمد إلى تعليم أولاد الفقراء والمساكين صناعة تكفل لهم كريم العيش، وتكفيهم مرارة السؤال وقهر الرجال كما جاء في حديث عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ الْجَبَلَ، فَيَجِيءَ بِحِزْمَةٍ مِنْ حَطَبٍ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا، فَيَسْتَغْنِيَ بِهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ ” [ص:433] أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مُوسَى، عَنْ وَكِيعٍ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ: ” فَيَتَصَدَّقَ مِنْهُ، وَيَسْتَغْنِيَ بِهِ عَنِ النَّاسِ”.
والخلاصة: أن الإسلام حينما شرع التكافل والتكامل بين الناس لم يشرعه حتى تكون هناك (اليد العليا واليد السفلى) على حال من التأبد، ثم تكون الأولى خيرا من الثانية، ولكن لتكون السفلى آخذة اليوم ومعطية الغد، لا أن تستعذب السؤال وتستملح الأخذ حتى يصير ذلك عادة، ثم يكون جيلا ضعيفا مهزولا متواكلا، ومجتمعا نشأ على نقيصة الأخذ وحب الكنز وشح النفس.
إن انحراف المقصود الشرعي عن مراده فيما شرع لهو تحريف للقول، وتغيير للفطرة التي أرادت أن يكون الناس سواسية أكفاء، لا فضل لبعضهم على بعض إلا بالتقوى، أما أن يتم تصنيف فئات من المجتمع ك الفقراء والمساكين على حال الدوام فهذا مما يخل بقوام المجتمع، وحق الناشئة في الإنبات في كرامة من العيش ولو كانت في حال الفقر حتى يغير الله من حال إلى حال.. “وتلك الأيام نداولها بين الناس”.